( فصل ) 
قال الرافضي [1]  : " الحادي عشر : روى جماعة أهل السير أن  [ ص: 202 ]  عليا  كان [2] يخطب على منبر الكوفة  ، فظهر ثعبان فرقي المنبر ، وخاف الناس [3] ، وأرادوا قتله ، فمنعهم ، فخاطبه ، ثم نزل [4]  . فسأل الناس عنه ، فقال : إنه حاكم الجن ، التبست عليه قصة [5] ، فأوضحتها له ، وكان أهل الكوفة   يسمون الباب الذي دخل منه [ الثعبان ] [6]  : " باب الثعبان " ، فأراد بنو أمية  إطفاء هذه الفضيلة ، فنصبوا على ذلك الباب قتلى مدة ، حتى سمي : باب القتلى  " [7]  . 
والجواب : أنه لا ريب أن من دون  علي  بكثير تحتاج الجن إليه وتستفتيه وتسأله ، وهذا معلوم قديما وحديثا ، فإن كان هذا قد وقع ، فقدره أجل من ذلك . وهذا من أدنى فضائل من هو دونه . وإن لم يكن وقع ، لم ينقص فضله بذلك . 
وإنما يحتاج أن يثبت فضيلة  علي  بمثل هذه الأمور من يكون مجدبا [8] منها ، فأما من باشر أهل الخير والدين ، الذين لهم أعظم من هذه الخوارق ، أو رأى في نفسه ما هو أعظم من هذه الخوارق ، لم يكن هذا مما يوجب أن يفضل بها  علي   . 
ونحن نعلم أن من هو دون علي بكثير من الصحابة خير منا بكثير ،  [ ص: 203 ] فكيف يمكن مع هذا أن يجعل مثل هذا حجة على فضيلة علي على الواحد منا ، فضلا عن  أبي بكر   وعمر  ؟ ! 
ولكن الرافضة   - لجهلهم وظلمهم وبعدهم عن طريق أولياء الله - ليس لهم من كرامات الأولياء  المتقين ما يعتد به ، فهم لإفلاسهم منها إذا سمعوا شيئا من خوارق العادات عظموه تعظيم المفلس للقليل من النقد ، والجائع للكسرة من الخبز . 
ولو ذكرنا ما باشرناه نحن من هذا الجنس ، مما هو أعظم من ذلك مما قد رآه الناس ، لذكرنا شيئا كثيرا . 
والرافضة   - لفرط جهلهم وبعدهم عن ولاية الله وتقواه - ليس لهم نصيب كثير من كرامات الأولياء [9] ، فإذا سمعوا مثل هذا عن  علي  ظنوا أن هذا لا يكون إلا لأفضل الخلق ، بل هذه الخوارق المذكورة - وما هو أعظم منها - يكون لخلق كثير من أمة محمد  النبي - صلى الله عليه وسلم - المعروفين بأن  أبا بكر   وعمر   وعثمان   وعليا  خير منهم ، الذين يتولون الجميع ويحبونهم ، ويقدمون من قدم الله ورسوله ، لا سيما الذين يعرفون قدر  الصديق  ويقدمونه ، فإنهم أخص هذه الأمة بولاية الله وتقواه . 
واللبيب يعرف ذلك بطرق [10]  . إما أن يطالع الكتب المصنفة في أخبار الصالحين وكرامات الأولياء ، مثل كتاب  ابن أبي الدنيا  ، وكتاب الخلال  ،  واللالكائي  ، وغيرهم ، ومثل ما يوجد من ذلك في أخبار الصالحين ، مثل " الحلية " لأبي نعيم  ، " وصفوة [11] الصفوة " وغير ذلك . 
 [ ص: 204 ] وإما أن يكون قد باشر من رأى ذلك . وإما أن يخبره بذلك من هو عنده صادق . 
فما زال الناس في كل عصر يقع لهم من ذلك شيء كثير ، ويحكي ذلك بعضهم لبعض . وهذا كثير [12] في كثير من المسلمين . 
وإما أن يكون بنفسه وقع له بعض ذلك . 
وهذه جيوش  أبي بكر   وعمر  ورعيتها : لهم من ذلك أعظم من ذلك . مثل  العلاء بن الحضرمي  وعبوره على الماء ، كما تقدم ذكره ، فإن هذا أعظم من نضوب الماء ، ومثل استقائه ، ومثل البقر الذي كلم سعد بن أبي وقاص  في وقعة القادسية  ، ومثل نداء  عمر   : " يا سارية الجبل  " وهو بالمدينة  ، وسارية  بنهاوند  ، ومثل شرب  خالد بن الوليد  السم . 
ومثل إلقاء  أبي مسلم الخولاني  في النار ، فصارت عليه النار بردا وسلاما ، لما ألقاه فيها الأسود العنسي المتنبئ الكذاب  ، وكان قد استولى على اليمن  ، فلما امتنع أبو مسلم  من الإيمان به ألقاه في النار ، فجعلها الله عليه بردا وسلاما ، فخرج منها يمسح جبينه ، وغير ذلك مما يطول وصفه . 
ومما ينبغي أن يعلم أن خوارق العادات تكون لأولياء الله بحسب حاجتهم  ، فمن كان بين الكفار أو المنافقين أو الفاسقين احتاج إليها لتقوية اليقين ; فظهرت عليه كظهور النور في الظلمة . 
فلهذا يوجد بعضها لكثير من المفضولين ، أكثر مما يوجد للفاضلين ; لحاجتهم إلى ذلك . 
 [ ص: 205 ] وهذه الخوارق لا تراد لنفسها ، بل لأنها وسيلة إلى طاعة الله ورسوله ، فمن جعلها غاية له ويعبد لأجلها ، لعبت به الشياطين ، وأظهرت له خوارق من جنس خوارق السحرة والكهان . فمن كان لا يتوصل إلى ذلك إلا بها ، كان أحوج إليها ، فتكثر في حقه أعظم مما تكثر في حق من استغنى عنها ; ولهذا كانت في التابعين أكثر منها في الصحابة . 
ونظير هذا في العلم : علم الأسماء واللغات : فإن المقصود بمعرفة النحو واللغة التوصل إلى فهم كتاب الله ورسوله وغير ذلك ، وأن ينحو الرجل بكلامه نحو كلام العرب . والصحابة لما استغنوا عن النحو واحتاج إليه من بعدهم ، صار لهم من الكلام في قوانين العربية ما لا يوجد مثله للصحابة ; لنقصهم وكمال الصحابة ، وكذلك صار لهم من الكلام في أسماء الرجال وأخبارهم ما لا يوجد مثله للصحابة [13]  ; لأن هذه وسائل تطلب لغيرها ، فكذلك كثير من النظر والبحث احتاج إليه كثير من المتأخرين ، واستغنى عنه الصحابة . 
وكذلك ترجمة القرآن لمن لا يفهمه بالعربية  ، يحتاج إليه من لغته فارسية تركية ورومية ، والصحابة لما كانوا عربا استغنوا عن ذلك . 
وكذلك كثير من التفسير والغريب يحتاج إليه كثير من الناس ، والصحابة استغنوا عنه . 
فمن جعل النحو ومعرفة الرجال ، والاصطلاحات النظرية والجدلية المعينة على النظر والمناظرة ، مقصودة لنفسها ، رأى أصحابها أعلم من  [ ص: 206 ] الصحابة ، كما يظنه كثير ممن أعمى الله بصيرته . ومن علم أنها مقصودة لغيرها ، علم أن الصحابة الذين علموا المقصود بهذه أفضل ممن لم تكن معرفتهم مثلهم في معرفة المقصود ، وإن كان بارعا في الوسائل . 
وكذلك الخوارق : كثير من المتأخرين صارت عنده مقصودة لنفسها ، فيكثر العبادة والجوع والسهر والخلوة ; ليحصل له نوع من المكاشفات والتأثيرات ، كما يسعى الرجل ليحصل له من السلطان والمال . وكثير من الناس إنما يعظم الشيوخ لأجل ذلك ، كما تعظم الملوك والأغنياء لأجل ملكهم وملكهم . 
وهذا الضرب قد يرى أن هؤلاء أفضل من الصحابة ; ولهذا يكثر في هذا الضرب المنكوس الخروج عن الرسالة ، وعن أمر الله ورسوله ، ويقفون مع أذواقهم وإراداتهم [14] ، لا عند طاعة الله ورسوله ، ويبتلون بسلب الأحوال ، ثم الأعمال ، ثم أداء الفرائض ، ثم الإيمان . 
كما أن [ من ] [15] أعطي ملكا ومالا فخرج فيه عن الشريعة وطاعة الله ورسوله ، واتبع فيه هواه ، وظلم الناس - عوقب على ذلك : إما بالعزل ، وإما بالخوف والعدو ، وإما بالحاجة والفقر ، وإما بغير ذلك . 
والمقصود لنفسه في الدنيا هو الاستقامة على ما يرضاه الله ويحبه ، باطنا وظاهرا . فكلما كان الرجل أتبع لما يرضاه الله ورسوله ، وأتبع لطاعة الله ورسوله ، كان أفضل . ومن حصل له المقصود من الإيمان واليقين والطاعة بلا خارق ، لم يحتج إلى خارق . 
 [ ص: 207 ] كما أن صديق الأمة  أبا بكر  ،  وعمر  ،  وعثمان  ،  وعليا  ،  وطلحة  ،  والزبير  ، وأمثالهم من السابقين الأولين ، لما تبين لهم أن محمدا   - صلى الله عليه وسلم - رسول الله آمنوا به [16] ، ولم يحتاجوا مع ذلك من الخوارق إلى ما احتاج إليه من لم يعرف كمعرفتهم . 
ومعرفة الحق له أسباب متعددة ، وقد نبهنا على ذلك في غير هذا الموضع ، في تقرير الرسالة وأعلام النبوة ، وبينا أن الطريق إلى معرفة صدق الرسول كثيرة جدا ، وأن طريق المعجزات طريق من الطرق ، وأن من قال من النظار : ( * إن تصديق الرسول لا يمكن إلا بالمعجزة ، كان كمن قال : إن معرفة الصانع لا تحصل إلا بالمعرفة بحدوث العالم [17]  . 
وهذا وأمثاله مما يقوله كثير من النظار * ) [18] الذين يحصرون نوعا من العلم بدليل معين يدعون أنه لا يحصل إلا بذلك ، مما أوجب تفرق الناس ، فطائفة توافقهم على ذلك ; فيوجبون على كل أحد ما لم يوجبه الله ورسوله ، لا سيما إن كان ذلك الطريق الذي استدلوا به مقدوحا في بعض مقدماته ، كأدلتهم على حدوث العالم بحدوث الأجسام . 
وطائفة تقدح في الطرق [19] النظرية جملة ، وتسد باب النظر والمناظرة ، وتدعي تحريم ذلك مطلقا ، واستغناء الناس عنه ، فتقع الفتنة بين هؤلاء وهؤلاء [20]  . 
 [ ص: 208 ] وحقيقة الأمر أن طرق العلم متعددة ، وقد يغني الله كثيرا من الناس عن تلك الطرق المعينة ، بل عن النظر بعلوم ضرورية تحصل لهم ، وإن كانت العبادة قد تعد النفس لتلك العلوم الضرورية حتى تحصل إلهاما . وطائفة من الناس يحتاجون إلى النظر . أو إلى تلك الطرق : إما لعدم ما يحصل لغيرهم ، وإما لشبه عرضت لهم لا [21] تزول إلا بالنظر . 
وكذلك [ كثير ] [22] من الأحوال التي تعرض لبعض السالكين [23]  : من [24] الصعق والغشي والاضطراب عند الذكر وسماع القرآن وغيره ، ومن الفناء عن شهود المخلوقات ، بحيث يصطلم [25] ويبقى لا يشهد قلبه إلا الله ، حتى يغيب بمشهوده عن نفسه . فمن الناس من يجعل هذا لازما لا بد لكل من سلك [26] منه ، ومنهم من يجعله هو الغاية ولا مقام وراءه ، ومنهم من يقدح في هذا ، ويجعله من البدع التي لم تنقل عن الصحابة . 
والتحقيق أن هذا أمر [ يقع ] [27] لبعض السالكين بحسب قوة الوارد  [ ص: 209 ] عليه ، وضعف القلب عن التمكين بحبه . فمن لم يجد ذلك : قد يكون لكمال قوته وكمال إيمانه ، وقد يكون لضعف إيمانه ، مثل كثير من البطالين والفساق وأهل البدع . وليس هذا من لوازم الطرق ، بل قد يستغني عنه كثير من السالكين ، وليس هو الغاية ، بل كمال الشهود ; بحيث يميز بين المخلوق والخالق ، ويشهد معاني أسماء الله وصفاته ، ولا يشغله هذا عن [28] هذا - هو أكمل في الشهود ، وأقوى في الإيمان . ولكن من عرض له تلك الحال [ التي تعرض ] [29] احتاج إلى ما يناسبها . وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع . 
لكن المقصود أن تعرف مرتبة الخوارق وأنها عند أولياء الله الذين يريدون وجهه ، ويحبون ما أحبه الله ورسوله ، في مرتبة الوسائل التي يستعان بها ، كما يستعان بغير الخوارق ، فإن لم يحتاجوا إليها - استغناء بالمعتادات - لم يتلفتوا إليها . وأما عند كثير ممن يتبع هواه ويحب الرياسة عند الجهال ونحو ذلك ، فهي عندهم أعلى المقاصد . 
كما أن كثيرا من طلبة العلم ليس مقصودهم به إلا تحصيل رياسة أو مال ، ولكل امرئ ما نوى . وأما أهل العلم والدين الذين هم أهله ، فهو [30] مقصود عندهم لمنفعته [31] لهم ، وحاجتهم إليه في الدنيا والآخرة . كما قال  معاذ بن جبل  في صفة العلم : إن [32] طلبه لله عبادة ، ومذاكرته  [ ص: 210 ] تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة ، به يعرف الله ويعبدونه ، ويمجد الله ويوحد [33]  . 
ولهذا تجد أهل الانتفاع به يزكون به نفوسهم ، ويقصدون فيه اتباع الحق لا اتباع الهوى ويسلكون فيه سبيل العدل والإنصاف ، ويحبونه ويلتذون به ، ويحبون كثرته وكثرة أهله ، وتنبعث هممهم على العمل به وبموجبه ومقتضاه [34] ، بخلاف من لم يذق حلاوته وليس مقصوده إلا مالا أو رياسة ، فإن ذلك لو حصل له بطريق آخر سلكه ، وربما رجحه إذا كان أسهل عليه . 
ومن عرف هذا تبين له أن المقاصد التي يحبها الله ويرضاها التي حصلت  لأبي بكر  ، أكمل مما حصل  لعمر  ، والتي حصلت  لعمر  أكمل مما حصل  لعثمان  ، والتي حصلت  لعثمان  أكمل مما حصل  لعلي  ، وأن الصحابة كانوا أعلم الخلق بالحق ، وأتبعهم له  ، وأحقهم بالعدل ، وإيتاء كل ذي حق حقه ، وأنه لم يقدح فيهم إلا مفرط في الجهل بالحقائق التي بها [35] يستحق المدح والتفضيل ، وبما آتاهم الله من الهدى إلى سواء السبيل . 
ولهذا من لم يسلك في عبادته الطريق الشرعية التي أمر الله بها  [ ص: 211 ] ورسوله ، وتعلقت همته بالخوارق  ، فإنه قد يقترن به من الجن والشياطين [36] من يحصل له به نوع من الخبر عن بعض الكائنات ، أو يطير به في الهواء ، أو يمشي به على الماء ، فيظن ذلك من كرامات الأولياء ، وأنه ولي لله ، ويكون سبب شركه أو كفره ، أو بدعته أو فسقه . 
فإن هذا الجنس قد يحصل لبعض الكفار وأهل الكتاب وغيرهم ، وقد يحصل لبعض الملحدين المنتسبين إلى المسلمين ، مثل من لا يرى الصلوات واجبة ، بل ولا يقر بأن محمدا  رسول الله ، بل يبغضه ويبغض القرآن ، ونحو ذلك من الأمور التي توجب كفره ، ومع هذا تغويه الشياطين ببعض الخوارق ، كما تغوي المشركين ، كما كانت تقترن بالكهان والأوثان ، وهي اليوم كذلك في المشركين من أهل الهند   والترك  والحبشة  ، وفي كثير من المشهورين في البلاد التي فيها الإسلام ممن هو كافر أو فاسق ، أو جاهل مبتدع ، كما قد بسط في موضع آخر . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					