الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 164 ] ( فصل )

                  قال الرافضي [1] : " التاسع : رجوع الشمس له مرتين : إحداهما : في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم . والثانية : بعده . أما الأولى فروى جابر وأبو سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل عليه جبريل [2] يوما يناجيه من عند الله ، فلما تغشاه الوحي توسد فخذ أمير المؤمنين ، فلم يرفع رأسه حتى غابت الشمس ، فصلى علي العصر [3] بالإيماء ، فلما استيقظ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : سل الله تعالى يرد عليك الشمس لتصلي العصر قائما ، فدعا ; فردت الشمس ، فصلى العصر قائما .

                  وأما الثانية : فلما أراد أن يعبر الفرات ببابل اشتغل كثير من أصحابه [ بتعبير ] دوابهم [4] ، وصلى لنفسه [5] في طائفة من أصحابه العصر ، وفات كثيرا منهم ، فتكلموا في ذلك ، فسأل الله رد الشمس فردت . ونظمه الحميري [6] فقال : [ ص: 165 ]

                  ردت عليه الشمس لما فاته وقت الصلاة وقد دنت للمغرب     حتى تبلج نورها في وقتها
                  للعصر ثم هوت هوي الكوكب     وعليه قد ردت ببابل مرة
                  أخرى وما ردت لخلق معرب

                  [7] .

                  والجواب : أن يقال : فضل علي وولايته لله وعلو منزلته عند الله معلوم [8] ، ولله الحمد ، من طرق ثابتة أفادتنا العلم اليقيني ، لا يحتاج معها إلى كذب ولا إلى ما لا يعلم صدقه . وحديث رد الشمس له قد ذكره طائفة ، كالطحاوي ، والقاضي عياض ، وغيرهما ، وعدوا ذلك من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم . لكن المحققون من أهل العلم والمعرفة بالحديث يعلمون أن هذا الحديث كذب موضوع ، كما ذكره ابن الجوزي في كتاب " الموضوعات " [9] فرواه من كتاب أبي جعفر العقيلي في الضعفاء ، من طريق عبيد الله [10] بن موسى ، عن فضيل بن مرزوق ، عن إبراهيم بن الحسن بن الحسن [11] ، عن فاطمة بنت الحسين ، عن أسماء بنت عميس ، قالت : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوحى إليه ورأسه في حجر علي فلم يصل العصر حتى غربت الشمس ، ( * فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : صليت يا علي ؟ قال : لا * ) [12] . فقال رسول الله [ ص: 166 ] - صلى الله عليه وسلم : اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك ، فاردد عليه الشمس . فقالت أسماء : فرأيتها غربت ، ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت " . قال أبو الفرج [13] : " وهذا حديث [14] موضوع بلا شك ، وقد اضطرب الرواة فيه ، فرواه سعيد بن مسعود ، عن عبيد الله بن موسى ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار [15] ، عن علي بن الحسين [16] ، عن فاطمة بنت علي [17] ، عن أسماء " . قال : [18] " وفضيل بن مرزوق ضعفه يحيى ، وقال أبو حاتم بن حبان : يروي الموضوعات ، ويخطئ على الثقات . قال أبو الفرج : " وهذا الحديث مداره على عبيد الله بن موسى عنه " [19] .

                  قلت : والمعروف أن سعيد بن مسعود رواه عن عبيد الله بن موسى ، عن فضيل بن مرزوق ، عن إبراهيم بن الحسن ، عن فاطمة بنت الحسين ، عن أسماء . ورواه محمد بن مرزوق ، عن حسين الأشقر ، عن علي بن عاصم ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار [20] ، عن علي بن [ ص: 167 ] الحسين [21] ، عن فاطمة بنت علي ، عن أسماء [22] ، كما سيأتي ذكره . قال أبو الفرج [23] : " وقد روى هذا الحديث ابن شاهين ، حدثنا [24] أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني ، حدثنا [25] أحمد بن يحيى الصوفي ، حدثنا [26] عبد الرحمن بن شريك ، حدثني أبي ، عن عروة بن عبد الله بن قشير [27] ، قال : دخلت على فاطمة بنت علي بن أبي طالب فحدثتني [ أن أسماء بنت عميس حدثتها ] [28] أن علي بن أبي طالب . . وذكر حديث رجوع الشمس . قال أبو الفرج [29] : " وهذا حديث باطل . أما عبد الرحمن بن شريك [30] ، فقال أبو حاتم [31] : هو واهي الحديث . قال : وأنا لا أتهم بهذا الحديث إلا ابن عقدة [32] ; فإنه كان رافضيا يحدث بمثالب الصحابة " . " قال أبو أحمد بن عدي الحافظ : سمعت أبا بكر بن أبي طالب [33] يقول : ابن عقدة لا يتدين بالحديث ، كان يحمل شيوخا [34] بالكوفة على الكذب ، يسوي لهم نسخا ، ويأمرهم أن يرووها ، وقد بينا ذلك منه في [ ص: 168 ] غير نسخة [35] ، ( * وسئل عنه الدارقطني فقال : رجل سوء . قال أبو الفرج : " وقد رواه ابن مردويه من حديث داود بن فراهيج عن أبي هريرة ، قال : وداود ضعيف ، ضعفه شعبة * ) " [36] .

                  قلت : فليس في هؤلاء من يحتج به فيما دون هذا .

                  وأما الثاني ببابل فلا ريب أن هذا كذب [37] . وإنشاد الحميري لا حجة فيه ; لأنه لم يشهد ذلك ، والكذب قديم ، فقد سمعه فنظمه . وأهل الغلو في المدح والذم ينظمون ما لا تتحقق صحته ، لا سيما والحميري معروف بالغلو [38] .

                  وقد أخرجا في الصحيحين عن أبي هريرة قال : " غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه : لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة يريد أن يبني بها ولما [ ص: 169 ] يبن ، ولا رجل قد بنى بيتا ولم يرفع سقفه [39] ، ولا رجل اشترى غنما - أو خلفات - وهو ينتظر [40] ولادها . قال : فغزوا ، فدنا من القرية ، حتى صلى العصر قريبا من ذلك ، فقال للشمس : أنت مأمورة وأنا مأمور ، اللهم احبسها علي شيئا ، فحبست عليه حتى فتح الله عليه " الحديث [41] .

                  فإن قيل : فهذه الأمة أفضل من بني إسرائيل ، فإذا كانت قد ردت ليوشع ، فما المانع أن ترد لفضلاء هذه الأمة ؟

                  فيقال : يوشع لم ترد له الشمس ، ولكن تأخر غروبها ، طول له النهار ، وهذا قد لا يظهر للناس ; فإن طول النهار وقصره لا يدرك . ونحن إنما علمنا وقوفها ليوشع بخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                  وأيضا لا مانع من طول ذلك [42] ، لو شاء الله لفعل ذلك . لكن يوشع كان محتاجا إلى ذلك ; لأن القتال كان محرما عليه بعد غروب الشمس ; لأجل ما حرم الله عليهم من العمل ليلة السبت ويوم السبت . وأما أمة محمد فلا حاجة لهم إلى ذلك ، ولا منفعة لهم فيه ، فإن الذي فاتته العصر إن كان مفرطا لم يسقط ذنبه إلا بالتوبة ، ومع التوبة لا يحتاج إلى [ ص: 170 ] رد ، وإن لم يكن مفرطا ، كالنائم والناسي ، فلا ملام عليه في الصلاة بعد الغروب .

                  وأيضا فبنفس غروب الشمس خرج الوقت المضروب للصلاة ، فالمصلي بعد ذلك لا يكون مصليا في الوقت الشرعي ولو عادت الشمس .

                  وقول الله تعالى : ( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ) [ سورة طه : 130 ] يتناول الغروب المعروف ، فعلى العبد أن يصلي قبل هذا الغروب ، وإن طلعت ثم غربت . والأحكام المتعلقة بغروب الشمس حصلت بذلك الغروب ، فالصائم يفطر ، ولو عادت بعد ذلك لم يبطل صومه ، مع أن هذه الصورة لا تقع لأحد ، ولا وقعت لأحد ، فتقديرها تقدير ما لا وجود له ; ولهذا لا يوجد الكلام على حكم مثل هذا في كلام العلماء المفرعين .

                  وأيضا فالنبي - صلى الله عليه وسلم - فاتته العصر يوم الخندق ، فصلاها قضاء ، هو وكثير من أصحابه ، ولم يسأل الله رد الشمس .

                  وفي الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه بعد ذلك لما أرسلهم إلى بني قريظة : " لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة " .

                  فلما أدركتهم الصلاة في الطريق قال بعضهم : لم يرد منا تفويت الصلاة فصلوا في الطريق ، فقالت طائفة : لا نصلي إلا في بني قريظة ، فلم يعنف واحدة من الطائفتين [43] .

                  فهؤلاء الذين كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلوا العصر بعد [ ص: 171 ] غروب الشمس ، وليس علي بأفضل من النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا صلاها هو وأصحابه معه بعد الغروب ; فعلي وأصحابه أولى بذلك .

                  فإن كانت الصلاة بعد الغروب لا تجزئ ، أو ناقصة تحتاج إلى رد الشمس ، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى برد الشمس ، وإن كانت كاملة مجزئة فلا حاجة إلى ردها .

                  وأيضا فمثل هذه القضية من الأمور العظام الخارجة عن العادة ، التي تتوفر الهمم والدواعي على نقلها ، فإذا لم ينقلها إلا الواحد والاثنان علم بيان كذبهم في ذلك .

                  وانشقاق القمر كان بالليل وقت نوم الناس ، ومع هذا فقد رواه الصحابة من غير وجه ، وأخرجوه في الصحاح والسنن والمساند [44] من غير وجه [45] ، ونزل به القرآن ، فكيف برد الشمس التي تكون بالنهار ، ولا يشتهر ذلك ، ولا ينقله أهل العلم نقل مثله ؟ !

                  [ ص: 172 ] ولا يعرف قط أن الشمس رجعت بعد غروبها ، وإن كان كثير من الفلاسفة والطبيعيين وبعض أهل الكلام ينكر انشقاق القمر ، وما يشبه ذلك ، فليس الكلام في هذا المقام . لكن الغرض أن هذا من أعظم خوارق العادات في الفلك ، وكثير من الناس ينكر إمكانه ، فلو وقع لكان ظهوره ونقله أعظم من ظهور ما دونه ونقله ، فكيف يقبل وحديثه ليس له إسناد مشهور ؟ فإن هذا يوجب العلم اليقيني بأنه كذب لم يقع .

                  وإن كانت الشمس احتجبت بغيم ، ثم ارتفع سحابها ، فهذا من الأمور المعتادة ، ولعلهم ظنوا أنها غربت ، ثم كشف الغمام عنها .

                  وهذا - وإن كان قد وقع - ففيه أن الله بين له بقاء الوقت حتى يصلي فيه . ومثل هذا يجري لكثير من الناس .

                  وهذا الحديث قد صنف فيه مصنف جمعت فيه طرقه : صنفه أبو القاسم عبد الله بن عبد الله [46] بن أحمد الحكاني سماه " مسألة في تصحيح رد الشمس وترغيب النواصب الشمس " [47] وقال : هذا حديث روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طريق أسماء بنت عميس الخثعمية ، ومن طريق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، ومن طريق أبي هريرة وأبي سعيد . وذكر حديث أسماء من طريق محمد بن أبي فديك . [ ص: 173 ] قال : " أخبرني محمد بن موسى - وهو القطري - عن عون بن محمد ، عن أمه - أم جعفر - عن جدتها أسماء بنت عميس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر ، ثم أرسل عليا في حاجة ، فرجع وقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني العصر ، فوضع رأسه في حجر علي ولم يحركه حتى غابت الشمس ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : اللهم إن عبدك عليا [ في طاعتك وطاعة رسولك ] [48] احتبس نفسه على نبيه [49] ، فرد عليه شرقها . قالت أسماء : فطلعت الشمس حتى وقعت على الجبال ، فقام علي فتوضأ وصلى العصر ، ثم غابت الشمس " .

                  قال أبو القاسم المصنف : " أم جعفر هذه هي أم محمد بن جعفر بن أبي طالب ، والراوي عنها هو ابنها عون بن محمد بن علي المعروف ، أبوه محمد بن الحنفية ، والراوي عنه هو محمد [50] بن موسى المديني ، المعروف بالقطري . محمود في روايته ثقة . والراوي عنه محمد بن إسماعيل بن أبي فديك المدني : ثقة . وقد رواه عنه جماعة : منهم هذا الذي ذكرت روايته ، وهو أحمد بن الوليد الأنطاكي ، وقد رواه [51] عنه نفر منهم أحمد بن عمير بن حوصاء ، وذكره بإسناده من طريقه ، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بالصهباء ، ثم أرسل عليا في حاجة ، فرجع وقد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - العصر ، فوضع رأسه في حجر علي ، فلم يحركه حتى غربت الشمس ، فقال النبي - صلى الله عليه [ ص: 174 ] وسلم : اللهم إن عبدك عليا احتبس نفسه على نبيه ، فرد عليها شرقها . قالت أسماء : فطلعت الشمس حتى وقعت على الجبال وعلى الأرض ، فقام علي وتوضأ وصلى العصر ، وذلك في الصهباء في غزوة خيبر .

                  قال : ومنهم أحمد بن صالح المصري ، عن ابن أبي فديك ، رواه أبو جعفر الطحاوي في كتاب " تفسير متشابه الأخبار " من تأليفه من طريقه .

                  ومنهم الحسن بن داود عن ابن أبي فديك ، وذكره بإسناده ، ولفظه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بالصهباء من أرض خيبر ، ثم أرسل عليا في حاجة ، فرجع وقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العصر ، فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه في حجر علي ، فلم يحركه حتى غربت الشمس ، فاستيقظ وقال : يا علي صليت العصر ؟ قال : لا . وذكره . قال : ويرويه عن أسماء فاطمة بنت الحسين الشهيد .

                  ورواه من طريق أبي جعفر الحضرمي ، حدثنا محمد بن مرزوق ، حدثنا حسين الأشقر ، حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن إبراهيم بن الحسن ، عن فاطمة ، عن أسماء بنت عميس ، قالت : نزل جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ما صلى العصر ، فوضع رأسه - أو خده لا أدري أيهما قال - في حجر علي ، ولم يصل العصر حتى غابت الشمس " وذكره .

                  قال المصنف : " ورواه عن فضيل بن مرزوق جماعة ، منهم عبيد الله [ ص: 175 ] ابن موسى العبسي . ورواه الطحاوي من طريقه ، ولفظه : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوحى إليه ورأسه في حجر علي ، فلم يصل العصر حتى غابت الشمس .

                  ورواه أيضا من حديث عمار بن مطر عن فضيل ( * بن مرزوق ، من طريق أبي جعفر العقيلي صاحب كتاب " الضعفاء " .

                  قلت : وهذا اللفظ يناقض الأول ، ففيه أنه نام في حجره * ) [52] من صلاة العصر إلى غروب الشمس ، وأن ذلك في غزوة خيبر بالصهباء . وفي الثاني أنه كان مستيقظا يوحي إليه جبريل ، ورأسه في حجر علي حتى غربت الشمس . وهذا التناقض يدل على أنه غير محفوظ ; لأن هذا صرح [53] بأنه كان نائما هذا الوقت ، وهذا قال : كان يقظان يوحى إليه ، وكلاهما باطل ; فإن النوم بعد العصر مكروه منهي عنه ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - تنام عيناه ولا ينام قلبه ، فكيف تفوت عليا صلاة العصر ؟

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية