الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ( فصل )

                  قال الرافضي  [1] : " وفي غزاة الأحزاب ، وهي غزاة الخندق ، لما فرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من عمل [2] الخندق ، أقبلت [ ص: 106 ] قريش يقدمها أبو سفيان وكنانة وأهل تهامة في عشرة آلاف ، وأقبلت غطفان ومن تبعها من أهل نجد ، ونزلوا من فوق المسلمين ومن تحتهم ، كما قال تعالى : ( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم ) [ سورة الأحزاب : 10 ] ، فخرج - عليه الصلاة والسلام - بالمسلمين مع ثلاثة آلاف [3] ، وجعلوا الخندق بينهم ، واتفق المشركون مع اليهود ، وطمع المشركون بكثرتهم وموافقة اليهود ، وركب عمرو بن [ عبد ] ود [4] وعكرمة بن أبي جهل ، ودخلا من مضيق في الخندق إلى المسلمين ، وطلبا [5] المبارزة فقام علي وأجابه ، فقال النبي [6] - صلى الله عليه وسلم : إنه عمرو ، فسكت . ثم طلب المبارزة ثانيا وثالثا ، وكل [7] ذلك يقوم علي ، ويقول له النبي - صلى الله عليه وسلم : إنه عمرو ، فأذن له في الرابعة ، [ فقال له عمرو : ارجع يا ابن أخي فما أحب أن أقتلك ] [8] . فقال له علي : كنت عاهدت الله أن لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين [9] إلا أخذتها منه ، وأنا أدعوك [ ص: 107 ] إلى الإسلام ، قال عمرو : لا حاجة لي بذلك . قال : أدعوك إلى البراز . قال : ما [10] أحب أن أقتلك . قال علي : بل أنا أحب [11] أن أقتلك . فحمي عمرو ، ونزل عن فرسه ، وتجاولا [12] ، فقتله علي [13] ، وانهزم عكرمة ، ثم انهزم باقي المشركين واليهود . وفيه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : قتل علي لعمرو بن عبد ود أفضل من عبادة الثقلين " .

                  والجواب : أن يقال : أولا : أين إسناد هذا النقل وبيان صحته ؟

                  ثم يقال ثانيا : قد ذكر في هذه الغزوة أيضا عدة أكاذيب . منها قوله : إن قريشا وكنانة وأهل تهامة كانوا في عشرة آلاف ، فالأحزاب كلهم من هؤلاء ، ومن أهل نجد : تميم وأسد وغطفان ، ومن اليهود : كانوا قريبا من عشرة آلاف . والأحزاب كانوا ثلاثة أصناف [14] : قريش وحلفاؤها [15] ، وهم أهل مكة ومن حولها . وأهل نجد : تميم وأسد وغطفان ومن دخل معهم . واليهود بنو قريظة .

                  وقوله : إن عمرو بن عبد [16] ود وعكرمة [ بن أبي جهل ] [17] ركبا ، ودخلا من مضيق في الخندق .

                  [ ص: 108 ] وقوله : إن عمرا لما قتل وانهزم [18] المشركون واليهود .

                  هذا من الكذب البارد ; فإن المشركين بقوا محاصرين للمسلمين [19] بعد ذلك هم واليهود ، حتى خبب بينهم نعيم بن مسعود ، وأرسل الله عليهم الريح الشديدة : ريح الصبا ، والملائكة من السماء .

                  كما قال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ) [ سورة الأحزاب : 9 - 12 ] إلى قوله : ( وكفى الله المؤمنين القتال ) [ سورة الأحزاب : 25 ] .

                  وهذا يبين أن المؤمنين لم يقاتلوا فيها ، وأن المشركين ما ردهم الله بقتال . وهذا هو المعلوم المتواتر عند أهل العلم بالحديث والتفسير ، والمغازي والسير ، والتاريخ .

                  فكيف يقال بأنه باقتتال علي وعمرو بن عبد ود وقتله له [20] انهزم المشركون .

                  والحديث الذي ذكره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : قتل علي لعمرو بن عبد ود أفضل من عبادة الثقلين . من الأحاديث [ ص: 109 ] الموضوعة ، ولهذا لم يروه أحد من علماء المسلمين في شيء من الكتب التي يعتمد عليها ، بل ولا يعرف له إسناد صحيح ولا ضعيف [21] .

                  وهو كذب لا يجوز نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم ; فإنه لا يجوز أن يكون قتل كافر أفضل من عبادة الجن والإنس ; فإن ذلك يدخل فيه عبادة الأنبياء ، وقد قتل من الكفار من كان قتله أعظم من قتل عمرو بن [ عبد ] [22] ود . وعمرو هذا لم يكن فيه من معاداة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومضارته له وللمؤمنين ، مثل ما كان في صناديد قريش ، الذين قتلوا ببدر ، مثل أبي جهل ، وعقبة بن أبي معيط ، وشيبة بن ربيعة ، والنضر بن الحارث ، وأمثالهم الذين نزل فيهم القرآن . وعمرو هذا لم ينزل فيه شيء من القرآن ، ولا عرف له شيء ينفرد به في معاداة النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين .

                  وعمرو بن عبد ود هذا لم يعرف له ذكر في غزاة بدر ولا أحد ، ولا غير ذلك من مغازي قريش التي غزوا فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا في شيء من السرايا ، ولم يشتهر ذكره إلا في قصة الخندق ، مع [23] أن قصته ليست مذكورة في الصحاح ونحوها ، كما نقلوا في الصحاح مبارزة الثلاثة يوم بدر إلى الثلاثة : مبارزة حمزة وعبيدة وعلي مع عتبة وشيبة والوليد .

                  وكتب التفسير والحديث مملوءة بذكر المشركين الذين كانوا يؤذون [ ص: 110 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل أبي جهل ، وعقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث ، وغيرهم ، وبذكر رؤساء الكفار ، مثل الوليد بن المغيرة وغيره ، ولم يذكر أحد عمرو بن عبد ود ، لا في هؤلاء ولا في هؤلاء ، ولا كان من مقدمي القتال ، فكيف يكون قتل مثل هذا أفضل من عبادة الثقلين ؟ ومن المنقول بالتواتر أن الجيش لم ينهزم بقتله ، بل بقوا بعده محاصرين مجدين [24] كما كانوا قبل قتله .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية