قال : معرفة الحديث والفقه فيه أحب إلي من حفظه ، وقال أحمد بن حنبل : علي بن المديني [1] الأحاديث ، ومعرفة أحوال الرواة ، فإن أشرف العلم الفقه في متون ، يحيى بن معين ، ونحوهما أعرف بصحيحه وسقيمه وعلي بن المديني [2] من مثل أبي عبيد وأبي ثور ، وأبو عبيد وأبو ثور [ ص: 429 ] ونحوهما أفقه من أولئك ، كان يشارك هؤلاء وهؤلاء . وأحمد
وكان أئمة هؤلاء وهؤلاء ممن يحبهم ويحبونه ، كما كان مع ، الشافعي ، ونحوهما من أهل الفقه في الحديث ، ومع وأبي عبيد ، يحيى بن معين ، ونحوهما من أهل المعرفة في الحديث . وعلي بن المديني
له عناية بصحيحه أكثر من ومسلم بن الحجاج ، أبي داود له عناية بالفقه أكثر ، وأبو داود له عناية بهذا وهذا . والبخاري
وليس المقصود هنا توسعة الكلام في هذا ، بل المقصود أن فهم أئمة هذا الشأن ، وقد يكون الرجل صادقا كثير الحديث كثير الرواية فيه لكن ليس من أهل العناية بصحيحه وسقيمه ، فهذا يستفاد منه نقله ، فإنه صادق ضابط ، وأما المعرفة بصحيحه وسقيمه فهذا علم آخر ، وقد يكون مع ذلك فقيها مجتهدا ، وقد يكون صالحا من خيار المسلمين ، وليس له كثير معرفة . علماء أهل العلم بالحديث لهم من المعرفة بأحوال الرسول ما ليس لغيرهم
لكن هؤلاء ، وإن تفاضلوا في العلم ، فلا يروج عليهم من الكذب ما يروج على من لم يكن له علمهم [3] ، فكل ، فقد يروج على أهل التفسير ، والفقه ، والزهد ، والنظر أحاديث كثيرة : إما يصدقون بها ، وإما يجوزون بصدقها ، وتكون معلومة الكذب عند علماء الحديث . من كان بالرسول أعرف كان تمييزه بين الصدق والكذب أتم
وقد يصدق بعض هؤلاء بما يكون كذبا عند أهل المعرفة [4] " مثل ما [ ص: 430 ] يروي طائفة من الفقهاء حديث : " " ، وحديث : " لا تفعلي يا حميراء فإنه يورث البرص " ، وحديث : " زكاة الأرض نبتها " ، وحديث : " نهي عن بيع وشرط ، ونهي عن بيع المكاتب والمدبر وأم الولد " ، وحديث : " نهي عن قفيز الطحان لا يجتمع العشر والخراج على مسلم " ، وحديث : " ، وحديث : " ثلاث هن علي فريضة ، وهن لكم تطوع : الوتر ، والنحر ، وركعتا الفجر " ، وحديث : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر يتم ويقصر لا تقطع اليد إلا في عشر دراهم " ، وحديث : " " ، وحديث : " لا مهر دون عشرة دراهم " ، وحديث : " الفرق بين الطلاق والعتاق في الاستثناء " ، وحديث : " أقل الحيض ثلاثة وأكثره عشرة نهى عن البتراء " ، وحديث : " يغسل الثوب من المني والدم " ، وحديث : " " ، وحديث : " الوضوء مما خرج لا مما دخل " . كان يرفع يديه في ابتداء الصلاة ثم لا يعود
إلى أمثال [5] ذلك من الأحاديث [6] التي يصدق بعضها طائفة من الفقهاء ، ويبنون عليها الحلال والحرام ، وأهل العلم بالحديث متفقون على أنها كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم موضوعة ( عليه ) [7] ، وكذلك أهل العلم من الفقهاء يعلمون ذلك .
وكذلك أحاديث يرويها كثير من النساك ، ويظنها صدقا ، مثل قولهم [8] [ ص: 431 ] " إن يدخل الجنة حبوا " ، ومثل قولهم : " إن قوله تعالى : ( عبد الرحمن بن عوف ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) ( سورة الأنعام : 52 ) ، ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) ( سورة الكهف : 28 ) [9] : نزل [10] في أهل الصفة ، ومثل حديث : " غلام أحد الأبدال الأربعين المغيرة بن شعبة " ، وكذلك حديث فيه ذكر الأبدال ، والأقطاب ، والأغواث ، وعدد الأولياء ، وأمثال ذلك مما يعلم أهل العلم بالحديث أنه كذب .
وكذلك أمثال [11] . . هذه الأحاديث قد تعلم من غير طريق أهل الحديث ، مثل أن نعلم أن قوله تعالى : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ) ( سورة الأنعام : 52 ) ، ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ) ( سورة الكهف : 28 ) في سورة الأنعام ، وفي سورة الكهف [12] وهما سورتان مكيتان باتفاق الناس ، والصفة إنما كانت بالمدينة
[13] ومثل ما يروون في أحاديث المعراج [14] : أنه رأى ربه في صورة كذا .
[ ص: 432 ] وأحاديث المعراج التي في الصحاح ليس فيها شيء من أحاديث ذكر الرؤية ، وإنما الرؤية في أحاديث مدنية كانت في المنام كحديث : " معاذ بن جبل " إلى آخره ، فهذا منام رآه أتاني البارحة ربي في أحسن صورة [15] في المدينة ، * وكذلك ما شابهه كلها كانت في المدينة في المنام * [16] ، والمعراج كان بمكة بنص القرآن واتفاق المسلمين .
وقد يروج على طائفة من الناس من الحديث ما هو أظهر كذبا من هذا ، مثل تواجد النبي صلى الله عليه وسلم حتى سقطت البردة عنه ، فهذا من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة ، وطائفة يظنون هذا صدقا لما رواهمحمد بن طاهر المقدسي ، فإنه رواه في مسألة السماع ، ورواه أبو حفص السهروردي لكن قال : " يخالج سري أن هذا الحديث ليس دون اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه " ، وهذا الذي ظنه وخالج سره هو يقين عند غيره قد خالط قلبه ، فإن أهل العلم بالحديث متفقون على أن هذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأعظم من هذا ظن طائفة أن أهل الصفة قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه يجوز للأولياء قتال الأنبياء ، إذا كان الغدر عليهم ، وهذا مع أنه من أعظم الكفر والكذب فقد راج على كثير ممن ينتسب إلى الأحوال والمعارف والحقائق ، وهم في الحقيقة لهم أحوال شيطانية ، والشياطين التي تقترن بهم [17] بهم قد تخبرهم ببعض الغائبات ، وتفعل بعض [ ص: 433 ] أغراضهم ، وتقضي ( بعض ) [18] حوائجهم ، ويظن كثير من الناس أنهم بذلك أولياء الله ، وإنما هم من أولياء الشياطين .
[19] إلى السنة أحاديث يظنونها من السنة وهي كذب ، كالأحاديث المروية في فضائل عاشوراء - غير الصوم - وفضل الكحل فيه ، والاغتسال ، والحديث وكذلك قد يروج على كثير ممن ينتسب [20] ، والخضاب ، والمصافحة ، وتوسعة النفقة على العيال فيه ، ونحو ذلك ، وليس في عاشوراء [21] حديث صحيح غير الصوم .
وكذلك ما يروى في فضل صلوات [22] معينة فيه فهذا كله كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة ، ولم ينقل هذه الأحاديث أحد من أئمة أهل العلم في كتبهم .
ولهذا لما [23] سئل عن الحديث الذي يروى : " الإمام أحمد " فقال : لا أصل له . من وسع على أهله يوم عاشوراء
وكذلك الأحاديث المروية في فضل رجب بخصوصه ، أو فضل صيامه ، أو صيام شيء منه ، أو فضل صلاة مخصوصة فيه كالرغائب ، كلها كذب مختلق .
وكذلك ما يروى في صلاة الأسبوع كصلاة يوم الأحد والاثنين [ ص: 434 ] وغيرهما كذب ، وكذلك ما يروى من الصلاة المقدرة ليلة النصف ، وأول ليلة [24] جمعة من رجب ، أو ليلة سبع وعشرين منه ، ونحو ذلك كلها كذب .
وكذلك كل صلاة فيها الأمر بتقدير عدد الآيات أو السور أو التسبيح ، فهي كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث ، إلا صلاة التسبيح ، فإن فيها قولين لهم ، وأظهر القولين أنها كذب ، وإن كان قد اعتقد صدقها طائفة من أهل العلم ، ولهذا لم يأخذها أحد من أئمة المسلمين ، بل وأئمة الصحابة كرهوها وطعنوا في حديثها ، وأما أحمد بن حنبل مالك وأبو حنيفة وغيرهم فلم يسمعوها بالكلية ، ومن يستحبها من أصحاب والشافعي الشافعي وغيرهما فإنما هو اختيار منهم ، لا نقل عن الأئمة . وأحمد
وأما فلم يستحب الصفة المذكورة المأثورة التي فيها التسبيح قبل القيام ، بل استحب صفة أخرى توافق المشروع ؛ لئلا تثبت سنة بحديث لا أصل له . ابن المبارك
وكذلك أيضا في كتب التفسير أشياء منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أهل العلم بالحديث أنها كذب مثل حديث فضائل سور القرآن الذي يذكره ، الثعلبي في أول والواحدي [25] كل سورة ، ويذكره [26] وكذلك في آخر كل سورة . الزمخشري
ويعلمون أن أصح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل السور أحاديث : ( قل هو الله أحد ) ، ولهذا رواها أهل الصحيح ، فأفرد [27] [ ص: 435 ] الحفاظ لها مصنفات كالحافظ أبي محمد الخلال وغيره ، ويعلمون أن الأحاديث المأثورة [28] في فضل فاتحة الكتاب ، وآية الكرسي ، وخواتيم البقرة ، والمعوذتين أحاديث صحيحة فلهم فرقان يفرقون به بين الصدق والكذب .
وأما ( أحاديث ) [29] سبب النزول فغالبها مرسل ليس بمسند ، ولهذا قال : ثلاث علوم لا إسناد لها - وفي لفظ : ليس لها أصل - : التفسير ، والمغازي ، والملاحم ، يعني أن أحاديثها مرسلة . الإمام أحمد بن حنبل
، فمن علم من حاله أنه لا يرسل إلا عن ثقة قبل مرسله ، ومن عرف أنه يرسل عن الثقة وغير الثقة كان إرساله رواية عمن لا يعرف حاله فهذا موقوف ، وما كان من المراسيل مخالفا لما رواه الثقات كان مردودا . والمراسيل قد تنازع الناس في قبولها وردها ، وأصح الأقوال أن منها المقبول ، ومنها المردود ، ومنها الموقوف
وإذا جاء المرسل من وجهين [30] : كل من الراويين [31] أخذ العلم عن شيوخ الآخر [32] ، فهذا مما [33] يدل على صدقه ، فإن مثل ذلك لا يتصور في العادة تماثل الخطأ فيه وتعمد الكذب ، كان هذا مما يعلم أنه صدق ، فإن المخبر إنما يؤتى [34] من جهة ( تعمد الكذب ومن جهة ) [35] [ ص: 436 ] الخطأ ، فإذا كانت القصة مما يعلم أنه لم يتواطأ فيه المخبران ، والعادة [36] تمنع تماثلهما في الكذب عمدا وخطأ ، مثل [37] أن تكون القصة طويلة فيها أقوال كثيرة رواها هذا مثل ما رواها هذا ، فهذا يعلم أنه صدق .
وهذا مما يعلم به صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، وموسى عليه السلام ، فإن كلا منهما أخبر عن الله وملائكته وخلقه للعالم [38] وقصة آدم ويوسف وغيرهما من قصص الأنبياء عليهم السلام بمثل ما أخبر به الآخر ، مع العلم بأن واحدا منهما لم يستفد ذلك من الآخر ، وأنه يمتنع في العادة تماثل الخبرين الباطلين في مثل ذلك ، فإن من أخبر بأخبار كثيرة مفصلة دقيقة عن مخبر معين ، لو كان مبطلا في خبره لاختلف خبره ، لامتناع أن مبطلا يختلق ذلك من غير تفاوت ، لا سيما في أمور لا تهتدي العقول إليها ، بل ذلك يبين أن كلا منهما أخبر بعلم وصدق .
وهذا مما يعلمه الناس من أحوالهم فلو جاء رجل من بلد إلى آخر [39] وأخبر عن حوادث مفصلة حدثت فيه ، تنتطم أقوالا وأفعالا مختلفة ، وجاء من علمنا أنه لم يواطئه على الكذب فحكى مثل ذلك ، علم قطعا أن الأمر كان كذلك ، فإن الكذب قد يقع في مثل ذلك ، لكن على سبيل المواطأة وتلقي بعضهم عن بعض ، ( كما يتوارث أهل الباطل المقالات الباطلة مثل مقالة النصارى والجهمية والرافضة ونحوهم ، فإنها وإن كان يعلم بضرورة العقل أنها باطلة ، لكنها تلقاها بعضهم عن بعض ، ) [40] [ ص: 437 ] فلما تواطئوا عليها جاز اتفاقهم فيها على الباطل .
والجماعة الكثيرون يجوز اتفاقهم على جحد الضروريات على سبيل التواطؤ : إما عمدا للكذب [41] وإما خطأ في الاعتقاد ، وأما اتفاقهم على جحد الضروريات من دون [42] هذا وهذا فممتنع
[43]