الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل

                  واعلم أنه ليس كل أحد من أهل النظر والاستدلال خبيرا بالمنقولات [ ص: 420 ] والتمييز بين صدقها وكذبها ، وصوابها وخطئها ، فضلا عن العامة ، وقد علم من حيث الجملة أن المنقول منه صدق ومنه كذب ، وليس لهم خبرة أهل المعرفة علماء الحديث ، فهؤلاء يحتاجون في الاستدلال على الصدق والكذب إلى طرق أخرى .

                  والله سبحانه الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم ، الذي خلق فسوى ، والذي قدر فهدى ، أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، الذي أخرج الناس من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا ، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة ، يهدي من يشاء من عباده بما تيسر له [1] من الأدلة التي تبين له الحق من الباطل ، والصدق من الكذب .

                  كما في الحديث الصحيح الإلهي : " يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته ، فاستهدوني أهدكم "

                  [2] ولهذا تنوعت الطرق التي بها يعلم الصدق من الكذب حتى في أخبار المخبر عن نفسه بأنه [3] رسول الله ، وهو دعوى النبوة . فالطرق [4] التي يعلم بها صدق الصادق ، وكذب المتنبئ الكذاب كثيرة متنوعة ، كما قد نبهنا عليه [5] في غير هذا الموضع ، وكذلك ما يعلم به صدق المنقول عن الرسول وكذبه يتعدد ويتنوع ، وكذلك ما به يعلم صدق الذين حملوا العلم ، فإن أهل العلم يعلمون صدق مثل مالك ، والثوري ، وشعبة ، ويحيى [ ص: 421 ] بن سعيد ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وأحمد بن حنبل ، والبخاري ، ومسلم ، وأبي داود ، وأمثال هؤلاء علما يقينا ، يجزمون بأنهم لا يتعمدون الكذب في الحديث ، ويعلمون كذب محمد بن سعيد المصلوب ، وأبي البختري القاضي [6] ، وأحمد بن عبد الله الجويباري ، وعتاب بن إبراهيم بن عتاب ، وأبي داود النخعي ، ونحوهم ممن يعلمون أنهم يتعمدون [7] الكذب .

                  وأما الخطأ فلا يعصم من الإقرار عليه إلا نبي ، لكن أهل الحديث يعلمون أن مثل الزهري ، والثوري ، ومالك ، ونحوهم من أقل الناس غلطا في أشياء خفيفة لا تقدح في مقصود الحديث ، ويعرفون رجالا دون هؤلاء يغلطون أحيانا ، والغالب عليهم الحفظ والضبط ، ولهم دلائل يستدلون بها على غلط الغالط .

                  ودون هؤلاء قوم كثير غلطهم ، فهؤلاء لا يحتجون بهم إذا انفردوا ، لكن يعتبرون بحديثهم ويستشهدون به ، بمعنى أنهم ينظرون فيما رووه : هل رواه غيرهم ؟ فإذا تعددت الطرق واللفظ واحد مع العلم بأنهم لم يتواطئوا ، ولا يمكن في العادة اتفاق الخطأ في مثل ذلك كان هذا مما يدلهم على صدق الحديث .

                  ولهذا قال أحمد : أكتب حديث الرجل لأعتبر به ، مثل ابن لهيعة ونحوه ، فإنه كان عالما دينا قاضيا لكن احترقت كتبه فصار يحدث بعد [ ص: 422 ] ذلك بأشياء دخل [8] فيها غلط لكن أكثر ذلك صحيح يوافقه عليها الثقات كالليث وأمثاله .

                  وأهل الحديث يعلمون صدق متون الصحيحين ، ويعلمون كذب الأحاديث الموضوعة التي يجزمون بأنها كذب بأسباب عرفوا بها ذلك ، من شركهم فيها علم ما علموه ، ومن لم يشركهم لم يعلم ذلك ، كما أن الشهود الذين يتحملون الشهادة ، ويؤدونها يعرف من جربهم وخبرهم ( صدق ) صادقهم و ( كذب ) كاذبهم

                  [9] وكذلك أهل المعاملات في البيع والإجارة يعلم من جربهم وخبرهم صادقهم وكاذبهم ، وأمينهم وخائنهم ، وكذلك الأخبار قد يعلم الناس صدق بعضها ، وكذب بعضها ، ويشكون في بعضها .

                  وباب المعرفة بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم ، وأقواله وأفعاله ، وما ذكره من توحيد ، وأمر ونهي ، ووعد ووعيد ، وفضائل لأعمال أو لأقوام [10] ، أو أمكنة أو أزمنة [11] ، ومثالب لمثل ذلك ، أعلم الناس به أهل العلم بحديثه الذين اجتهدوا في معرفة ذلك وطلبه من وجوهه ، وعلموا أحوال نقلة ذلك ، وأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة ، وجمعوا بين رواية هذا وهذا وهذا ، فعلموا صدق الصادق ، وغلط الغالط ، وكذب الكاذب .

                  وهذا علم أقام الله له من حفظ به [12] على الأمة ما حفظ من دينها ، وغير [ ص: 423 ] هؤلاء لهم تبع [13] فيه : إما مستدل بهم ، وإما مقلد لهم . كما أن الاجتهاد في الأحكام أقام الله له رجالا اجتهدوا فيه حتى حفظ الله بهم على الأمة ما حفظ من الدين ، وغيرهم لهم [14] تبع فيه : إما مستدل بهم ، وإما مقلد لهم .

                  مثال ذلك : أن خواص أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أعلم به ممن هو دونهم في الاختصاص مثل أبي بكر وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد ، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وابن مسعود ، وبلال ، وعمار بن ياسر ، وأبي ذر الغفاري ، وسلمان ، وأبي الدرداء ، وأبي أيوب الأنصاري ، وعبادة بن الصامت ، وحذيفة ، وأبي طلحة ، وأمثال هؤلاء من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار : هم أكثر اختصاصا به ممن ليس مثلهم ، لكن قد يكون بعض الصحابة أحفظ وأفقه من غيره ، وإن كان غيره أطول صحبة ، وقد يكون أيضا أخذ عن بعضهم من العلم أكثر مما أخذ عن غيره لطول عمره ، وإن كان غيره أعلم منه ، كما أخذ عن أبي هريرة ، وابن عمر ، وابن عباس ، وعائشة ، وجابر ، وأبي سعيد من الحديث أكثر مما أخذ عمن هو أفضل منهم [15] ، كطلحة ، والزبير ( ونحوهم )

                  [16] وأما الخلفاء الأربعة فلهم في تبليغ كليات الدين ، ونشر أصوله ، وأخذ الناس ذلك عنهم ، ما ليس لغيرهم ، وإن كان يروى عن صغار الصحابة [ ص: 424 ] من الأحاديث المفردة أكثر مما يروى [17] عن بعض الخلفاء ، فالخلفاء لهم عموم التبليغ وقوته التي لم يشركهم فيها غيرهم ، ثم لما قاموا بتبليغ ذلك شاركهم فيه غيرهم ، فصار متواترا كجمع أبي بكر وعمر القرآن في الصحف [18] ، ثم جمع عثمان له في المصاحف التي أرسلها إلى الأمصار ، فكان الاهتمام بجمع القرآن ، وتبليغه أهم مما سواه .

                  وكذلك تبليغ شرائع الإسلام إلى أهل الأمصار ، ومقاتلتهم [19] على ذلك ، واستنابتهم [20] في ذلك الأمراء والعلماء ، وتصديقهم لهم فيما بلغوه عن الرسول ، فبلغ من أقاموه من أهل العلم حتى صار الدين منقولا نقلا عاما متواترا ظاهرا معلوما قامت به الحجة ، ووضحت به المحجة ، وتبين به أن هؤلاء كانوا خلفاءه المهديين الراشدين ، الذين خلفوه في أمته علما وعملا .

                  وهو صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى في حقه : ( والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) ( سورة النجم : 1 - 4 ) فهو ما ضل وما غوى ، وكذلك خلفاؤه الراشدون ، الذين قال فيهم : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ " [21] فإنهم خلفوه في ذلك ، فانتفى عنهم بالهدى الضلال ، وبالرشد الغي .

                  [ ص: 425 ] وهذا هو الكمال في العلم والعمل ، فإن الضلال عدم العلم ، والغي اتباع الهوى ، ولهذا أمرنا الله تعالى أن نقول في صلاتنا : ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) ( سورة الفاتحة : 6 ، 7 ) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اليهود مغضوب عليهم ، والنصارى ضالون " [22] فالمهتدي الراشد الذي هداه الله الصراط المستقيم فلم يكن من أهل الضلال الجهال ، ولا من أهل الغي المغضوب عليهم .

                  والمقصود هنا أن بعض الصحابة أعلم بالرسول من بعض ، وبعضهم أكثر تبليغا لما علمه من بعض ، ثم قد يكون عند المفضول علم قضية معينة لم يعلمها الأفضل فيستفيدها منه ، ولا يوجب ذلك أن يكون هذا أعلم منه مطلقا ، ولا أن هذا الأعلم يتعلم من ذلك المفضول ما امتاز به .

                  ولهذا كان الخلفاء يستفيدون من بعض الصحابة علما لم يكن عندهم ، كما استفاد أبو بكر رضي الله عنه علم ميراث الجدة [23] من محمد بن مسلمة [24] ، والمغيرة بن شعبة [25] واستفاد عمر رضي الله عنه علم دية [ ص: 426 ] الجنين والاستئذان وتوريث المرأة من دية زوجها ، وغير ذلك من غيره ، واستفاد عثمان رضي الله عنه حديث مقام المتوفى عنها في بيتها حتى يبلغ الكتاب أجله من غيره ، واستفاد علي رضي الله عنه حديث صلاة التوبة من غيره .

                  وقد يخفى ذلك العلم عن الفاضل حتى يموت ولم يعلمه ، ويبلغه من هو دونه ، وهذا كثير ليس هذا موضعه لكن المقصود أن نبين طرق العلم ، فالصحابة الذين أخذ الناس عنهم العلم بعد الخلفاء الأربعة : مثل أبي بن كعب ، وابن مسعود ، ومعاذ ( بن جبل ) [26] ، وأبي الدرداء ، وزيد بن ثابت ، وحذيفة ، وعمران بن حصين ، وأبي موسى وسلمان ، وعبد الله بن سلام ، وأمثالهم .

                  وبعد هؤلاء : مثل عائشة ، وابن عباس ، وابن عمر ، وعبد الله بن عمرو [27] ، وأبي سعيد ، وجابر ، وغيرهم .

                  ومن التابعين : مثل الفقهاء وغيرهم ، وسعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، والقاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله ، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وعلي بن الحسين ، وخارجة بن زيد بن ثابت ، وسليمان بن يسار ، ومثل علقمة ، والأسود ، وشريح القاضي ، وعبيدة السلماني ، والحسن البصري ، ومحمد بن سيرين ، وأمثالهم .

                  ثم من بعد هؤلاء مثل الزهري ، وقتادة ، ويحيى بن أبي كثير [ ص: 427 ] ومكحول الشامي ، وأيوب السختياني ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، ويزيد بن أبي حبيب المصري ، وأمثالهم .

                  ثم ( من ) [28] بعد هؤلاء : مثل مالك ، والثوري ، وحماد بن زيد ، وحماد بن سلمة ، والليث ، والأوزاعي ، وشعبة ، وزائدة ، وسفيان بن عيينة ، وأمثالهم .

                  ثم من بعد هؤلاء : مثل يحيى القطان ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وابن المبارك ، وعبد الله بن وهب ، ووكيع بن الجراح ، وإسماعيل بن علية ، وهشيم بن بشير

                  [29] وبعد هؤلاء : البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وأبو زرعة ، وأبو حاتم ، وعثمان بن سعيد الدارمي ، ( وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ) [30] ، ومحمد بن مسلم بن وارة ، وأبو بكر الأثرم ، وإبراهيم الحربي ، وبقي [31] بن مخلد الأندلسي ، ومحمد بن وضاح .

                  [ ص: 428 ] ومثل : أبي عبد الرحمن النسائي ، والترمذي ، وابن خزيمة ، ومحمد بن نصر المروزي ، ومحمد بن جرير الطبري ، وعبد الله بن أحمد بن حنبل ، وعبد الرحمن بن أبي حاتم .

                  ثم ( من ) [32] بعد هؤلاء مثل : أبي حاتم البستي ، وأبي بكر النجاد [33] ، وأبي بكر النيسابوري ، وأبي قاسم الطبراني ، وأبي الشيخ الأصبهاني ، وأبي أحمد العسال الأصبهاني ، وأمثالهم .

                  ثم من بعد هؤلاء : مثل أبي الحسن الدارقطني ، وابن منده ، والحاكم [34] أبي عبد الله ، وعبد الغني بن سعيد ، وأمثال هؤلاء ممن لا يمكن إحصاؤهم .

                  فهؤلاء وأمثالهم أعلم بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيرهم ، وإن [35] كان في هؤلاء من هو أكثر رواية ، وفيهم من هو أكثر منهم معرفة بصحيحه من سقيمه ، ومنهم من هو أفقه فيه من غيره .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية