الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وهنا طريق آخر ، وهو أنه قد عرف بالتواتر الذي لا يخفى على العامة والخاصة ، أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كان لهم بالنبي صلى [ ص: 459 ] الله عليه وسلم اختصاص عظيم ، وكانوا من أعظم الناس اختصاصا به ، وصحبة له ، وقربا إليه ، واتصالا به ، وقد صاهرهم كلهم ، وما عرف عنه أنه كان يذمهم ، ولا يلعنهم ، بل المعروف عنه أنه كان يحبهم ويثني عليهم .

                  وحينئذ فإما أن يكونوا على الاستقامة ظاهرا وباطنا ، في حياته وبعد موته ، وإما أن يكونوا بخلاف ذلك في حياته أو بعد موته ، فإن كانوا على غير الاستقامة مع هذا التقرب ، فأحد الأمرين لازم : إما عدم علمه بأحوالهم ، أو مداهنته لهم ، وأيهما كان فهو أعظم القدح في الرسول صلى الله عليه وسلم كما قيل :

                  فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

                  وإن كانوا انحرفوا بعد الاستقامة فهذا خذلان من الله للرسول في خواص أمته ، وأكابر أصحابه ، ومن قد أخبر بما سيكون بعد ذلك ، أين كان عن علم ذلك ؟ وأين الاحتياط للأمة حتى لا يولى مثل هذا أمرها ، ومن وعد أن يظهر دينه على الدين كله ، فكيف يكون أكابر خواصه مرتدين ؟

                  فهذا ونحوه من أعظم ما يقدح به الرافضة في الرسول ، كما قال مالك وغيره : إنما أراد هؤلاء الرافضة الطعن في الرسول ليقول القائل : رجل سوء كان له أصحاب سوء ، ولو كان رجلا صالحا لكان أصحابه صالحين .

                  ولهذا قال أهل العلم : إن الرافضة دسيسة الزندقة ، وإنه وضع عليها . وطريق آخر أن يقال : الأسباب الموجبة لعلي - إن كان هو المستحق - [ ص: 460 ] قوية [1] ، والصوارف منتفية ، والقدرة حاصلة . ومع وجود الداعي ، والقدرة وانتفاء الصارف يجب الفعل ، وذلك أن عليا هو [2] ابن عم نبيهم ، ومن أفضلهم نسبا ، ولم يكن بينه وبين أحد عداوة : لا عداوة نسب ، ولا إسلام ، بأن يقول القائل : قتل أقاربهم في الجاهلية .

                  وهذا المعنى [3] منتف في الأنصار ، فإنهم لم يقتل أحدا من أقاربهم ، ولهم الشوكة ، ولم يقتل من بني تيم ، ولا عدي ، ولا كثير من القبائل [4] أحدا ، والقبائل [5] التي قتل منها كبني عبد مناف ، كانت تواليه ، وتختار ولايته [6] ; لأنه إليها أقرب ، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نص على ولايته [7] ، أو كان [8] هو الأفضل المستحق لها لم يكن هذا مما يخفى عليهم ، وعلمهم بذلك يوجب انبعاث إرادتهم إلى ولايته إذا لم يكن هناك صارف يمنع ، والأسباب كانت مساعدة لهذا الداعي ، ولا معارض لها ، ولا صارف أصلا .

                  ولو قدر أن الصارف كان في نفر قليل فجمهور المسلمين لم يكن لهم فيها صارف يصرفهم عنه ، بل هم قادرون على ولايته ، ولو قالت الأنصار : علي أحق بها من سعد ومن أبي بكر - ( ما ) [9] أمكن أولئك [ ص: 461 ] النفر من المهاجرين أن يدافعوهم ، وقام أكثر الناس مع علي ، لا سيما وكان جمهور الذين في قلوبهم مرض يبغضون عمر لشدته عليهم ، وبغض الكفار والمنافقين لعمر أعظم من بغضهم لعلي بما لا نسبة بينهما ، بل لم [10] يعرف أن عليا كان يبغضه الكفار والمنافقون إلا [11] كما يبغضون أمثاله ، بخلاف عمر فإنه كان شديدا عليهم ، وكان من القياس أن ينفروا عن جهة فيها عمر .

                  ولهذا لما استخلفه أبو بكر كره خلافته طائفة ، حتى قال طلحة : ماذا تقول لربك إذا وليت علينا فظا غليظا ؟ فقال : أبالله تخوفني ؟ أقول : وليت عليهم خير أهلك .

                  فإذا كان أهل الحق مع علي ، وأهل الباطل مع علي ، فمن الذي يغلبه إذا كان الحق معه ؟ وهب أنهم إذا قاموا لم يغلبوا ، أما كانت الدواعي المعروفة في مثل ذلك توجب أن يجري في ذلك قيل وقال ونوع من الجدال ؟ أوليس ذلك أولى بالكلام فيه من الكلام في ولاية سعد ؟ فإذا كانت الأنصار بشبهة [12] لا أصل لها طمعوا أن يتأمر سعد ، فمن يكون فيهم المحق [13] ؟

                  ونص الرسول الجلي كيف لا يكون أعوانه أطمع في الحق ، فإذا كان لم ينبز [14] متكلم منهم [15] بكلمة واحدة في ذلك ، ولم يدع داع إلى علي : [ ص: 462 ] لا هو ولا غيره ، واستمر الأمر على ذلك إلى أن بويع له بعد مقتل عثمان ، فحينئذ قام هو وأعوانه فطلبوا وقاتلوا ولم يسكتوا ، حتى كادوا يغلبوا [16] - علم بالاضطرار أن سكوتهم أولا كان لعدم المقتضى لا لوجود المانع ، وأن القوم لم يكن عندهم علم بأن عليا هو [17] الأحق فضلا عن نص جلي ، وأنه [18] لما بدا لهم استحقاقه قاموا معه ، مع وجود المانع .

                  وقد كان أبو بكر رضي الله عنه أبعدهم عن الممانعة من معاوية بكثير كثير ، لو كان لعلي حق ، فإن أبا بكر لم يدع إلى نفسه ، ولا أرغب ولا أرهب ، ولا [19] كان طالبا للرئاسة بوجه من الوجوه ، ولا كان في أول الأمر يمكن أحدا القدح في علي ، كما أمكن ذلك بعد مقتل عثمان ، فإنه حينئذ نسبه كثير من شيعة عثمان إلى أنه أعان على قتله ، وبعضهم يقول : خذله ، وكان قتلة عثمان في عسكره ، وكان هذا من الأمور التي منعت كثيرا من مبايعته .

                  وهذه الصوارف كانت منتفية في أول الأمر ، فكان جنده أعظم ، وحقه إذ ذاك - لو كان مستحقا - أظهر ، ومنازعوه أضعف داعيا وأضعف قوة ، وليس هناك داع قوي يدعو إلى منعه [20] ، كما كان بعد مقتل عثمان ، ولا جند [21] يجمع على مقاتلته [22] ، كما كان بعد مقتل عثمان .

                  [ ص: 463 ] وهذه الأمور وأمثالها من تأملها تبين له انتفاء استحقاقه إذ ذاك بيانا لا يمكنه دفعه عن نفسه ، فلو تبين أن الحق لعلي ، وطلبه [23] علي لكان أبو بكر : إما أن يسلم إليه ، وإما أن يجامله ، وإما أن يعتذر إليه ، ولو قام [24] أبو بكر وهو ظالم يدافع عليا وهو محق ، لكانت الشريعة والعادة والعقل توجب أن يكون الناس مع علي المحق المعصوم على أبي بكر المعتدي الظلوم ، لو كان الأمر كذلك ، لا سيما والنفوس تنفر عن مبايعة من ليس من بيت الولاية أعظم من نفرتها عن مبايعة أهل بيت المطاع [25] ، فالدواعي لعلي من كل وجه كانت أعظم وأكثر ، لو كان أحق ، وهي عن أبي بكر من كل وجه كانت أبعد لو كان ظالما .

                  لكن لما كان المقتضى مع أبي بكر - وهو دين الله - قويا ، والإسلام في جدته [26] وطراوته [27] وإقباله ، كان أتقى لله ألا [28] يصرفوا الحق عمن يعلمون أنه الأحق إلى غيره ، ولو ( كان ) [29] لبعضهم هوى مع الغير .

                  وأما أبو بكر فلم يكن لأحد معه هوى إلا هوى الدين ، الذي يحبه الله ويرضاه .

                  فهذه الأمور وأمثالها من تدبرها علم بالاضطرار أن القوم علموا أن أبا بكر هو الأحق بخلافة النبوة ، وأن ولايته أرضى لله [30] ورسوله فبايعوه ، [ ص: 464 ] وإن لم يكن ذلك لزم أن يعرفوا ويحرفوا ، وكلاهما ممتنع عادة ودينا ، والأسباب متعددة ، فهذا المعلوم اليقيني لا يندفع بأخبار لا يعلم صحتها ، فكيف إذا علم كذبها ؟ وألفاظ لا تعلم دلالتها ، فكيف إذا علم انتفاء دلالتها ؟ ومقاييس لا نظام لها ، يعارضها من المعقول والمنقول الثابت الإسناد المعلوم المدلول ما هو أقوى وأولى بالحق ، وأحرى .

                  وهؤلاء الرافضة الذين يدفعون [31] الحق المعلوم [32] يقينا بطرق كثيرة علما لا يقبل النقيض بشبه في غاية الضعف ، هم من أعظم الطوائف الذين في قلوبهم الزيغ[33] ، الذين يتبعون المتشابه ويدعون المحكم ، كالنصارى ، والجهمية ، وأمثالهم من أهل البدع والأهواء الذين يدعون النصوص الصحيحة التي توجب العلم ، ويعارضونها بشبه لا تفيد إلا الشك، لو تعرض [34] لم تثبت ، وهذا في المنقولات سفسطة كالسفسطة في العقليات ، وهو القدح فيما علم بالحس والعقل بشبه تعارض ذلك ، فمن أراد أن يدفع العلم اليقيني [35] المستقر في القلوب بالشبه فقد سلك مسلك السفسطة ، فإن السفسطة أنواع : أحدها : النفي والجحد والتكذيب : إما بالوجود ، وإما بالعلم به .

                  والثاني : الشك والريب ، وهذه طريقة اللاأدرية الذين يقولون : لا ندري ، فلا يثبتون ولا ينفون ، لكنهم في الحقيقة قد نفوا العلم ، وهو نوع [ ص: 465 ] من النفي فعادت السفسطة إلى جحد الحق [36] المعلوم ، أو جحد العلم به .

                  الثالث : قول من يجعل الحقائق تبعا للعقائد ، فيقول : من اعتقد العالم قديما فهو قديم ، ومن اعتقده محدثا فهو محدث ، وإذا أريد بذلك [37] أنه قديم عنده ومحدث عنده [38] فهذا صحيح ، فإن هذا هو اعتقاده .

                  لكن السفسطة أن يراد أنه كذلك [39] في الخارج .

                  وإذا كان كذلك فالقدح فيما علم من أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم مع الخلفاء الثلاثة ، وما علم من سيرتهم بعده بأخبار يرويها الرافضة يكذبهم فيها جماهير الأمة [40] من أعظم السفسطة ، ومن روى لمعاوية وأصحابه من الفضائل ما يوجب تقديمه على علي وأصحابه كان كاذبا مبطلا مسفسطا .

                  ومع هذا فكذب الرافضة الذين [41] يروون [42] ما يقدح في إيمان الخلفاء الثلاثة ، ويوجب عصمة علي ، أعظم من كذب من يروي ما يفضل به معاوية على علي ، وسفسطتهم أكثر ، فإن ظهور إيمان الثلاثة أعظم من ظهور فضل علي على معاوية من وجوه كثيرة ، وإثبات عصمة علي أبعد عن الحق من إثبات فضل معاوية .

                  [ ص: 466 ] ثم خلافة أبي بكر وعمر هي من كمال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته ، ومما يظهر أنه رسول حق ، ليس ملكا من الملوك ، فإن عادة الملوك إيثار أقاربهم * بالولايات لوجوه : أحدها : محبتهم لأقاربهم أكثر من الأجانب ، لما في الطباع من ميل الإنسان إلى قرابته ، والثاني : لأن أقاربهم يريدون إقامة ملكهم ما لا يريده الأجنبي ; لأن في عز قريب الإنسان عزا لنفسه ، ومن لم يكن له أقارب من الملوك استعان بممالكه ومواليه فقربهم واستعان بهم ، وهذا موجود في ملوك المسلمين والكفار .

                  ولهذا لما كان ( ملوك ) [43] بنو أمية ، وبنو العباس ملوكا ، كانوا يريدون أقاربهم * [44] ، ومواليهم [45] بالولايات أكثر من غيرهم ، وكان ذلك مما يقيمون به ملكهم .

                  وكذلك ملوك الطوائف كبني بويه ، وبني سلجق ، وسائر الملوك بالشرق والغرب ، والشام واليمن ، وغير ذلك .

                  وهكذا ملوك الكفار من أهل الكتاب والمشركين ، كما يوجد في ملوك الفرنج وغيرهم ، وكما يوجد في آل جنكشخان بأن الملوك تبقى في أقارب الملك ، ويقولون : هذا من العظم ، وهذا ليس من العظم ، أي : من أقارب الملك .

                  وإذا كان كذلك فتولية أبي بكر وعمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم دون عمه العباس ، وبني عمه : علي ، وعقيل ، وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، [ ص: 467 ] وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وغيرهم ، ودون سائر بني عبد مناف كعثمان بن عفان ، وخالد بن سعيد بن العاص ، وأبان بن سعيد بن العاص ، وغيرهم من بني عبد مناف الذين كانوا أجل قريش قدرا ، وأقرب نسبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم الأدلة على أن محمدا عبد الله ورسوله ، وأنه ليس ملكا حيث لم يقدم في خلافته أحدا لا بقرب نسب منه ولا بشرف بيته ، بل إنما قدم بالإيمان والتقوى .

                  ودل ذلك على أن محمدا صلى الله عليه وسلم ، وأمته من بعده إنما يعبدون الله ، ويطيعون أمره ، لا يريدون ما يريده غيرهم من العلو في الأرض ، ولا يريدون أيضا ما أبيح لبعض الأنبياء من الملك ، فإن [46] الله خير محمدا بين أن يكون عبدا رسولا ، وبين أن يكون ملكا نبيا [47] فاختار أن يكون عبدا رسولا .

                  وتولية أبي بكر وعمر بعده من تمام ذلك ، فإنه لو قدم [48] أحدا من أهل بيته لكانت شبهة لمن يظن * أنه كان ملكا ، كما أنه لو ورث مالا لورثته لكانت شبهة لمن يظن * [49] أنه جمع المال لورثته ، فلما [50] لم يستخلف أحدا من أهل بيته ولا خلف لهم مالا ، كان هذا مما يبين أنه كان من أبعد الناس عن طلب الرياسة والمال ، وإن كان ذلك مباحا ، وأنه لم يكن من الملوك الأنبياء ، بل كان عبد الله ورسوله ، [ ص: 468 ] كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " إني والله لا أعطي أحدا ولا أمنع أحدا ، وإنما أنا قاسم [51] أضع حيث أمرت " [52] .

                  وقال : " إن ربي خيرني بين أن أكون عبدا رسولا أو نبيا ملكا ، فقلت : بل عبدا رسولا " [53] .

                  وإذا كان هذا مما دل على تنزيهه عن كونه من ملوك الأنبياء ، فدلالة ذلك على نبوته ونزاهته عن الكذب والظلم أعظم وأعظم ، ولو تولى بعده علي أو واحد من أهل بيته لم تحصل هذه المصالح ، والإلطافات [54] العظيمة .

                  وأيضا فإنه من المعلوم أن الإسلام في زمن علي كان أظهر وأكثر [55] مما كان في خلافة أبي بكر وعمر ، وكان الذين قاتلهم علي أبعد عن الكفر من [ ص: 469 ] الذين قاتلهم أبو بكر وعمر ، فإن أبا بكر قاتل المرتدين وأهل الكتاب ، مع ما حصل للمسلمين بموت النبي صلى الله عليه وسلم من الضعف العظيم ، وما حصل من الارتداد لأكثر البوادي ، وضعف قلوب أهل الأمصار ، وشك كثيرهم [56] في جهاد مانعي الزكاة وغيرهم .

                  ثم عمر تولى قتال أمتين عظيمتين ، لم يكن في العادة المعروفة أن أهل الحجاز واليمن يقهرونهم ، وهما فارس والروم ، فقهرهم ، وفتح بلادهم ، وتمم عثمان ما تمم من فتح المشرق والمغرب ، ثم فتح بعد ذلك في خلافة بني أمية ما فتح بالمشرق [57] والمغرب ، كما وراء النهر والأندلس وغيرهما ، مما فتح في خلافة عبد الملك .

                  فمعلوم أنه لو تولى غير أبي بكر وعمر بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، مثل علي أو عثمان ، لم يمكنه أن يفعل ما فعلا ، فإن عثمان لم يفعل ما فعلا مع قوة الإسلام في زمانه ، وعلي كان أعجز من عثمان ، وكان أعوانه أكثر من أعوانهما ، وعدوه أقل وأقرب إلى الإسلام من عدوهما ، ومع هذا فلم يقهر عدوه ، فكيف كان يمكنه قهر المرتدين ، وقهر فارس والروم مع قلة الأعوان ، وقوة العدو .

                  وهذا مما يبين فضل أبي بكر وعمر ، وتمام نعمة الله بهما على محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى الناس بعده [58] ، وأن [59] من أعظم نعم [60] الله تولية [ ص: 470 ] أبي بكر وعمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه لو تولى غيرهما كان لم يفعل ما فعلا ، إما لعدم القدرة ، وإما لعدم الإرادة .

                  فإنه إذا قيل : لم لم يغلب علي معاوية وأصحابه ؟ فلا بد أن يكون سبب ذلك : إما عدم كمال القدرة ، وإما عدم كمال الإرادة ، وإلا فمع كمال القدرة وكمال الإرادة يجب وجود الفعل ، ومن تمام القدرة طاعة الأتباع له ، ومن تمام الإرادة إرادة [61] ما هو الأصلح الأنفع الأرضى لله ولرسوله .

                  وأبو بكر وعمر كانت قدرتهما أكمل وإرادتهما أفضل ، فبهذا نصر الله بهما الإسلام ، وأذل بهما الكفر والنفاق ، وعلي رضي الله عنه لم يؤت من كمال القدرة والإرادة ما أوتيا .

                  والله تعالى كما فضل بعض النبيين على بعض ، فضل بعض الخلفاء على بعض ، فلما لم يؤت ما أوتيا لم يمكنه أن يفعل في خلافته ما فعلا ، وحينئذ فكان [62] عن ذلك بموت النبي صلى الله عليه وسلم أعجز وأعجز ، فإنه على أي وجه قدر ذلك ، فإن غاية ما يقول المتشيع : إن أتباعه لم يكونوا يطيعونه .

                  فيقال : إذا [63] كان الذين بايعوه [64] لم يطيعوه ، فكيف يطيعه من لم يبايعه [65] ؟ وإذا قيل : لو بايعوه [66] بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لفعل بهم أعظم مما فعل أبو بكر وعمر .

                  [ ص: 471 ] فيقال : قد بايعه أكثر ممن بايع [67] أبا بكر وعمر ونحوهما [68] ، وعدوه أضعف وأقرب إلى الإسلام من عدو أبي بكر وعمر ، ولم يفعل ما يشبه فعلهما ، فضلا عن أن يفعل أفضل منه .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية