الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ثم تفويت الصلاة بمثل هذا ، إما أن يكون جائزا ، وإما أنه لا يجوز [1] . فإن كان جائزا لم يكن على علي إثم إذا صلى العصر بعد الغروب ، وليس علي أفضل من النبي - صلى الله عليه وسلم - والنبي - صلى الله عليه وسلم - فاتته العصر يوم الخندق حتى غربت الشمس ، ثم صلاها ، ولم ترد عليه الشمس ، وكذلك لم ترد لسليمان لما توارت بالحجاب .

                  [ ص: 176 ] وقد نام النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه علي وسائر الصحابة عن الفجر حتى طلعت الشمس ، ولم ترجع لهم [2] إلى الشرق .

                  وإن كان التفويت محرما ، فتفويت [3] العصر من الكبائر . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله " [4] .

                  وعلي كان يعلم أنها الوسطى ، وهي صلاة العصر . وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين لما قال : " شغلونا عن الصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، حتى غربت الشمس ، ملأ الله أجوافهم وبيوتهم نارا " [5] وهذا كان في الخندق وخيبر بعد الخندق .

                  فعلي أجل قدرا من أن يفعل [ مثل ] [6] هذه الكبيرة ، ويقره عليها جبريل ورسول الله - صلى الله عليه وسلم . ومن فعل هذا كان من مثالبه لا من مناقبه ، وقد نزه الله عليا عن ذلك . ثم إذا فاتت لم يسقط الإثم عنه بعود الشمس .

                  وأيضا فإذا كانت هذه القصة في خيبر في البرية قدام العسكر ، والمسلمون أكثر من ألف وأربعمائة ، كان هذا مما يراه العسكر [ ص: 177 ] ويشاهدونه . ومثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي عن نقله ; فيمتنع أن ينفرد بنقله الواحد والاثنان ، فلو نقله الصحابة لنقله منهم أهل العلم ، كما نقلوا أمثاله ، لم ينقله المجهولون الذين لا يعرف ضبطهم وعدالتهم .

                  وليس في جميع أسانيد هذا الحديث إسناد واحد يثبت ، تعلم عدالة ناقليه وضبطهم ، ولا يعلم اتصال إسناده .

                  وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر : " لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله " [7] فنقل ذلك غير واحد من الصحابة ، وأحاديثهم في الصحاح والسنن والمساند [8] .

                  وهذا الحديث ليس في شيء من كتب الحديث المعتمدة : ( * لا رواه أهل الصحيح [9] ولا أهل السنن ولا المساند أصلا [10] ، بل اتفقوا على تركه والإعراض عنه ، فكيف يكون مثل هذه الواقعة العظيمة ، التي هي لو كانت حقا من أعظم المعجزات المشهورة الظاهرة ، ولم يروها أهل الصحاح * ) [11] والمساند ، ولا نقلها أحد من علماء المسلمين وحفاظ الحديث ، ولا يعرف في شيء من كتب الحديث المعتمدة ! !

                  والإسناد الأول رواه القطري ، عن عون ، عن أمه ، عن [12] أسماء بنت عميس . وعون وأمه ليسا ممن يعرف حفظهم وعدالتهم ، ولا من [ ص: 178 ] المعروفين بنقل العلم ، ولا يحتج [13] بحديثهم في أهون الأشياء ، فكيف في مثل هذا ؟ ولا فيه سماع المرأة من [14] أسماء بنت عميس ، فلعلها سمعت من يحكيه عن أسماء فذكرته .

                  وهذا المصنف ذكر عن ابن أبي فديك أنه ثقة ، وعن القطري أنه ثقة ، ولم يمكنه [15] أن يذكر عمن بعدهما أنه ثقة ، وإنما ذكر أنسابهم . ومجرد المعرفة بنسب الرجل لا توجب أن يكون حافظا ثقة .

                  وأما الإسناد الثاني فمداره على فضيل بن مرزوق ، وهو معروف بالخطأ على الثقات ، وإن كان لا يتعمد الكذب [16] . قال فيه ابن حبان : يخطئ على الثقات ، ويروي عن عطية الموضوعات [17] . وقال فيه أبو حاتم الرازي [18] : لا يحتج به . وقال فيه يحيى بن معين مرة : هو ضعيف . وهذا لا يناقضه قول أحمد بن حنبل فيه : لا أعلم إلا خيرا ، وقول سفيان : هو ثقة ، وقول يحيى [19] مرة : هو ثقة [20] ; فإنه ليس ممن يتعمد الكذب ، ولكنه [ ص: 179 ] يخطئ ، وإذا روى له مسلم ما تابعه غيره عليه ، لم يلزم أن يروي ما انفرد به ، مع أنه لم يعرف سماعه عن إبراهيم ، ولا سماع إبراهيم من فاطمة ، ولا سماع فاطمة من أسماء .

                  ولا بد في ثبوت هذا الحديث من أن يعلم أن كلا من هؤلاء عدل ضابط ، وأنه سمع من الآخر ، وليس هذا معلوما . وإبراهيم هذا لم يرو له أهل الكتب المعتمدة - كالصحاح والسنن - ولا له ذكر في هذه الكتب ، بخلاف فاطمة بنت الحسين ، فإن لها حديثا معروفا ، فكيف يحتج بحديث مثل هذا ؟ ولهذا لم يروه أحد من علماء الحديث المعروفين في الكتب المعتمدة .

                  وكون الرجل أبوه كبير القدر لا يوجب أن يكون هو من العلماء المأمونين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عنه . وأسماء بنت عميس كانت عند جعفر ، ثم خلف عليها أبو بكر ، ثم خلف عليها علي ، ولها من كل [ من ] [21] هؤلاء ولد ، وهم يحبون عليا ، ولم يرو هذا أحد منهم عن أسماء . ومحمد بن أبي بكر الذي في حجر علي هو ابنها ، ومحبته لعلي مشهورة ، ولم يرو هذا عنها .

                  وأيضا فأسماء كانت زوجة جعفر بن أبي طالب ، وكانت معه في الحبشة ، وإنما قدمت معه بعد فتح خيبر . وهذه القصة قد ذكر أنها كانت بخيبر ، فإن كانت صحيحة كان ذلك بعد فتح خيبر ، وقد كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن شهد خيبر أهل الحديبية : ألف وأربعمائة ، [ ص: 180 ] وازداد العسكر بجعفر ومن قدم معه من الحبشة ، كأبي موسى الأشعري وأصحابه ، والحبشة الذين قدموا مع جعفر في السفينة ، وازدادوا أيضا بمن كان معهم من أهل خيبر ، فلم يرو هذا أحد من هؤلاء ، وهذا مما يوجب القطع بأن هذا من الكذب المختلق .

                  والطعن في فضيل ومن بعده إذا تيقن بأنهم [22] رووه ، وإلا ففي إيصاله إليهم نظر ; فإن الراوي الأول عن فضيل : الحسين بن الحسن الأشقر الكوفي [23] ، ( * قال البخاري : عنده مناكير . وقال النسائي وقال الدارقطني [24] : ليس بالقوي . وقال الأزدي : ضعيف . وقال السعدي : حسين الأشقر * ) [25] غال من الشاتمين للخيرة . وقال ابن عدي : روى حديثا منكرا ، والبلاء عندي منه ، وكان جماعة من ضعفاء الكوفة يحيلون ما يروون عنه من الحديث فيه [26] .

                  وأما الطريق الثالث ففيه عمار بن مطر ، عن فضيل بن مرزوق . قال [ ص: 181 ] العقيلي : يحدث عن الثقات بالمناكير . وقال الرازي : كان يكذب أحاديث بواطل . وقال ابن عدي : متروك الحديث [27] .

                  والطريق الأول من حديث عبيد الله بن موسى العبسي

                  [28] ، وفي بعض طرقه عن فضيل ، وفي بعضها : " حدثنا " [29] فإذا لم يثبت أنه قال : " حدثنا " [30] أمكن أن لا يكون سمعه ; فإنه من الدعاة إلى التشيع ، الحراص على جمع أحاديث التشيع ، وكان يروي الأحاديث في ذلك عن الكذابين ، وهو من المعروفين بذلك . وإن كانوا قد قالوا فيه : ثقة ، وإنه [ ص: 182 ] لا يكذب ، فالله أعلم أنه هل كان يتعمد الكذب أم لا ؟ لكنه كان يروي عن الكذابين المعروفين بالكذب بلا ريب . والبخاري لا يروي عنه إلا ما عرف به أنه صحيح من غير طريقه ، وأحمد بن حنبل لم يرو عنه شيئا . قال المصنف : وله روايات عن فاطمة سوى ما قدمنا [31] .

                  ثم رواه بطريق مظلمة ، يظهر أنها كذب لمن له معرفة منوطة بالحديث ، فرواه من حديث أبي حفص الكتاني [32] ، حدثنا محمد بن عمر [33] القاضي - هو الجعاني - حدثنا محمد بن إبراهيم بن جعفر العسكري من أصل كتابه ، حدثنا أحمد بن محمد بن يزيد بن سليم ، حدثنا خلف بن سالم ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا سفيان الثوري ، عن أشعث بن أبي الشعثاء ، عن أمه ، عن فاطمة ، عن أسماء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لعلي حتى ردت عليه الشمس .

                  وهذا مما لا يقبل نقله إلا ممن عرف عدالته وضبطه ، لا من مجهول الحال ، فكيف إذا كان مما يعلم أهل الحديث أن الثوري لم يحدث به ، ولا حدث به عبد الرزاق ؟ وأحاديث الثوري وعبد الرزاق يعرفها أهل العلم بالحديث ، ولهم أصحاب يعرفونها . ورواه خلف بن سالم . ولو قدر أنهم رووه فأم أشعث مجهولة لا يقوم بروايتها شيء .

                  وذكر طريقا ثانيا من طريق محمد بن مرزوق ، حدثنا حسين الأشقر ، عن علي بن هاشم ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن [ ص: 183 ] علي بن الحسين ، عن فاطمة بنت علي ، عن أسماء بنت عميس . . الحديث .

                  قلت [34] : وقد تقدم كلام العلماء في حسين الأشقر ، فلو كان الإسناد كلهم ثقات ، والإسناد متصل ، لم يثبت بروايته شيء ، فكيف إذا لم يثبت ذلك ؟ وعلي بن هاشم بن البريد قال البخاري : هو وأبوه غاليان في مذهبهما . وقال ابن حبان : كان غاليا في التشيع ، يروي المناكير عن المشاهير [35] . وإخراج أهل الحديث [36] لما عرفوه من غير طريقه لا يوجب أن يثبت ما انفرد به .

                  ومن العجب أن هذا المصنف جعل هذا والذي بعده من طريق رواية فاطمة بنت الحسين . وهذه فاطمة بنت علي لا بنت الحسين .

                  وكذلك ( * ذكر الطريق الثالث عنها : من رواية عبد الرحمن بن شريك ، حدثنا أبي ، عن عروة بن عبد الله ، عن فاطمة بنت * ) [37] علي ، عن أسماء ، عن علي بن أبي طالب ، رفع [38] إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أوحي إليه فجلله بثوبه ، فلم يزل كذلك حتى أدبرت الشمس ، يقول : غابت أو كادت تغيب ، وأن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - سري عنه ، فقال : أصليت يا علي ؟ قال : لا . قال : اللهم رد على علي الشمس ، فرجعت الشمس حتى بلغت نصف المسجد .

                  [ ص: 184 ] فيقتضي أنها رجعت إلى قريب وقت العصر ، وأن هذا كان بالمدينة . وفي ذاك الطريق أنه كان بخيبر ، وأنها إنما [39] ظهرت على رءوس الجبال . وعبد الرحمن بن شريك قال أبو حاتم الرازي : هو واهي الحديث ، وكذلك قد ضعفه غيره .

                  ورواه من طريق رابع من حديث محمد بن عمر القاضي - وهو الجعاني - عن العباس بن الوليد [40] ، ( * عن عباد [41] وهو الرواجني * ) [42] ، حدثنا علي بن هاشم ، عن صباح بن [43] عبد الله بن الحسين أبي جعفر ، عن [44] حسين المقتول ، عن فاطمة ، عن أسماء بنت عميس ، قالت : كان يوم خيبر شغل عليا ما كان من قسم المغانم [45] ، حتى غابت الشمس أو كادت . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : أما صليت ؟ قال : لا . فدعا الله فارتفعت حتى توسطت السماء ، فصلى علي ، فلما غابت الشمس سمعت لها صريرا كصرير المنشار في الحديد .

                  وهذا اللفظ الرابع يناقض الألفاظ الثلاثة المتناقضة ، وتبين أن [ ص: 185 ] الحديث لم يروه صادق ضابط ، بل هو في نفس الأمر مما اختلقه واحد وعملته يداه ، فتشبه به آخر ، فاختلق ما يشبه حديث ذلك . والقصة واحدة . وفي هذا أن عليا إنما اشتغل بقسم المغانم لا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلي لم يقسم مغانم خيبر ، ولا يجوز الاشتغال بقسمتها عن الصلاة ; فإن خيبر بعد الخندق ، سنة [46] سبع ، وبعد الحديبية ، سنة ست . وهذا من المتواتر عند أهل العلم .

                  والخندق كانت قبل ذلك ، إما سنة خمس أو أربع ، وفيها أنزل الله تعالى : ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) [ سورة البقرة : 238 ] ، ونسخ التأخير بها [47] يوم الخندق ، مع أنه كان للقتال عند أكثر أهل العلم [48] . ومن قال : إنه لم ينسخ ، بل يجوز التأخير للقتال ، كأبي حنيفة ، وأحمد - في إحدى الروايتين - فلم يتنازع العلماء أنه لم يجز تفويت الصلاة لأجل قسم الغنائم ; فإن هذا لا يفوت ، والصلاة تفوت .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية