الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما مسألة القرعة [1] فقد رواها أحمد وأبو داود عن زيد بن أرقم [2] ، [ ص: 67 ] [ ص: 68 ] لكن جمهور الفقهاء لا يقولون بهذه ، وأما أحمد فنقل عنه تضعيف [3] الخبر ; فلم يأخذ به ، وقيل أخذ به . وأحمد أوسع الأئمة أخذا بالقرعة ، وقد أخذ بقضاء علي في الزبية [4] ، وحديثها أثبت من هذا ، رواه سماك بن حرب ، وأخذ به أحمد [5] . وأما الثلاثة فما بلغهم لا هذا ولا هذا ، أو بلغهم ولم يثبت عندهم ، وكان عند أحمد من العلم بالآثار ، ومعرفة صحتها من سقمها ، ما ليس لغيره .

                  [ ص: 69 ] وهذا يدل على فضل علي ، ولا نزاع في هذا ، لكن لا يدل على أنه أقضى الصحابة .

                  وأما قوله : " معرفة القضايا بالإلهام " [6] فهذا خطأ ; لأن الحكم بالإلهام بمعنى أنه من ألهم أنه صادق حكم بذلك بمجرد الإلهام ، فهذا [7] لا يجوز في دين المسلمين .

                  وفي الصحيح عن أم سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، وإنما أقضي بنحو مما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار " [8] . فأخبر أنه يقضي بالسمع لا بالإلهام ، فلو كان الإلهام طريقا لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحق بذلك ، وكان الله يوحي إليه معرفة صاحب الحق ; فلا يحتاج إلى بينة ولا إقرار ، ولم يكن ينهى أحدا أن يأخذ مما يقضى له ، ولما حكم في اللعان بالفرقة قال : " إن جاءت به كذا فهو للزوج ، وإن جاءت به كذا فهو للذي رميت به " فجاءت به على النعت المكروه ، فقال : " لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن " [9] [ ص: 70 ] فأنفذ الحكم باليمين ، ولم يحكم بالبينة [10] .

                  وأما إن قيل : إنه يلهم الحكم الشرعي ; فهذا لا بد فيه من دليل شرعي ، لا يجوز الحكم بمجرد الإلهام ; فإن الذي ثبت بالنص أنه كان ملهما هو عمر بن الخطاب ، كما في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " قد كان في الأمم قبلكم محدثون ، فإن يكن في أمتي فعمر " . ومع هذا فلم يكن يجوز لعمر أن يفتي ولا يقضي ولا يعمل بمجرد ما يلقى في قلبه ، حتى يعرض ذلك على الكتاب والسنة ، فإن وافقه قبله ، وإن خالفه رده [11] .

                  وأما ما ذكره من الحكومة في البقرة التي قتلت حمارا [12] ، فهذا [ ص: 71 ] الحديث لا يعرف ، وليس هو في شيء من كتب الحديث والفقه ، مع احتياج الفقهاء في هذه المسألة إلى نص ، ولم يذكر له إسنادا ، فكيف يصدق بشيء لا دليل على صحته ؟ بل الأدلة المعلومة تدل على انتفائه .

                  ومع هذا فهذا الحكم الذي نقله عن علي ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقره ، إذا حمل على ظاهره كان مخالفا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع المسلمين ; فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه أنه قال : " العجماء جبار " وهذا في الصحيحين وغيرهما ، واتفق العلماء على صحته وتلقيه بالقبول [13] ، والتصديق والعمل به .

                  والعجماء تأنيث أعجم ، وكل بهيمة فهي عجماء ، كالبقرة والشاة وغيرهما . وهذه إذا كانت ترعى في المراعي المعتادة ، فأفلتت نهارا من غير تفريط من صاحبها ، حتى دخلت على حمار فأفسدته ، أو [ ص: 72 ] أفسدت زرعا ، لم يكن على صاحبها ضمان باتفاق المسلمين ; فإنها عجماء لم يفرط صاحبها .

                  وأما إن كانت خرجت بالليل ، فعلى صاحبها الضمان عند أكثر العلماء ، كمالك والشافعي وأحمد ; لقصة سليمان بن داود في النفش [14] ; ولحديث ناقة البراء بن عازب ، فإنها دخلت حائطا فأفسدته ، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن على أهل المواشي ما أفسدت مواشيهم بالليل ، وقضى على أهل الحوائط [15] بحفظ حوائطهم [16] .

                  [ ص: 73 ] وذهب أبو حنيفة وابن حزم وغيرهما إلى أنه لا ضمان في ذلك ، وجعلوها داخلة في العجماء . وضعف بعضهم حديث ناقة البراء [17] .

                  وأما إن كان صاحبها اعتدى ، وأرسلها في زرع قوم ، أو بقرب زرعهم [18] ، أو أدخلها إلى إصطبل الحمار بغير إذن صاحبها فأتلفته ، فهنا يضمن لعدوانه [19] .

                  فهذه قضية البقرة والحمار ، إن كان صاحب البقرة لم يفرط ، فالتفريط [ ص: 74 ] من صاحب الحمار ، كما لو دخلت الماشية نهارا فأفسدت الزرع ; فإن صاحب الحمار لم يغلق عليه الباب [20] ، كما لو دخلت البقرة على الحمار [21] ( * إن كان الحمار نائما ، وإن كان هو المفرط بإدخالها إلى الحمار كان ضامنا . وأما أن يجعل مجرد اعتداء الحمار على البقرة أو البقرة على الحمار * ) [22] بدون تفريط [23] صاحبها كاعتداء صاحبها [24] ، فهذا يوجب كون البهيمة كالعبد ، ما أتلفه يكون في رقبتها ، ولا يكون جبارا ، وهذا ليس من حكم المسلمين ، ومن نقل هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كذب عليه .

                  وقد قلنا غير مرة : إن هؤلاء الجهال يكذبون ما يظنونه مدحا ويمدحون به ; فيجمعون بين الكذب وبين المدح ، فلا صدق ولا علم ولا عدل ، فيضلون [25] في الخير والعدل . وقد تقدم الكلام على قوله : ( يهدي إلى الحق ) [ سورة يونس : 35 ] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية