الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ( فصل )

                  قال الرافضي [1] : " الخامس : إخباره بالغائب والكائن قبل كونه ، فأخبر أن طلحة والزبير لما استأذناه في الخروج إلى العمرة قال [2] : لا والله ما تريدان [3] . العمرة ، وإنما تريدان [4] . البصرة في [5] . . وكان كما قال [6] . وأخبر وهو بذي قار جالس لأخذ البيعة : يأتيكم من قبل [7] . الكوفة ألف رجل ، لا يزيدون ولا ينقصون ، يبايعونني [8] . على الموت ، وكان كذلك ، وكان آخرهم أويس القرني .

                  وأخبر بقتل ذي الثدية ، وكان كذلك .

                  وأخبره شخص بعبور القوم في قصة [9] . النهروان ، فقال : لن [ ص: 132 ] يعبروا ، ثم أخبره آخر بذلك ، فقال : لم [10] . يعبروا ، وإنه - والله - لمصرعهم ، فكان كذلك .

                  وأخبر بقتل نفسه الشريفة .

                  وأخبر شهربان بأن اللعين يقطع يديه ورجليه ويصلبه [11] ، ففعل به معاوية ذلك .

                  وأخبر ميثم التمار [12] . بأنه يصلب على باب دار عمرو بن [ ص: 133 ] حريث [13] عاشر عاشرة ، وهو [14] أقصرهم خشبة ، وأراه النخلة التي يصلب [15] . عليها ، فوقع كذلك .

                  وأخبر رشيدا الهجري [16] بقطع يديه ورجليه ، وصلبه ، وقطع لسانه ، فوقع [17] .

                  وأخبر كميل بن زياد [18] - . أن الحجاج يقتله [19] . ، وأن قنبرا يذبحه الحجاج فوقع .

                  [ ص: 134 ] وقال للبراء بن عازب : إن ابني الحسين يقتل ولا تنصره ، فكان كما قال ، وأخبره [20] بموضع قتله .

                  وأخبر بملك بني العباس ، وأخذ الترك الملك منهم ، فقال : ملك بني العباس يسير [21] لا عسر فيه ، لو اجتمع عليهم الترك والديلم والهند [22] والبربر والطيلسان على أن يزيلوا ملكهم ما قدروا أن يزيلوه ، حتى يشذ عنهم [23] مواليهم وأرباب دولتهم ، ويسلط [24] . عليهم ملك من الترك يأتي عليهم من حيث بدأ [25] . ملكهم ، لا يمر بمدينة إلا فتحها ، ولا يرفع له راية إلا نكسها ، الويل ثم [26] الويل لمن ناوأه ، فلا يزال كذلك حتى يظفر بهم [27] ، ثم يدفع ظفره إلى رجل من عترتي ، يقول بالحق ويعمل به [28] . ، ألا وإن الأمر [29] كذلك ; حيث ظهر هولاكو من ناحية [30] . خراسان . [ ص: 135 ] ومنه ابتدأ [31] ملك بني العباس حتى بايع لهم [32] . أبو مسلم الخراساني " . [33] .

                  والجواب أن يقال : أما الإخبار ببعض الأمور الغائبة ، فمن هو دون علي يخبر بمثل ذلك ، فعلي أجل قدرا من ذلك ، وفي أتباع أبي بكر وعمر وعثمان من يخبر بأضعاف ذلك ، وليسوا ممن يصلح للإمامة ، ولا هم أفضل أهل زمانهم ، ومثل هذا موجود في زماننا وغير زماننا .

                  وحذيفة بن اليمان ، وأبو هريرة ، وغيرهما من الصحابة كانوا يحدثون الناس بأضعاف ذلك . وأبو هريرة يسنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وحذيفة تارة يسنده وتارة لا يسنده . وإن كان في حكم المسند .

                  وما أخبر به هو وغيره قد يكون مما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد يكون مما كوشف هو به . وعمر - رضي الله عنه - قد أخبر بأنواع من ذلك .

                  والكتب المصنفة في كرامات الأولياء وأخبارهم ، مثل ما في كتاب " الزهد " للإمام أحمد ، و " حلية الأولياء " و " صفوة الصفوة " و " كرامات الأولياء " لأبي محمد الخلال وابن أبي الدنيا واللالكائي - فيها من الكرامات عن بعض أتباع أبي بكر وعمر ، كالعلاء بن الحضرمي نائب أبي بكر ، وأبي مسلم الخولاني بعض أتباعهما ، وأبي الصهباء ، وعامر بن عبد قيس ، وغير هؤلاء ممن علي أعظم منه ، وليس في ذلك ما يدل [ ص: 136 ] على أنه يكون هو الأفضل من أحد من الصحابة ، فضلا عن الخلفاء .

                  وهذه الحكايات التي ذكرها عن علي لم يذكر لشيء منها إسنادا ، ( 1 وفيها ما يعرف صحته 1 ) [34] . ، وفيها ما يعرف كذبه ، وفيها ما لا يعرف : هل هو صدق أم كذب ؟

                  فالخبر الذي ذكره عن ملك الترك كذب على علي ; فإنه لم يدفع ظفره إلى رجل من العترة ، وهذا مما وضعه متأخروهم [35] . .

                  والكتب المنسوبة إلى علي ، أو غيره من أهل البيت ، في الإخبار بالمستقبلات كلها كذب ، مثل كتاب " الجفر " و " البطاقة " وغير ذلك . [36] .

                  وكذلك ما يضاف إليه من أنه كان [ عنده ] [37] . علم من النبي - صلى الله عليه وسلم - خصه به دون غيره من الصحابة .

                  وفي صحيح البخاري عن أبي حذيفة قال : قلت لعلي : هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن ؟ فقال : لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن ، وما في هذه الصحيفة . قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر [38] . .

                  وكذلك ما ينقل عن غير علي من الصحابة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خصه بشيء من علم الدين الباطن ، كل ذلك باطل .

                  [ ص: 137 ] ولا ينافي ذلك ما في الصحيحين عن أبي هريرة قال : " حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جرابين : أما أحدهما فبثثته فيكم ، وأما الآخر فلو أبثه لقطعتم هذا البلعوم " فإن هذا حديث صحيح [39] . ، ليس فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خص أبا هريرة بما في ذلك الجراب ، بل كان أبو هريرة أحفظ من غيره ; فحفظ ما لم يحفظه غيره .

                  وكذلك قال حذيفة : " والله إني لأعلم الناس بكل فتنة س ، ب : . . الناس من فتنة . . هي كائنة بيني وبين الناس ، وما بي أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسر إلي في ذلك شيئا لم يحدثه غيري ، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهو يحدث مجلسا أنا فيه . . . الحديث . وقال : إنه لم يبق من الرهط غيره [40] .

                  وفي الصحيحين عن حذيفة - رضي الله عنه - قال : " قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقاما ما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به ، حفظه من حفظه ، ونسيه من نسيه " [41] .

                  وحديث أبي زيد عمرو بن أخطب [42] . في صحيح مسلم : قال : " صلى [ ص: 138 ] بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الفجر ، وصعد المنبر ، ثم خطبنا حتى حضرت الظهر ، فنزل فصلى بنا ، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ، فنزل فصلى بنا ، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس ، فأخبرنا بما كان وبما هو كائن ، فأعلمنا أحفظنا " [43] .

                  وأبو هريرة أسلم عام خيبر ، فلم يصحب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أقل من أربع سنين ، وذلك الجراب لم يكن فيه شيء من علم الدين : علم الإيمان والأمر والنهي ، وإنما كان فيه الإخبار عن الأمور المستقبلة ، مثل الفتن التي جرت بين المسلمين : فتنة الجمل ، وصفين ، وفتنة ابن الزبير ، ومقتل الحسين ، ونحو ذلك ; ولهذا لم يكن أبو هريرة ممن دخل في الفتن .

                  ولهذا قال ابن عمر : لو حدثكم أبو هريرة أنكم تقتلون خليفتكم ، وتفعلون كذا وكذا ، لقلتم : كذب أبو هريرة .

                  وأما الحديث الذي يروى عن حذيفة أنه صاحب السر الذي لا يعلمه غيره ، فرواه البخاري عن إبراهيم النخعي ، قال : ذهب علقمة إلى الشام ، فلما دخل المسجد قال : " اللهم يسر لي جليسا صالحا ، فجلس إلى أبي الدرداء ، فقال أبو الدرداء : ممن أنت ؟ قال : من أهل الكوفة . قال : أليس منكم - أو فيكم - الذي أجاره الله على لسان نبيه - يعني من [ ص: 139 ] الشيطان : يعني عمارا - ؟ قال : قلت : بلى . قال : أليس منكم - أو فيكم - صاحب السر الذي لا يعلمه غيره ؟ قال : قلت : بلى . . الحديث [44] . .

                  وذلك السر [45] كان معرفته بأعيان ناس من المنافقين كانوا في غزوة تبوك ، هموا بأن يحلوا حزام ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالليل ليسقط ، فأعلمه الله بهم ، وكان حذيفة قريبا ، فعرفه بهم ، وكان إذا مات الميت المجهول حاله لا يصلي عليه عمر حتى يصلي عليه حذيفة ; خشية أن يكون من المنافقين .

                  ومعرفة بعض الصحابة والصالحين ببعض المستقبلات لا توجب أن يكون عالما بها كلها .

                  والغلاة الذين [ كانوا ] [46] . يدعون علم علي بالمستقبلات مطلقا كذب ظاهر ; فالعلم ببعضها ليس من خصائصه ، والعلم بها كلها لم يحصل له ولا لغيره .

                  ومما يبين لك [47] . أن عليا لم يكن يعرف المستقبلات أنه في ولايته وحروبه في زمن خلافته كان يظن أشياء كثيرة ، فيتبين له الأمر بخلاف ما [ ص: 140 ] ظن ، ولو ظن أنه إذا قاتل معاوية وأصحابه يجري ما جرى لم يقاتلهم ; فإنه كان لو لم يقاتل أعز وانتصر [48] . ، وكان أكثر الناس معه ، وأكثر البلاد تحت ولايته ، فلما قاتلهم ضعف أمره ، حتى صار معهم كثير من البلاد التي كانت في [49] . طاعته ، مثل مصر واليمن ، وكان الحجاز دولا .

                  ولو علم أنه إذا حكم الحكمين يحكمان بما حكما لم يحكمهما . ولو علم أن أحدهما يفعل بالآخر ما فعل حتى يعزلاه ، لم يول من يوافق على عزل ، ولا من خذله الحكم الآخر [50] . ، بل قد أشار عليه من أشار أن يقر معاوية على إمارته في ابتداء الأمر ، حتى يستقيم له الأمر ، وكان هذا الرأي أحزم عند الذين ينصحونه ويحبونه .

                  ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولى أبا سفيان - أبا معاوية - نجران [51] . ، وكان واليا عليها حتى مات النبي - صلى الله عليه وسلم .

                  وقد اتفق الناس على أن معاوية كان أحسن إسلاما من أبيه ، ولم يتهم أحد من الصحابة والتابعين معاوية بنفاق ، واختلفوا في أبيه .

                  والصديق كان قد ولى أخاه - يزيد بن أبي سفيان - أحد الأمراء في فتح الشام ، لما ولى خالدا وأبا عبيدة ويزيد بن أبي سفيان لما فتحوا الشام ، بقي أميرا إلى أن مات بالشام ، وكان من خيار الصحابة ، رجلا صالحا [ ص: 141 ] أفضل من أخيه وأبيه ، ليس هذا هو يزيد بن معاوية الذي تولى بعد معاوية الخلافة ; فإن ذاك ولد في خلافة عثمان ، لم يكن من الصحابة ، ولكن سمي [52] . باسم عمه ، ( * فطائفة من الجهال يظنون يزيد هذا من الصحابة * ) [53] . وبعض غلاتهم [54] يجعله من الأنبياء ، كما أن آخرين يجعلونه كافرا أو مرتدا ، وكل ذلك باطل ، بل هو خليفة من بني أمية [55] .

                  والحسين - رضي الله عنه - ولعن قاتله - قتل مظلوما شهيدا في خلافته بسبب خلافه [56] ، لكنه هو لم يأمر بقتله ، ولم يظهر الرضا به ، ولا انتصر ممن قتله .

                  ورأس الحسين حمل إلى قدام عبيد الله بن زياد ، وهو الذي ضربه بالقضيب على ثناياه ، وهو الذي ثبت في الصحيح [57] . .

                  [ ص: 142 ] وأما حمله إلى عند يزيد [58] . فباطل . وإسناده منقطع [59] . .

                  وعمه يزيد الرجل الصالح هو من الصحابة ، توفي في خلافة عمر ، فلما مات ولى معاوية مكان أخيه . وعمر من أعلم الناس بأحوال الرجال ، وأحذقهم في السياسة ، وأبعد الناس عن الهوى ، لم يول في خلافته أحدا من أقاربه ، وإنما كان يختار للولاية من يراه أصلح لها ; فلم يول معاوية إلا وهو عنده ممن يصلح للإمارة .

                  ثم لما توفي [60] زاد عثمان في ولاية معاوية ، حتى جمع له الشام . وكانت الشام في خلافة عمر أربعة أرباع : فلسطين ، ودمشق ، وحمص ، والأردن . ثم بعد ذلك فصلت قنسرين والعواصم من ربع حمص ، ثم بعد هذا عمرت حلب وخربت قنسرين ، وصارت العواصم دولا بين المسلمين وأهل الكتاب .

                  وأقام معاوية نائبا عن عمر وعثمان عشرين سنة ، ثم تولى عشرين سنة ، ورعيته شاكرون لسيرته وإحسانه ، راضون به ، حتى أطاعوه في مثل قتال علي .

                  ومعلوم أنه خير من أبيه أبي سفيان ، وكانت ولايته أحق بالجواز من ولاية أبيه ، فلا يقال : إنه لم تكن تحل ولايته . ولو قدر أن غيره كان [ ص: 143 ] أحق بالولاية منه ، أو أنه ممن [61] يحصل به معونة لغيره ممن فيه ظلم ، لكان الشر المدفوع بولايته أعظم من الشر الحاصل بولايته .

                  وأين أخذ المال ، وارتفاع بعض الرجال ، من قتل الرجال الذين قتلوا بصفين ، ولم يكن في ذلك عز ولا ظفر ؟ !

                  فدل هذا وغيره على أن الذين أشاروا على أمير المؤمنين كانوا حازمين . وعلي إمام مجتهد ، لم يفعل إلا ما رآه مصلحة .

                  لكن المقصود أنه لو كان يعلم الكوائن كان قد علم أن إقراره على الولاية أصلح له من حرب صفين ، التي لم يحصل بها إلا زيادة الشر وتضاعفه ، لم يحصل بها من المصلحة شيء ، وكانت ولايته أكثر خيرا وأقل شرا من محاربته ، وكل ما يظن في ولايته من الشر ، فقد كان في محاربته أعظم منه .

                  وهذا وأمثاله كثير مما يبين جهل من يقول : إنه كان يعلم الأمور المستقبلة ، بل الرافضة تدعي الأمور المتناقضة : يدعون عليه علم الغيب ، مع هذه الأمور المنافية لذلك ، ويدعون له من الشجاعة ما يزعمون معه أنه كان هو الذي ينصر النبي - صلى الله عليه وسلم - في مغازيه ، وهو الذي قام [62] . الإسلام بسيفه في أول الأمر مع ضعف الإسلام .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية