الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  قال أحمد بن حنبل : معرفة الحديث والفقه فيه أحب إلي من حفظه ، وقال علي بن المديني : أشرف العلم الفقه في متون [1] الأحاديث ، ومعرفة أحوال الرواة ، فإن يحيى بن معين ، وعلي بن المديني ، ونحوهما أعرف بصحيحه وسقيمه [2] من مثل أبي عبيد وأبي ثور ، وأبو عبيد وأبو ثور [ ص: 429 ] ونحوهما أفقه من أولئك ، وأحمد كان يشارك هؤلاء وهؤلاء .

                  وكان أئمة هؤلاء وهؤلاء ممن يحبهم ويحبونه ، كما كان مع الشافعي ، وأبي عبيد ، ونحوهما من أهل الفقه في الحديث ، ومع يحيى بن معين ، وعلي بن المديني ، ونحوهما من أهل المعرفة في الحديث .

                  ومسلم بن الحجاج له عناية بصحيحه أكثر من أبي داود ، وأبو داود له عناية بالفقه أكثر ، والبخاري له عناية بهذا وهذا .

                  وليس المقصود هنا توسعة الكلام في هذا ، بل المقصود أن علماء أهل العلم بالحديث لهم من المعرفة بأحوال الرسول ما ليس لغيرهم فهم أئمة هذا الشأن ، وقد يكون الرجل صادقا كثير الحديث كثير الرواية فيه لكن ليس من أهل العناية بصحيحه وسقيمه ، فهذا يستفاد منه نقله ، فإنه صادق ضابط ، وأما المعرفة بصحيحه وسقيمه فهذا علم آخر ، وقد يكون مع ذلك فقيها مجتهدا ، وقد يكون صالحا من خيار المسلمين ، وليس له كثير معرفة .

                  لكن هؤلاء ، وإن تفاضلوا في العلم ، فلا يروج عليهم من الكذب ما يروج على من لم يكن له علمهم [3] ، فكل من كان بالرسول أعرف كان تمييزه بين الصدق والكذب أتم ، فقد يروج على أهل التفسير ، والفقه ، والزهد ، والنظر أحاديث كثيرة : إما يصدقون بها ، وإما يجوزون بصدقها ، وتكون معلومة الكذب عند علماء الحديث .

                  وقد يصدق بعض هؤلاء بما يكون كذبا عند أهل المعرفة [4] " مثل ما [ ص: 430 ] يروي طائفة من الفقهاء حديث : " لا تفعلي يا حميراء فإنه يورث البرص " ، وحديث : " زكاة الأرض نبتها " ، وحديث : " نهي عن بيع وشرط ، ونهي عن بيع المكاتب والمدبر وأم الولد " ، وحديث : " نهي عن قفيز الطحان " ، وحديث : " لا يجتمع العشر والخراج على مسلم " ، وحديث : ثلاث هن علي فريضة ، وهن لكم تطوع : الوتر ، والنحر ، وركعتا الفجر " ، وحديث : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر يتم ويقصر " ، وحديث : " لا تقطع اليد إلا في عشر دراهم " ، وحديث : " لا مهر دون عشرة دراهم " ، وحديث : " الفرق بين الطلاق والعتاق في الاستثناء " ، وحديث : " أقل الحيض ثلاثة وأكثره عشرة " ، وحديث : " نهى عن البتراء " ، وحديث : " يغسل الثوب من المني والدم " ، وحديث : " الوضوء مما خرج لا مما دخل " ، وحديث : " كان يرفع يديه في ابتداء الصلاة ثم لا يعود " .

                  إلى أمثال [5] ذلك من الأحاديث [6] التي يصدق بعضها طائفة من الفقهاء ، ويبنون عليها الحلال والحرام ، وأهل العلم بالحديث متفقون على أنها كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم موضوعة ( عليه ) [7] ، وكذلك أهل العلم من الفقهاء يعلمون ذلك .

                  وكذلك أحاديث يرويها كثير من النساك ، ويظنها صدقا ، مثل قولهم [8] [ ص: 431 ] " إن عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا " ، ومثل قولهم : " إن قوله تعالى : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) ( سورة الأنعام : 52 ) ، ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) ( سورة الكهف : 28 ) [9] : نزل [10] في أهل الصفة ، ومثل حديث : " غلام المغيرة بن شعبة أحد الأبدال الأربعين " ، وكذلك حديث فيه ذكر الأبدال ، والأقطاب ، والأغواث ، وعدد الأولياء ، وأمثال ذلك مما يعلم أهل العلم بالحديث أنه كذب .

                  وكذلك أمثال [11] . . هذه الأحاديث قد تعلم من غير طريق أهل الحديث ، مثل أن نعلم أن قوله تعالى : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ) ( سورة الأنعام : 52 ) ، ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ) ( سورة الكهف : 28 ) في سورة الأنعام ، وفي سورة الكهف [12] وهما سورتان مكيتان باتفاق الناس ، والصفة إنما كانت بالمدينة

                  [13] ومثل ما يروون في أحاديث المعراج [14] : أنه رأى ربه في صورة كذا .

                  [ ص: 432 ] وأحاديث المعراج التي في الصحاح ليس فيها شيء من أحاديث ذكر الرؤية ، وإنما الرؤية في أحاديث مدنية كانت في المنام كحديث معاذ بن جبل : " أتاني البارحة ربي في أحسن صورة " إلى آخره ، فهذا منام رآه [15] في المدينة ، * وكذلك ما شابهه كلها كانت في المدينة في المنام * [16] ، والمعراج كان بمكة بنص القرآن واتفاق المسلمين .

                  وقد يروج على طائفة من الناس من الحديث ما هو أظهر كذبا من هذا ، مثل تواجد النبي صلى الله عليه وسلم حتى سقطت البردة عنه ، فهذا من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة ، وطائفة يظنون هذا صدقا لما رواهمحمد بن طاهر المقدسي ، فإنه رواه في مسألة السماع ، ورواه أبو حفص السهروردي لكن قال : " يخالج سري أن هذا الحديث ليس دون اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه " ، وهذا الذي ظنه وخالج سره هو يقين عند غيره قد خالط قلبه ، فإن أهل العلم بالحديث متفقون على أن هذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                  وأعظم من هذا ظن طائفة أن أهل الصفة قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه يجوز للأولياء قتال الأنبياء ، إذا كان الغدر عليهم ، وهذا مع أنه من أعظم الكفر والكذب فقد راج على كثير ممن ينتسب إلى الأحوال والمعارف والحقائق ، وهم في الحقيقة لهم أحوال شيطانية ، والشياطين التي تقترن بهم [17] بهم قد تخبرهم ببعض الغائبات ، وتفعل بعض [ ص: 433 ] أغراضهم ، وتقضي ( بعض ) [18] حوائجهم ، ويظن كثير من الناس أنهم بذلك أولياء الله ، وإنما هم من أولياء الشياطين .

                  وكذلك قد يروج على كثير ممن ينتسب [19] إلى السنة أحاديث يظنونها من السنة وهي كذب ، كالأحاديث المروية في فضائل عاشوراء - غير الصوم - وفضل الكحل فيه ، والاغتسال ، والحديث [20] ، والخضاب ، والمصافحة ، وتوسعة النفقة على العيال فيه ، ونحو ذلك ، وليس في عاشوراء [21] حديث صحيح غير الصوم .

                  وكذلك ما يروى في فضل صلوات [22] معينة فيه فهذا كله كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة ، ولم ينقل هذه الأحاديث أحد من أئمة أهل العلم في كتبهم .

                  ولهذا لما [23] سئل الإمام أحمد عن الحديث الذي يروى : " من وسع على أهله يوم عاشوراء " فقال : لا أصل له .

                  وكذلك الأحاديث المروية في فضل رجب بخصوصه ، أو فضل صيامه ، أو صيام شيء منه ، أو فضل صلاة مخصوصة فيه كالرغائب ، كلها كذب مختلق .

                  وكذلك ما يروى في صلاة الأسبوع كصلاة يوم الأحد والاثنين [ ص: 434 ] وغيرهما كذب ، وكذلك ما يروى من الصلاة المقدرة ليلة النصف ، وأول ليلة [24] جمعة من رجب ، أو ليلة سبع وعشرين منه ، ونحو ذلك كلها كذب .

                  وكذلك كل صلاة فيها الأمر بتقدير عدد الآيات أو السور أو التسبيح ، فهي كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث ، إلا صلاة التسبيح ، فإن فيها قولين لهم ، وأظهر القولين أنها كذب ، وإن كان قد اعتقد صدقها طائفة من أهل العلم ، ولهذا لم يأخذها أحد من أئمة المسلمين ، بل أحمد بن حنبل وأئمة الصحابة كرهوها وطعنوا في حديثها ، وأما مالك وأبو حنيفة والشافعي وغيرهم فلم يسمعوها بالكلية ، ومن يستحبها من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما فإنما هو اختيار منهم ، لا نقل عن الأئمة .

                  وأما ابن المبارك فلم يستحب الصفة المذكورة المأثورة التي فيها التسبيح قبل القيام ، بل استحب صفة أخرى توافق المشروع ؛ لئلا تثبت سنة بحديث لا أصل له .

                  وكذلك أيضا في كتب التفسير أشياء منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أهل العلم بالحديث أنها كذب مثل حديث فضائل سور القرآن الذي يذكره الثعلبي ، والواحدي في أول [25] كل سورة ، ويذكره [26] وكذلك الزمخشري في آخر كل سورة .

                  ويعلمون أن أصح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل السور أحاديث : ( قل هو الله أحد ) ، ولهذا رواها أهل الصحيح ، فأفرد [27] [ ص: 435 ] الحفاظ لها مصنفات كالحافظ أبي محمد الخلال وغيره ، ويعلمون أن الأحاديث المأثورة [28] في فضل فاتحة الكتاب ، وآية الكرسي ، وخواتيم البقرة ، والمعوذتين أحاديث صحيحة فلهم فرقان يفرقون به بين الصدق والكذب .

                  وأما ( أحاديث ) [29] سبب النزول فغالبها مرسل ليس بمسند ، ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل : ثلاث علوم لا إسناد لها - وفي لفظ : ليس لها أصل - : التفسير ، والمغازي ، والملاحم ، يعني أن أحاديثها مرسلة .

                  والمراسيل قد تنازع الناس في قبولها وردها ، وأصح الأقوال أن منها المقبول ، ومنها المردود ، ومنها الموقوف ، فمن علم من حاله أنه لا يرسل إلا عن ثقة قبل مرسله ، ومن عرف أنه يرسل عن الثقة وغير الثقة كان إرساله رواية عمن لا يعرف حاله فهذا موقوف ، وما كان من المراسيل مخالفا لما رواه الثقات كان مردودا .

                  وإذا جاء المرسل من وجهين [30] : كل من الراويين [31] أخذ العلم عن شيوخ الآخر [32] ، فهذا مما [33] يدل على صدقه ، فإن مثل ذلك لا يتصور في العادة تماثل الخطأ فيه وتعمد الكذب ، كان هذا مما يعلم أنه صدق ، فإن المخبر إنما يؤتى [34] من جهة ( تعمد الكذب ومن جهة ) [35] [ ص: 436 ] الخطأ ، فإذا كانت القصة مما يعلم أنه لم يتواطأ فيه المخبران ، والعادة [36] تمنع تماثلهما في الكذب عمدا وخطأ ، مثل [37] أن تكون القصة طويلة فيها أقوال كثيرة رواها هذا مثل ما رواها هذا ، فهذا يعلم أنه صدق .

                  وهذا مما يعلم به صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، وموسى عليه السلام ، فإن كلا منهما أخبر عن الله وملائكته وخلقه للعالم [38] وقصة آدم ويوسف وغيرهما من قصص الأنبياء عليهم السلام بمثل ما أخبر به الآخر ، مع العلم بأن واحدا منهما لم يستفد ذلك من الآخر ، وأنه يمتنع في العادة تماثل الخبرين الباطلين في مثل ذلك ، فإن من أخبر بأخبار كثيرة مفصلة دقيقة عن مخبر معين ، لو كان مبطلا في خبره لاختلف خبره ، لامتناع أن مبطلا يختلق ذلك من غير تفاوت ، لا سيما في أمور لا تهتدي العقول إليها ، بل ذلك يبين أن كلا منهما أخبر بعلم وصدق .

                  وهذا مما يعلمه الناس من أحوالهم فلو جاء رجل من بلد إلى آخر [39] وأخبر عن حوادث مفصلة حدثت فيه ، تنتطم أقوالا وأفعالا مختلفة ، وجاء من علمنا أنه لم يواطئه على الكذب فحكى مثل ذلك ، علم قطعا أن الأمر كان كذلك ، فإن الكذب قد يقع في مثل ذلك ، لكن على سبيل المواطأة وتلقي بعضهم عن بعض ، ( كما يتوارث أهل الباطل المقالات الباطلة مثل مقالة النصارى والجهمية والرافضة ونحوهم ، فإنها وإن كان يعلم بضرورة العقل أنها باطلة ، لكنها تلقاها بعضهم عن بعض ، ) [40] [ ص: 437 ] فلما تواطئوا عليها جاز اتفاقهم فيها على الباطل .

                  والجماعة الكثيرون يجوز اتفاقهم على جحد الضروريات على سبيل التواطؤ : إما عمدا للكذب [41] وإما خطأ في الاعتقاد ، وأما اتفاقهم على جحد الضروريات من دون [42] هذا وهذا فممتنع

                  [43]

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية