الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ( فصل )

                  قال الرافضي [1] : " السابع : أنه لما توجه إلى صفين لحق أصحابه عطش شديد ، فعدل بهم قليلا ، فلاح لهم دير فصاحوا بساكنه ، فسألوه عن الماء ، فقال : بيني وبينه أكثر من فرسخين ، ولولا أني أوتى ما يكفيني [2] كل شهر على التقتير لتلفت عطشا ، [ ص: 158 ] فأشار أمير المؤمنين إلى مكان قريب من الدير ، وأمر بكشفه ، فوجدوا صخرة عظيمة ، فعجزوا عن إزالتها ، فقلعها وحده ، ثم شربوا الماء ، فنزل إليهم [3] الراهب ، فقال [4] : أنت نبي مرسل أو ملك مقرب ؟ فقال [5] : لا ، ولكني وصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم على يده [6] ، وقال : إن هذا الدير بني على طالب هذه [7] الصخرة ، ومخرج الماء من تحتها ، وقد مضى جماعة [8] قبلي لم يدركوه . وكان الراهب من جملة من استشهد معه ، ونظم القصة [9] السيد الحميري في قصيدته " [10] .

                  والجواب : أن هذا من جنس أمثاله من الأكاذيب التي يظنها [11] الجهال من أعظم مناقب علي ، وليست كذلك ، بل الذي وضع هذه كان جاهلا بفضل علي ، وبما يستحقه من الممادح ، فإن الذي فيه من المنقبة أنه أشار إلى صخرة فوجدوا تحتها الماء ، وأنه قلعها . ومثل هذا يجري لخلق كثير ، علي - رضي الله عنه - [12] - أفضل منهم ، بل في المحبين لأبي بكر [ ص: 159 ] وعمر وعثمان من يجري لهم أضعاف هذا ، وأفضل من هذا وهذا ، وإن كان إذا جرى على يد بعض الصالحين كان نعمة من الله وكرامة له ، فقد يقع مثل ذلك لمن ليس من الصالحين كثيرا .

                  وأما سائر ما فيها ، مثل قوله : " إن هذا الدير بني على طالب هذه الصخرة ، ومخرج الماء من تحتها " .

                  فليس هذا من دين المسلمين ، وإنما تبنى الكنائس والديارات والصوامع على أسماء المقتدية بسير النصارى ، فأما المسلمون فلا يبنون معابدهم - وهي المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه - إلا على اسم الله ، لا على اسم مخلوق .

                  وقول [13] الراهب : " أنت نبي مرسل أو ملك مقرب " يدل على جهله ، وأنه من أضل الخلق ; فإن الملائكة لا تشرب الماء ، ولا تحتاج [ إلى ] [14] أن تستخرجه من تحت صخرة . ومحمد - صلى الله عليه وسلم - لا نبي بعده ، ومعلوم أن هذا الراهب قد سمع بخبر المسلمين الذين فتحوا تلك المواضع ، فإن كان يجوز أن يبعث رسول بعد المسيح ، فمحمد هو الرسول ، ومعجزاته ظاهرة باطنة ، فإن صدقه فقد علم أنه لا نبي بعده ، وإن لم يصدقه فكيف يعتقد في غيره أنه نبي مرسل بمجرد دلالته على ماء تحت صخرة ، أو لكون الدير بني على اسمه ، وهم يبنون الديارات على أسماء خلق كثير ليسوا من الملائكة ولا الرسل ؟ !

                  وما فيه من قول علي : " ولكني وصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم " [ ص: 160 ] هو مما يبين أنه كذب على علي ، وأن عليا لم يدع هذا قط ، لا في خلافة الثلاثة ولا ليالي صفين . وقد كانت له مع منازعيه مناظرات ومقامات ، ما ادعى هذا قط ، ولا ادعاه أحد له . وقد حكم الحكمين ، وأرسل ابن عباس لمناظرة الخوارج ، فذكروا فضائله وسوابقه ومناقبه ، ولم يذكر أحد منهم قط أنه وصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

                  ومعلوم أن هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ، بدون هذه الأسباب الموجبة لنقله لو كان حقا ، فكيف مع هذه الأسباب ؟ !

                  فلما رووا فضائله ومناقبه ، كقوله عليه السلام : " لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ، [ ويحبه الله ورسوله ] " [15] .

                  وكقوله عام تبوك : " ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي " [16] .

                  وقوله : " أنت مني وأنا منك " [17] ، وغير ذلك من فضائله ، ولم يرووا هذا مع مسيس الحاجة إلى ذكره [ ولا ادعاه علي قط مع مسيس الحاجة إلى ذكره ] [18] - علم أنه من جملة ما افتراه الكذابون .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية