الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ثم يذكرون من عجزه عن مقاومة أبي بكر - رضي الله عنه - مع ضعفه عندهم بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يناقض ذلك ; فإن [ ص: 144 ] أبا بكر - رضي الله عنه - لم يكن له بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - مال يستعطف به الناس ، ولا كان له قبيلة عظيمة ينصرونه ، ولا موال ، ولا دعا الناس إلى بيعته ، لا برغبة ولا برهبة . وكان علي - رضي الله عنه - على دفعه أقدر منه على دفع الكفار الذين حاربوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بكثير ، فلو كان [1] . هو الذي دفع الكفار ، ولو كان [2] . مريدا لدفع أبي بكر - رضي الله عنه - لكان على ذلك أقدر ، لكنهم يجمعون بين المتناقضين .

                  وكذلك في حربه لمعاوية قد قهر وعسكره أعظم ، وتحت طاعته من هم أفضل وأكثر من الذين تحت طاعة معاوية ، وهو - رضي الله عنه - لا ريب أنه كان يريد أن يقهر معاوية وعسكره ، فلو كان هو الذي نصر النبي - صلى الله عليه وسلم - مع كثرة الكفار وضعف المسلمين وقلتهم ; لكان مع كثرة عسكره على عسكر معاوية أقدر على قهر معاوية وجيشه منه على قهر الكفار الذين قاتلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فكيف يجمع بين تلك الشجاعة والقوة وبين هذا العجز والضعف ، إلا من هو جاهل متناقض ؟ !

                  بل هذا يدل على أن النصر كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن الله أيده بنصره وبالمؤمنين كلهم ، وعلي وغيره من المؤمنين الذين أيده الله بهم ، وكان تأييده بأبي بكر وعمر أعظم من تأييده بغيرهما من وجوه كثيرة .

                  [ ص: 145 ] ومما يبين أن عليا لم يكن يعلم المستقبل أنه ندم على أشياء مما فعلها ، وكان يقول : لقد عجزت عجزة لا أعتذر سوف أكيس بعدها وأستمر وأجمع الرأي الشتيت المنتشر .

                  وكان يقول ليالي صفين : يا حسن يا حسن ، ما ظن أبوك أن الأمر يبلغ هذا ! لله در مقام قامه سعد بن مالك وعبد الله بن عمر ، إن كان برا إن أجره لعظيم ، وإن كان إثما إن خطره ليسير . وهذا رواه المصنفون .

                  وتواتر عنه أنه كان يتضجر ويتململ من اختلاف رعيته عليه ، وأنه ما كان يظن أن الأمر يبلغ ما بلغ .

                  وكان الحسن رأيه ترك القتال . وقد جاء النص الصحيح بتصويب الحسن .

                  وفي البخاري عن أبي بكر [3] - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن ابني هذا سيد ، وإن الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " [4] . فمدح الحسن على الإصلاح بين الطائفتين .

                  وسائر الأحاديث الصحيحة تدل على أن القعود عن القتال والإمساك عن الفتنة كان أحب إلى الله ورسوله . وهذا قول أئمة السنة وأكثر أئمة الإسلام . وهذا ظاهر في الاعتبار ; فإن محبة الله ورسوله للعمل بظهور ثمرته ، فما كان أنفع للمسلمين في دينهم ودنياهم كان أحب إلى الله [ ص: 146 ] ورسوله . وقد دل الواقع على أن رأي الحسن كان أنفع للمسلمين ; لما ظهر من العاقبة في هذا و [ في ] هذا [5] . .

                  وفي صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول للحسن وأسامة : " اللهم إني أحبهما فأحبهما ، وأحب من يحبهما " [6] . .

                  وكلاهما كان يكره الدخول في القتال . أما أسامة فإنه اعتزل القتال ، فطلبه علي ومعاوية ، فلم يقاتل مع واحد من هؤلاء . كما اعتزل أكثر فضلاء الصحابة - رضي الله عنهم - مثل سعد بن أبي وقاص ، وابن عمر ، ومحمد بن مسلمة ، وزيد بن ثابت ، وأبي هريرة ، وعمران بن حصين ، وأبي بكرة ، وغيرهم .

                  وكان ما فعله الحسن أفضل عند الله مما فعله الحسين ; فإنه وأخاه سيدا شباب أهل الجنة ، فقتل الحسين شهيدا مظلوما .

                  وصار الناس في قتله ثلاثة أحزاب :

                  حزب يرون أنه قتل بحق ، ويحتجون بما في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق بين جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان " [7] . . قالوا : وهو جاء والناس على رجل واحد ، فأراد أن يفرق جماعتهم .

                  وحزب يرون أن الذين قاتلوه كفار ، بل يرون أن من لم يعتقد إمامته كافر .

                  [ ص: 147 ] والحزب الثالث - وهم أهل السنة والجماعة - يرون أنه قتل مظلوما شهيدا ، والحديث المذكور لا يتناوله بوجه ، فإنه - رضي الله عنه - لما بعث ابن عمه عقيلا إلى الكوفة فبلغه أنه قتل بعد أن بايعه طائفة ، فطلب [8] . الرجوع إلى بلده ، فخرج إليه السرية التي قتلته ، فطلب منهم أن يذهبوا به إلى يزيد ، أو يتركوه يرجع إلى مدينته ، أو يتركوه يذهب إلى الثغر للجهاد ، فامتنعوا من هذا وهذا ، وطلبوا أن يستأسر لهم ليأخذوه أسيرا .

                  ومعلوم باتفاق المسلمين أن هذا لم يكن واجبا عليه ، وأنه كان يجب تمكينه مما طلب ، فقاتلوه ظالمين له ، ولم يكن حينئذ مريدا لتفريق الجماعة ، ولا طالبا للخلافة ، ولا قاتل على طلب خلافة ، بل قاتل دفعا عن نفسه لمن صال عليه وطلب أسره .

                  وظهر بطلان قول الحزب الأول .

                  وأما الحزب الثاني فبطلان قوله يعرف من وجوه كثيرة : من أظهرها أن عليا لم يكفر أحدا ممن قاتله ، حتى ولا الخوارج ، ولا سبى ذرية أحد منهم ، ولا غنم ماله ، ولا حكم في أحد ممن قاتله بحكم المرتدين ، كما حكم أبو بكر وسائر الصحابة في بني حنيفة وأمثالهم من المرتدين ، بل علي كان يترضى [9] . عن طلحة والزبير وغيرهما ممن قاتله ، ويحكم فيهم وفي أصحاب معاوية ممن قاتله بحكم المسلمين .

                  وقد ثبت بالنقل الصحيح أن مناديه نادى يوم الجمل : " لا يتبع مدبر ، [ ص: 148 ] ولا يجهز على جريح ، ولا يغنم مال " [10] . وهذا مما أنكرته الخوارج عليه ، حتى ناظرهم ابن عباس - رضي الله عنه - في ذلك ، كما ذكر ذلك في موضعه .

                  واستفاضت الآثار [11] . عنه أنه كان يقول عن قتلى عسكر معاوية : إنهم جميعا مسلمون ، ليسوا كفارا ولا منافقين ، كما قد ذكر في غير هذا الموضع . وكذلك عمار وغيره من الصحابة .

                  وكانت هذه الأحزاب الثلاثة بالعراق ، [ وكان بالعراق أيضا ] [12] . طائفة ناصبة من شيعة عثمان تبغض عليا والحسين ، وطائفة [13] . من شيعة علي تبغض عثمان وأقاربه .

                  وقد ثبت في صحيح مسلم عن أسماء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " سيكون في ثقيف كذاب ومبير " [14] . . فكان الكذاب الذي فيها هو المختار بن عبيد ، وكان الحجاج هو المبير ، وكان هذا يتشيع لعثمان ويبغض شيعة علي ، وكان الكذاب يتشيع لعلي ، حتى قاتل عبيد الله بن زياد وقتله ، ثم ادعى أن جبريل يأتيه ; فظهر كذبه .

                  وانقسم الناس بسبب هذا يوم [15] . عاشوراء - الذي قتل فيه الحسين - إلى قسمين : فالشيعة اتخذته يوم مأتم وحزن يفعل فيه من المنكرات ما [ ص: 149 ] لا يفعله إلا من هو من أجهل الناس وأضلهم ، وقوم اتخذوه [16] بمنزلة العيد ، فصاروا يوسعون فيه فيه : [17] . النفقات والأطعمة واللباس ، ورووا فيه أحاديث موضوعة ، كقوله : " من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته " وهذا الحديث كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم [18] . قال حرب الكرماني : سئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث ، فقال : لا أصل له . والمعروف عند أهل الحديث أنه يرويه سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه أنه قال : بلغنا أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته . قال ابن عيينة : جربناه من ستين سنة فوجدناه صحيحا .

                  قلت : ومحمد بن المنتشر هذا من فضلاء الكوفيين ، لكن لم يكن يذكر ممن سمعه ولا عمن بلغه [19] . . ولا ريب أن هذا أظهره بعض المتعصبين على الحسين ، ليتخذ يوم قتله عيدا ، فشاع هذا عند الجهال المنتسبين إلى السنة ، حتى روي في حديث : أن يوم عاشوراء جرى كذا وجرى كذا ، حتى جعلوا أكثر حوادث الأنبياء كانت يوم عاشوراء ، مثل مجيء قميص يوسف إلى يعقوب ورد بصره ، وعافية أيوب ، وفداء الذبيح ، وأمثال هذا . وهذا الحديث كذب موضوع ، وقد ذكره ابن الجوزي في " الموضوعات " [20] . وإن كان قد رواه هو في كتاب " النور في [ ص: 150 ] فضائل الأيام والشهور " [21] . وذكر عن ابن ناصر شيخه أنه قال : حديث صحيح ، وإسناده على شرط الصحيح ، فالصواب ما ذكره في " الموضوعات " وهو آخر الأمرين منه . وابن ناصر راج عليه ظهور حال رجاله ، وإلا فالحديث مخالف للشرع والعقل ، لم يروه أحد من أهل العلم المعروفين في شيء من الكتب ، وإنما دلس على بعض الشيوخ المتأخرين .

                  كما جرى مثل ذلك في أحاديث [22] . أخر ، حتى في أحاديث نسبت إلى مسند أحمد ، وليست منه ، مثل حديث رواه عبد القادر بن يوسف ، عن ابن المذهب ، عن القطيعي ، عن عبد الله ، عن أبيه ، عن عبد الله بن المثنى [23] . ، عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " القرآن كلام الله غير مخلوق ، منه بدأ ، وإليه يعود " وهذا القول صحيح متواتر عن السلف أنهم قالوا ذلك ، لكن رواية هذا اللفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذب ، وعزوه إلى المسند لأحمد كذب ظاهر [24] . ; فإن مسنده موجود وليس هذا فيه .

                  [ ص: 151 ] وأحمد إمام أهل السنة في زمن المحنة ، وقد جرى له في مسألة القرآن ما اشتهر في الآفاق ، وكان يحتج لأن [25] . القرآن كلام الله غير مخلوق بحجج كثيرة معروفة عنه ، ولم يذكر هذا الحديث قط ، ولا احتج به ، فكيف يكون هذا الحديث عنده ولا يحتج به ؟ ! وهذا الحديث إنما عرف عن هذا الشيخ ، وكان بعض من قرأ عليه دسه في جزء فقرأه عليه مع غيره ، فراج ذلك على من لم يكن له معرفة .

                  وكذلك حديث عاشوراء ، والذي صح في فضله هو صومه ، وأنه يكفر سنة ، وأن الله نجى فيه موسى من الغرق ، وقد بسطنا الكلام عليه في موضع آخر ، وبينا أن كل ما يفعل فيه - سوى الصوم - بدعة مكروهة ، لم يستحبها [26] . أحد من الأئمة ، مثل الاكتحال ، والخضاب ، وطبخ الحبوب ، وأكل لحم الأضحية ، والتوسيع في النفقة ، وغير ذلك ، وأصل هذا من ابتداع قتلة الحسين ونحوهم [27] .

                  وأقبح من ذلك وأعظم ما تفعله الرافضة من اتخاذه مأتما يقرأ فيه المصرع ، وينشد فيه قصائد النياحة ، ويعطشون فيه أنفسهم ، ويلطمون فيه [28] . الخدود ، ويشقون الجيوب ، ويدعون فيه بدعوى الجاهلية .

                  [ ص: 152 ] وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية " [29] . .

                  وهذا مع حدثان العهد بالمصيبة ، فكيف [30] . إذا كانت بعد ستمائة ونحو سبعين سنة ؟ وقد قتل من هو أفضل من الحسين ، ولم يجعل المسلمون ذلك اليوم مأتما .

                  وفي مسند أحمد عن [31] فاطمة بنت الحسين - وكانت قد شهدت قتله - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ما من مسلم يصاب بمصيبة ، فيذكر مصيبته وإن قدمت ، فيحدث لها استرجاعا ، إلا أعطاه الله من الأجر مثل أجره يوم أصيب بها " [32] .

                  فهذا يبين أن السنة في المصيبة إذا ذكرت ، وإن تقادم عهدها ، أن يسترجع [33] . ، كما جاء بذلك الكتاب والسنة .

                  قال تعالى : ( وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) [ سورة البقرة : 155 - 157 ] .

                  وأقبح من ذلك نتف النعجة تشبيها لها بعائشة ، والطعن في الجبس الذي في جوفه سمن تشبيها له بعمر ، وقول القائل : يا ثارات أبي لؤلؤة ! إلى غير ذلك من منكرات الرافضة ، فإنه يطول وصفها .

                  [ ص: 153 ] والمقصود هنا أن ما أحدثوه من البدع فهو منكر ، وما أحدثه من يقابل بالبدعة البدعة ، وينسب إلى السنة ، هو أيضا منكر مبتدع . والسنة ما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي برية من كل بدعة ، فما يفعل يوم عاشوراء من اتخاذه عيدا بدعة أصلها من بدع النواصب ، وما يفعل من اتخاذه مأتما بدعة أشنع منها ، وهي من البدع المعروفة في الروافض ، وقد بسطنا هذه الأمور س ، ب . . . الأمور وبالله المستعان . .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية