الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 449 ] فصل

                  وهنا طرق [1] يمكن سلوكها لمن لم تكن له معرفة بالأخبار من الخاصة ، فإن كثيرا من الخاصة - فضلا عن العامة - يتعذر عليه معرفة التمييز بين الصدق والكذب من جهة الإسناد في أكثر ما يروى من الأخبار في هذا الباب وغيره ، وإنما يعرف ذلك علماء الحديث [2] ، ولهذا عدل كثير من أهل الكلام والنظر عن معرفة الأخبار بالإسناد وأحوال الرجال لعجزهم عنها ، وسلكوا طريقا آخر .

                  ولكن تلك الطريق هي طريقة أهل العلم بالحديث ، العالمين بما بعث الله به رسوله ، ولكن نحن نذكر طريقا آخر ، فنقول : نقدر أن الأخبار المتنازع فيها لم توجد ، أو لم يعلم أيها الصحيح ، ونترك الاستدلال بها في الطرفين ، ونرجع إلى ما هو معلوم بغير ذلك من التواتر ، وما يعلم من العقول [3] والعادات ، وما دلت عليه النصوص المتفق عليها .

                  فنقول : من المعلوم المتواتر عند الخاصة والعامة الذي لم يختلف فيه أهل العلم بالمنقولات ، والسير : أن أبا بكر رضي الله عنه لم يطلب الخلافة لا برغبة ولا برهبة ، لا بذل فيها ما يرغب [4] الناس به ، ولا شهر [ ص: 450 ] عليهم سيفا يرهبهم به ، ولا كانت له قبيلة ولا موال [5] تنصره ، وتقيمه في ذلك ، كما جرت عادة [6] الملوك أن أقاربهم ومواليهم يعاونونهم ، ولا طلبها أيضا بلسانه ، ولا قال : بايعوني ، بل أمر بمبايعة عمر وأبي عبيدة ، ومن تخلف عن بيعته كسعد بن عبادة لم يؤذه ، ولا أكرهه على المبايعة ، ولا منعه حقا له ، ولا حرك عليهم ساكنا ، وهذا [7] غاية في عدم إكراه الناس على المبايعة .

                  ثم إن المسلمين بايعوه ودخلوا في طاعته ، والذين بايعوه هم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وهم أهل الإيمان والهجرة والجهاد ، ولم يتخلف عن بيعته إلا سعد بن عبادة .

                  وأما علي وسائر بني هاشم فلا خلاف بين الناس أنهم بايعوه [8] ، لكن تخلف فإنه [9] كان يريد الإمرة [10] لنفسه رضي الله عنهم أجمعين ، ثم إنه في مدة ولايته قاتل بهم المرتدين والمشركين ، لم [11] يقاتل [ ص: 451 ] مسلمين ، بل أعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل الردة ، وأخذ يزيد الإسلام فتوحا ، وشرع في قتال فارس والروم ، ومات والمسلمون محاصرو دمشق ، وخرج منها أزهد [12] مما دخل فيها : لم يستأثر عنهم [13] بشيء ، ولا أمر له قرابة .

                  ثم ولي عليهم عمر بن الخطاب ففتح الأمصار ، وقهر الكفار ، وأعز أهل الإيمان ، وأذل أهل النفاق والعدوان ، ونشر الإسلام والدين ، وبسط العدل في العالمين ، ووضع ديوان الخراج والعطاء لأهل الدين ، ومصر الأمصار للمسلمين ، وخرج منها أزهد [14] مما دخل فيها ، لم يتلوث لهم بمال ، ولا ولى أحدا من أقاربه ولاية ، فهذا أمر يعرفه كل أحد .

                  وأما عثمان فإنه بنى على أمر قد استقر قبله بسكينة وحلم [15] ، وهدى ورحمة وكرم ، ولم يكن فيه قوة عمر ولا سياسته ، ولا فيه كمال عدله وزهده ، فطمع فيه بعض الطمع ، وتوسعوا في الدنيا ، ( وأدخل من أقاربه في الولاية والمال ) [16] ، ودخلت [17] بسبب أقاربه في الولايات والأموال [18] أمور أنكرت عليه ، فتولد من رغبة [19] ( بعض ) [20] الناس في الدنيا ، وضعف [ ص: 452 ] خوفهم من الله ومنه ، ومن ضعفه هو ، وما حصل من أقاربه في الولاية والمال - ما أوجب الفتنة حتى قتل مظلوما شهيدا .

                  وتولى [21] علي على إثر ذلك ، والفتنة قائمة ، وهو عند كثير منهم متلطخ [22] بدم عثمان ، والله يعلم براءته مما نسبه إليه [23] الكاذبون عليه المبغضون له ، كما نعلم براءته مما نسبه إليه [24] الغالون فيه المبغضون لغيره من الصحابة ، فإن عليا لم يعن على [25] قتل عثمان ولا رضي به ، كما ثبت عنه - وهو الصادق - أنه قال ذلك ، فلم تصف له قلوب كثير منهم ، ولا أمكنه هو قهرهم حتى يطيعوه ، ولا اقتضى رأيه أن يكف عن القتال حتى ينظر ما يئول إليه الأمر ، بل اقتضى رأيه القتال ، وظن أنه به تحصل الطاعة والجماعة ، فما زاد الأمر إلا شدة ، وجانبه إلا ضعفا ، وجانب من حاربه إلا قوة ، والأمة إلا افتراقا ، حتى كان في آخر أمره يطلب هو [26] أن يكف عنه من قاتله ، كما كان في أول الأمر يطلب منه الكف .

                  وضعفت خلافة ( النبوة ) [27] ضعفا أوجب أن تصير ملكا ، فأقامها معاوية ملكا برحمة وحلم ، كما في الحديث المأثور [28] : " تكون نبوة ورحمة ، ثم [ ص: 453 ] تكون خلافة نبوة ورحمة ، ثم يكون ملك ورحمة [29] ، ثم يكون ملك " [30] .

                  ولم يتول أحد من الملوك خيرا من معاوية فهو خير ملوك الإسلام ، وسيرته خير من سيرة سائر الملوك بعده ، وعلي آخر الخلفاء الراشدين الذين هم [31] ولايتهم خلافة نبوة ورحمة ، وكل من الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم يشهد له بأنه من [32] أفضل أولياء الله المتقين ، [33] بل هؤلاء الأربعة أفضل خلق الله بعد النبيين [34] ، لكن إذا جاء القادح فقال في أبي بكر وعمر : إنهما كانا ظالمين متعديين [35] طالبين للرئاسة مانعين للحقوق ، ( وإنهما كانا من أحرص الناس على الرئاسة ) [36] ، وإنهما - ومن أعانهما - ظلموا الخليفة المستحق المنصوص عليه من جهة الرسول ، وإنهم منعوا أهل البيت ميراثهم ، وإنهما كانا من أحرص الناس على الرئاسة والولاية [ ص: 454 ] الباطلة مع ما قد عرف من سيرتهما [37] - كان من المعلوم أن هذا الظن لو كان حقا فهو أولى بمن قاتل عليها [38] حتى غلب ، وسفكت الدماء بسبب المنازعة التي بينه وبين منازعه ، ولم يحصل بالقتال لا مصلحة الدين ولا مصلحة الدنيا ، ولا قوتل في خلافته كافر ، ولا فرح مسلم ، فإن عليا لا يفرح بالفتنة بين المسلمين ، وشيعته لم تفرح بها ; لأنها لم تغلب ، والذين قاتلوه لم يزالوا أيضا في كرب وشدة .

                  وإذا كنا ندفع من يقدح في علي من الخوارج ، مع ظهور هذه الشبهة ، فلأن ندفع من يقدح في أبي بكر وعمر بطريق الأولى والأحرى .

                  وإن جاز أن يظن بأبي بكر أنه كان قاصدا للرئاسة [39] بالباطل مع أنه لم يعرف منه إلا ضد ذلك ، فالظن بمن قاتل على الولاية - ولم يحصل له مقصوده - أولى وأحرى .

                  فإذا ضرب مثل هذا وهذا بإمامي مسجد ، وشيخي مكان [40] ، أو مدرسي مدرسة - كانت العقول كلها تقول : إن هذا أبعد عن طلب الرئاسة ، وأقرب إلى قصد الدين والخير .

                  فإذا كنا نظن بعلي أنه كان قاصدا للحق والدين ، وغير مريد علوا في الأرض ولا فسادا ، فظن ذلك بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما أولى وأحرى .

                  [ ص: 455 ] وإن ظن ظان بأبي بكر أنه كان يريد العلو في الأرض والفساد ، فهذا الظن بعلي أجدر وأولى .

                  أما أن يقال : إن أبا بكر كان يريد العلو في الأرض والفساد ، وعلي لم يكن يريد علوا في الأرض ولا فسادا ، مع ظهور السيرتين - فهذا مكابرة ، وليس فيما تواتر من السيرتين ما يدل على ذلك ، بل المتواتر من السيرتين يدل على أن سيرة أبي بكر أفضل .

                  ولهذا كان الذين ادعوا هذا لعلي أحالوا على ما لم يعرف ، وقالوا : ثم نص على خلافته كتم ، وثم [41] عداوة باطنة لم تظهر ، بسببها منع حقه .

                  ونحن الآن مقصودنا أن نذكر ما علم وتيقن وتواتر عند العامة والخاصة ، وأما ما يذكر [42] من منقول يدفعه جمهور الناس ، ومن ظنون سوء لا يقوم عليها دليل بل نعلم فسادها ، فالمحتج بذلك ممن يتبع الظن وما تهوى الأنفس ، وهو من جنس الكفار وأهل الباطل ، وهي مقابلة بالأحاديث من الطرق الأخر .

                  ونحن لم نحتج بالأخبار التي رويت من الطرفين ، فكيف بالظن الذي لا يغني من الحق شيئا ؟ !

                  فالمعلوم المتيقن المتواتر عند العام والخاص أن أبا بكر كان أبعد عن إرادة العلو والفساد من عمر وعثمان وعلي ، فضلا عن علي وحده ، [43] وأنه كان أولى [44] بإرادة وجه الله تعالى وصلاح [45] المسلمين من الثلاثة [ ص: 456 ] بعده ، فضلا عن علي ، وأنه كان أكمل عقلا ودينا وسياسة من الثلاثة ، وأن [46] ولايته الأمة [47] خير من ولاية علي ، وأن منفعته للمسلمين في دينهم ودنياهم أعظم من منفعة علي ، رضي الله عنهم ( أجمعين ) [48] .

                  وإذا كنا نعتقد أنه كان مجتهدا مريدا وجه الله بما فعل [49] ، وأن ما تركه من المصلحة كان عاجزا عنه ، وما حصل من المفسدة كان عاجزا عن دفعه ، وأنه لم يكن مريدا للعلو في الأرض ولا الفساد - كان هذا الاعتقاد بأبي بكر وعمر أولى وأخلق وأحرى [50] .

                  فهذا وجه لا يقدر أحد أن يعارضه إلا بما يظن أنه نقل خاص ، كالنقل لفضائل علي ، ولما يقتضي أنه أولى بالإمامة ، أو أن إمامته منصوص عليها ، وحينئذ فيعارض هذا بنقل الخاصة - الذين هم أصدق وأكثر - لفضائل الصديق التي تقتضي أنه أولى بالإمامة ، وأن النصوص إنما دلت عليه .

                  فما من حجة يسلكها الشيعي إلا وبإزائها للسني حجة من جنسها أولى منها ، فإن السنة في الإسلام كالإسلام في الملل ، فما من حجة يسلكها كتابي إلا وللمسلم فيها ما هو أحق بالاتباع منها .

                  قال تعالى : ( ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ) ( سورة الفرقان : 33 ) [ ص: 457 ] لكن صاحب الهوى الذي له غرض في جهة ، إذا وجه له المخالف لهواه ثقل عليه سمعه واتباعه .

                  قال تعالى : ( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ) ( سورة " المؤمنون " : 71 ) .

                  وهنا طريق آخر ، وهو أن يقال : دواعي المسلمين بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم كانت متوجهة إلى اتباع الحق ، وليس لهم ما يصرفهم عنه ، وهم قادرون على ذلك ، فإذا [51] حصل الداعي إلى الحق ، وانتفى الصارف مع القدرة ، وجب الفعل .

                  فعلم أن المسلمين اتبعوا فيما فعلوه الحق ، وذلك أنهم [52] خير الأمم ، وقد أكمل الله لهم الدين ، وأتم عليهم النعمة ، ولم يكن عند الصديق غرض دنيوي يقدمونه لأجله ، ولا عند علي غرض دنيوي يؤخرونه لأجله ، بل لو فعلوا بموجب الطبع لقدموا عليا ، وكانت الأنصار لو اتبعت الهوى أن تتبع رجلا من بني هاشم أحب إليها من أن تتبع رجلا من بني تيم ، وكذلك عامة قبائل قريش لا سيما بنو عبد مناف ، وبنو مخزوم ، فإن طاعتهم لمنافي كانت أحب إليهم من طاعة تيمي لو اتبعوا الهوى ، وكان أبو سفيان بن حرب وأمثاله يختارون تقديم علي .

                  وقد روي أن أبا سفيان طلب من علي أن يتولى لأجل القرابة التي بينهما ، وقد قال أبو قحافة ، لما قيل له : إن ابنك تولى ، قال : " أورضيت بذلك بنو عبد مناف ، وبنو مخزوم ؟ " قالوا : نعم ، فعجب من ذلك ، لعلمه [ ص: 458 ] بأن بني تيم كانوا من أضعف القبائل ، وأن أشراف قريش كانت من تينك القبيلتين .

                  وهذا ، وأمثاله مما ( إذا ) [53] تدبره العاقل علم أنهم لم يقدموا أبا بكر إلا لتقديم الله ورسوله ; لأنه كان خيرهم وسيدهم وأحبهم إلى الله ورسوله ، فإن الإسلام إنما يقدم بالتقوى لا بالنسب ، وأبو بكر كان أتقاهم .

                  وهنا طريق آخر ، وهو أنه تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن خير هذه الأمة القرن الأول ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، [54] ثم الذين يلونهم [55] ، وهذه الأمة هي خير الأمم ، كما دل عليها الكتاب والسنة .

                  وأيضا فإنه [56] من تأمل أحوال المسلمين في خلافة بني أمية ، فضلا عن زمن الخلفاء الراشدين ، علم أن أهل ذلك الزمان كانوا خيرا وأفضل من أهل هذا الزمان ، وأن [57] الإسلام كان في زمنهم أقوى وأظهر ، فإن كان القرن الأول قد جحدوا حق الإمام المنصوص عليه المولى عليهم ، ومنعوا أهل بيت نبيهم ميراثهم ، وولوا فاسقا وظالما ، ومنعوا عادلا عالما ، مع علمهم بالحق ، فهؤلاء من شر الخلق ، وهذه الأمة شر الأمم ; لأن هذا فعل خيارها ، فكيف بفعل شرارها ؟ ! .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية