الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وإذا قال القائل : إن أتباع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أعظم إيمانا وتقوى ، فنصرهم الله لذلك .

                  قيل : هذا يدل على فساد قول الرافضة ، فإنهم يقولون : إن أتباع أبي بكر وعمر كانوا مرتدين أو فاسقين ، وإذا كان نصرهم وتأييدهم لإيمانهم وتقواهم ، دل ذلك على أن الذين بايعوهما[1] أفضل من الشيعة الذين بايعوا [2] عليا .

                  وإذا [3] كان المقرون بإمامتهما أفضل من المقرين بإمامة علي ، دل ذلك على أنهما أفضل منه .

                  وإن قالوا : إن عليا إنما لم ينتصر ; لأن أتباعه كانوا يبغضونه ويختلفون عليه .

                  قيل : هذا أيضا يدل على فساد قول الشيعة : ( إن ) [4] الذين بايعوا عليا وأقروا بإمامته أفضل ممن بايع أبا بكر وعمر وأقر بإمامتهما ، فإذا كان أولئك الشيعة الذين بايعوا ( عليا ) [5] عصاة للإمام المعصوم كانوا من أشر [6] [ ص: 472 ] الناس ، فلا يكون في الشيعة طائفة محمودة أصلا ، ولا طائفة ينتصر بها على العدو ، فيمتنع أن يكون علي مع الشيعة قادرا على قهر الكفار .

                  وبالجملة فلا بد من [7] كمال حال أبي بكر وعمر وأتباعهما ، فالنقص [8] الذي حصل في خلافة علي [9] من إضافة ذلك إما إلى الإمام ، وإما إلى أتباعه ، وإما إلى المجموع .

                  وعلى كل تقدير فيلزم أن يكون أبو بكر وعمر وأتباعهما أفضل من علي وأتباعه ، فإنه إن كان سبب الكمال والنقص من الإمام ظهر فضلهما عليه ، وإن كان من أتباعه كان المقرون بإمامتهما [10] أفضل من المقرين بإمامته ، فتكون أهل السنة أفضل من الشيعة ، وذلك يستلزم كونهما أفضل منه ; لأنه ما امتاز به الأفضل أفضل مما امتاز به المفضول .

                  وهذا بين لمن تدبره ، فإن الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، وقاتلوا معهم هم أفضل من الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه ، فإن أولئك فيهم من عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان * رضي الله عنهم ورضوا عنه * [11] .

                  [ ص: 473 ] وعامة السابقين الأولين عاشوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما توفي منهم أو قتل في حياته قليل منهم .

                  والذين بايعوا عليا كان فيهم من السابقين والتابعين بإحسان بعض من بايع أبا بكر وعمر * وعثمان ، وأما سائرهم فمنهم من لم يبايعه ، ولم يقاتل معه كسعد بن أبي وقاص ، وأسامة بن زيد ، وابن عمر * [12] ، ومحمد بن مسلمة ، وزيد بن ثابت ، وأبي هريرة ، وأمثال هؤلاء من السابقين ، والذين اتبعوهم بإحسان .

                  ومنهم من قاتله ، كالذين كانوا مع طلحة ، والزبير ، وعائشة ، ومعاوية من السابقين والتابعين .

                  وإذا كان الذين بايعوا الثلاثة وقاتلوا معهم أفضل من الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه ، لزم أن يكون كل من الثلاثة أفضل ; لأن عليا كان موجودا على عهد الثلاثة ، فلو كان هو المستحق للإمامة دون غيره - كما تقوله الرافضة - أو كان أفضل وأحق بها - كما يقوله من يقوله من الشيعة - لكان أفضل الخلق قد عدلوا عما أمرهم [13] الله به ، ورسوله به [14] إلى ما لم يؤمروا به ، بل ما [15] نهوا عنه ، وكان الذين بايعوا عليا ، وقاتلوا معه فعلوا ما أمروا به .

                  ومعلوم أن من فعل ما أمر الله به ورسوله كان أفضل ممن تركه ، وفعل ما نهى الله عنه ورسوله ، فلزم لو كان قول الشيعة حقا أن يكون أتباع علي [ ص: 474 ] أفضل ، وإذا [16] كانوا هم أفضل وإمامهم أفضل من الثلاثة ، لزم أن يكون ما فعلوه من الخير [17] أفضل مما فعله الثلاثة .

                  وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار الذي تواترت به [18] الأخبار ، وعلمته البوادي والحضار ، فإنه في عهد الثلاثة جرى من ظهور الإسلام وعلوه ، وانتشاره ، ونموه [19] ، وانتصاره ، وعزه ، وقمع المرتدين ، وقهر الكفار من أهل الكتاب والمجوس وغيرهم ما لم يجر [20] بعدهم مثله .

                  وعلي رضي الله عنه فضله الله وشرفه بسوابقه الحميدة ، وفضائله العديدة ، لا بما جرى في * زمن خلافته من الحوادث ، بخلاف أبي بكر وعمر وعثمان ، فإنهم فضلوا مع السوابق الحميدة والفضائل العديدة بما جرى في * [21] خلافتهم من الجهاد في سبيل الله ، وإنفاق كنوز كسرى وقيصر ، وغير ذلك من الحوادث المشكورة ، والأعمال المبرورة .

                  وكان أبو بكر وعمر أفضل سيرة وأشرف سريرة من ( عثمان ) وعلي [22] رضي الله عنهم أجمعين فلهذا كانا أبعد عن الملام ، وأولى بالثناء العام حتى لم يقع [23] في زمنهما شيء من الفتن ، فلم يكن للخوارج في زمنهما لا قول مأثور ، ولا سيف مشهور ، بل كان كل سيوف المسلمين مسلولة على الكفار ، وأهل الإيمان في إقبال ، وأهل الكفر في إدبار .

                  [ ص: 475 ] ثم إن الرافضة - أو أكثرهم - لفرط جهلهم ، وضلالهم يقولون : إنهم ومن اتبعهم كانوا كفارا مرتدين ، وإن اليهود والنصارى كانوا خيرا منهم ; لأن الكافر الأصلي خير من المرتد ، وقد رأيت هذا في عدة من كتبهم ، وهذا القول من أعظم الأقوال افتراء على أولياء الله المتقين ، وحزب الله المفلحين ، وجند الله الغالبين .

                  ومن الدلائل الدالة على فساده أن يقال : من المعلوم بالاضطرار ، والمتواتر من الأخبار ، أن المهاجرين هاجروا من مكة وغيرها إلى المدينة ، وهاجر طائفة منهم كعمر وعثمان وجعفر بن أبي طالب هجرتين : هجرة إلى الحبشة ، وهجرة إلى المدينة ، وكان الإسلام إذ ذاك قليلا ، والكفار مستولون على عامة الأرض ، وكانوا يؤذون بمكة ، ويلقون من أقاربهم وغيرهم من المشركين من الأذى ما لا يعلمه إلا الله ، وهم صابرون على الأذى ، متجرعون لمرارة البلوى ، وفارقوا الأوطان ، وهجروا الخلان لمحبة الله ورسوله ، والجهاد في سبيله ، كما وصفهم الله تعالى بقوله : ( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ) ( سورة الحشر : 8 ) .

                  وهذا كله فعلوه طوعا واختيارا من تلقاء أنفسهم لم يكرههم عليه مكره ، * ولا ألجأهم إليه أحد ، فإنه لم يكن للإسلام إذ ذاك من القوة ما يكره * [24] به أحد على الإسلام [25] ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك - هو ومن اتبعه - منهيين عن القتال ، مأمورين بالصفح والصبر فلم يسلم [ ص: 476 ] أحد إلا باختياره ، ولا هاجر أحد إلا باختياره .

                  ولهذا قال أحمد بن حنبل وغيره من العلماء : إنه لم يكن من المهاجرين من نافق ، وإنما كان النفاق في قبائل الأنصار لما ظهر الإسلام بالمدينة ، ودخل فيه من قبائل الأوس والخزرج ، و ( لما ) صار [26] للمسلمين دار يمتنعون بها ويقاتلون دخل في الإسلام من أهل المدينة ، وممن حولهم من الأعراب من دخل خوفا وتقية ، وكانوا منافقين .

                  كما قال تعالى : ( وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ) ( سورة التوبة : 101 ) .

                  ولهذا إنما ذكر النفاق في السور المدنية ، وأما السور المكية فلا ذكر فيها للمنافقين ، فإن من أسلم قبل الهجرة بمكة لم يكن فيهم منافق ، والذين هاجروا لم يكن فيهم منافق ، بل كانوا مؤمنين بالله ورسوله محبين لله ولرسوله ، وكان الله ورسوله أحب إليهم من أولادهم ، وأهلهم ، وأموالهم .

                  وإذا كان كذلك علم أن رميهم - أو رمي أكثرهم أو بعضهم - بالنفاق ، كما يقوله من يقوله من الرافضة من أعظم البهتان الذي هو نعت الرافضة وإخوانهم من اليهود ، فإن النفاق كثير ظاهر في الرافضة إخوان اليهود ، ولا يوجد في الطوائف أكثر وأظهر نفاقا منهم حتى يوجد فيهم النصيرية ، والإسماعيلية ، وأمثالهم ممن هو من أعظم الطوائف نفاقا ، وزندقة ، وعداوة لله ولرسوله [27] .

                  [ ص: 477 ] وكذلك دعواهم عليهم الردة من أعظم [28] الأقوال بهتانا ، فإن المرتد إنما يرتد لشبهة أو شهوة ، ومعلوم أن الشبهات والشهوات في أوائل الإسلام كانت أقوى ، فمن كان إيمانهم مثل الجبال في حال ضعف الإسلام كيف يكون إيمانهم بعد ظهور آياته وانتشار أعلامه ؟ !

                  وأما الشهوة : فسواء كانت شهوة رياسة ، أو مال ، أو نكاح ، أو غير ذلك ، كانت في أول الإسلام أولى بالاتباع فمن [29] خرجوا من ديارهم وأموالهم ، وتركوا ما كانوا عليه من الشرف والعز حبا لله ورسوله طوعا غير إكراه كيف يعادون الله ورسوله طلبا للشرف والمال ؟ !

                  ثم هم في حال قدرتهم على المعاداة ، وقيام المقتضي للمعاداة لم يكونوا معادين لله ورسوله ، بل موالين لله ورسوله معادين لمن عادى الله ورسوله ، فحين قوي المقتضي للموالاة ، وضعفت القدرة على المعاداة ، يفعلون نقيض هذا ؟ ! هل يظن هذا إلا من هو من أعظم الناس ضلالا ؟

                  وذلك أن الفعل إذا حصل معه كمال القدرة عليه ، وكمال الإرادة له ، وجب وجوده ، وهم في أول الإسلام كان المقتضي لإرادة معاداة الرسول أقوى ؛ لكثرة أعدائه ، وقلة أوليائه ، وعدم ظهور دينه [30] وكانت قدرة من يعاديه [31] باليد واللسان حينئذ [32] أقوى حتى كان يعاديه آحاد الناس ، [ ص: 478 ] ويباشرون أذاه بالأيدي والألسن ، ولما ظهر الإسلام وانتشر ، كان المقتضي للمعاداة أضعف ، والقدرة عليها أضعف ، ومن المعلوم أن من ترك المعاداة أولا ، ثم عاداه ثانيا لم يكن إلا لتغير [33] إرادته أو قدرته .

                  ومعلوم أن القدرة على المعاداة كانت أولا أقوى ، والموجب لإرادة المعاداة كان أولا أولى ، ولم يتجدد عندهم ما يوجب تغير إرادتهم ، ولا قدرتهم ، فعلم يقينا أن القوم لم يتجدد ( عندهم ) [34] ما يوجب الردة عن دينهم البتة ، والذين ارتدوا بعد موته إنما كانوا ممن أسلم بالسيف كأصحاب مسيلمة وأهل نجد ، فأما المهاجرون الذين أسلموا طوعا فلم يرتد منهم - ولله الحمد - أحد ، وأهل مكة لما أسلموا بعد فتحها هم طائفة منهم بالردة ، ثم ثبتهم الله بسهيل بن عمرو .

                  وأهل الطائف لما حاصرهم [35] النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة ، ثم رأوا ظهور الإسلام فأسلموا مغلوبين فهموا بالردة فثبتهم [36] الله بعثمان بن أبي العاص .

                  فأما أهل مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنما أسلموا طوعا ، والمهاجرون منهم ، والأنصار ، وهم قاتلوا الناس على الإسلام ، ولهذا لم يرتد من أهل المدينة أحد ، بل ضعف غالبهم بموت النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلت أنفسهم عن الجهاد على دينه حتى ثبتهم الله ، وقواهم بأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، فعادوا إلى ما كانوا عليه من قوة اليقين ، [ ص: 479 ] وجهاد الكافرين ، فالحمد لله الذي من على الإسلام وأهله بصديق الأمة ، الذي أيد الله به دينه في حياة رسوله ، وحفظه به بعد وفاته ، فالله يجزيه عن الإسلام وأهله خير الجزاء .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية