الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ( فصل )

                  قال الرافضي [1] : " الحادي عشر : روى جماعة أهل السير أن [ ص: 202 ] عليا كان [2] يخطب على منبر الكوفة ، فظهر ثعبان فرقي المنبر ، وخاف الناس [3] ، وأرادوا قتله ، فمنعهم ، فخاطبه ، ثم نزل [4] . فسأل الناس عنه ، فقال : إنه حاكم الجن ، التبست عليه قصة [5] ، فأوضحتها له ، وكان أهل الكوفة يسمون الباب الذي دخل منه [ الثعبان ] [6] : " باب الثعبان " ، فأراد بنو أمية إطفاء هذه الفضيلة ، فنصبوا على ذلك الباب قتلى مدة ، حتى سمي : باب القتلى " [7] .

                  والجواب : أنه لا ريب أن من دون علي بكثير تحتاج الجن إليه وتستفتيه وتسأله ، وهذا معلوم قديما وحديثا ، فإن كان هذا قد وقع ، فقدره أجل من ذلك . وهذا من أدنى فضائل من هو دونه . وإن لم يكن وقع ، لم ينقص فضله بذلك .

                  وإنما يحتاج أن يثبت فضيلة علي بمثل هذه الأمور من يكون مجدبا [8] منها ، فأما من باشر أهل الخير والدين ، الذين لهم أعظم من هذه الخوارق ، أو رأى في نفسه ما هو أعظم من هذه الخوارق ، لم يكن هذا مما يوجب أن يفضل بها علي .

                  ونحن نعلم أن من هو دون علي بكثير من الصحابة خير منا بكثير ، [ ص: 203 ] فكيف يمكن مع هذا أن يجعل مثل هذا حجة على فضيلة علي على الواحد منا ، فضلا عن أبي بكر وعمر ؟ !

                  ولكن الرافضة - لجهلهم وظلمهم وبعدهم عن طريق أولياء الله - ليس لهم من كرامات الأولياء المتقين ما يعتد به ، فهم لإفلاسهم منها إذا سمعوا شيئا من خوارق العادات عظموه تعظيم المفلس للقليل من النقد ، والجائع للكسرة من الخبز .

                  ولو ذكرنا ما باشرناه نحن من هذا الجنس ، مما هو أعظم من ذلك مما قد رآه الناس ، لذكرنا شيئا كثيرا .

                  والرافضة - لفرط جهلهم وبعدهم عن ولاية الله وتقواه - ليس لهم نصيب كثير من كرامات الأولياء [9] ، فإذا سمعوا مثل هذا عن علي ظنوا أن هذا لا يكون إلا لأفضل الخلق ، بل هذه الخوارق المذكورة - وما هو أعظم منها - يكون لخلق كثير من أمة محمد النبي - صلى الله عليه وسلم - المعروفين بأن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا خير منهم ، الذين يتولون الجميع ويحبونهم ، ويقدمون من قدم الله ورسوله ، لا سيما الذين يعرفون قدر الصديق ويقدمونه ، فإنهم أخص هذه الأمة بولاية الله وتقواه .

                  واللبيب يعرف ذلك بطرق [10] . إما أن يطالع الكتب المصنفة في أخبار الصالحين وكرامات الأولياء ، مثل كتاب ابن أبي الدنيا ، وكتاب الخلال ، واللالكائي ، وغيرهم ، ومثل ما يوجد من ذلك في أخبار الصالحين ، مثل " الحلية " لأبي نعيم ، " وصفوة [11] الصفوة " وغير ذلك .

                  [ ص: 204 ] وإما أن يكون قد باشر من رأى ذلك . وإما أن يخبره بذلك من هو عنده صادق .

                  فما زال الناس في كل عصر يقع لهم من ذلك شيء كثير ، ويحكي ذلك بعضهم لبعض . وهذا كثير [12] في كثير من المسلمين .

                  وإما أن يكون بنفسه وقع له بعض ذلك .

                  وهذه جيوش أبي بكر وعمر ورعيتها : لهم من ذلك أعظم من ذلك . مثل العلاء بن الحضرمي وعبوره على الماء ، كما تقدم ذكره ، فإن هذا أعظم من نضوب الماء ، ومثل استقائه ، ومثل البقر الذي كلم سعد بن أبي وقاص في وقعة القادسية ، ومثل نداء عمر : " يا سارية الجبل " وهو بالمدينة ، وسارية بنهاوند ، ومثل شرب خالد بن الوليد السم .

                  ومثل إلقاء أبي مسلم الخولاني في النار ، فصارت عليه النار بردا وسلاما ، لما ألقاه فيها الأسود العنسي المتنبئ الكذاب ، وكان قد استولى على اليمن ، فلما امتنع أبو مسلم من الإيمان به ألقاه في النار ، فجعلها الله عليه بردا وسلاما ، فخرج منها يمسح جبينه ، وغير ذلك مما يطول وصفه .

                  ومما ينبغي أن يعلم أن خوارق العادات تكون لأولياء الله بحسب حاجتهم ، فمن كان بين الكفار أو المنافقين أو الفاسقين احتاج إليها لتقوية اليقين ; فظهرت عليه كظهور النور في الظلمة .

                  فلهذا يوجد بعضها لكثير من المفضولين ، أكثر مما يوجد للفاضلين ; لحاجتهم إلى ذلك .

                  [ ص: 205 ] وهذه الخوارق لا تراد لنفسها ، بل لأنها وسيلة إلى طاعة الله ورسوله ، فمن جعلها غاية له ويعبد لأجلها ، لعبت به الشياطين ، وأظهرت له خوارق من جنس خوارق السحرة والكهان . فمن كان لا يتوصل إلى ذلك إلا بها ، كان أحوج إليها ، فتكثر في حقه أعظم مما تكثر في حق من استغنى عنها ; ولهذا كانت في التابعين أكثر منها في الصحابة .

                  ونظير هذا في العلم : علم الأسماء واللغات : فإن المقصود بمعرفة النحو واللغة التوصل إلى فهم كتاب الله ورسوله وغير ذلك ، وأن ينحو الرجل بكلامه نحو كلام العرب . والصحابة لما استغنوا عن النحو واحتاج إليه من بعدهم ، صار لهم من الكلام في قوانين العربية ما لا يوجد مثله للصحابة ; لنقصهم وكمال الصحابة ، وكذلك صار لهم من الكلام في أسماء الرجال وأخبارهم ما لا يوجد مثله للصحابة [13] ; لأن هذه وسائل تطلب لغيرها ، فكذلك كثير من النظر والبحث احتاج إليه كثير من المتأخرين ، واستغنى عنه الصحابة .

                  وكذلك ترجمة القرآن لمن لا يفهمه بالعربية ، يحتاج إليه من لغته فارسية تركية ورومية ، والصحابة لما كانوا عربا استغنوا عن ذلك .

                  وكذلك كثير من التفسير والغريب يحتاج إليه كثير من الناس ، والصحابة استغنوا عنه .

                  فمن جعل النحو ومعرفة الرجال ، والاصطلاحات النظرية والجدلية المعينة على النظر والمناظرة ، مقصودة لنفسها ، رأى أصحابها أعلم من [ ص: 206 ] الصحابة ، كما يظنه كثير ممن أعمى الله بصيرته . ومن علم أنها مقصودة لغيرها ، علم أن الصحابة الذين علموا المقصود بهذه أفضل ممن لم تكن معرفتهم مثلهم في معرفة المقصود ، وإن كان بارعا في الوسائل .

                  وكذلك الخوارق : كثير من المتأخرين صارت عنده مقصودة لنفسها ، فيكثر العبادة والجوع والسهر والخلوة ; ليحصل له نوع من المكاشفات والتأثيرات ، كما يسعى الرجل ليحصل له من السلطان والمال . وكثير من الناس إنما يعظم الشيوخ لأجل ذلك ، كما تعظم الملوك والأغنياء لأجل ملكهم وملكهم .

                  وهذا الضرب قد يرى أن هؤلاء أفضل من الصحابة ; ولهذا يكثر في هذا الضرب المنكوس الخروج عن الرسالة ، وعن أمر الله ورسوله ، ويقفون مع أذواقهم وإراداتهم [14] ، لا عند طاعة الله ورسوله ، ويبتلون بسلب الأحوال ، ثم الأعمال ، ثم أداء الفرائض ، ثم الإيمان .

                  كما أن [ من ] [15] أعطي ملكا ومالا فخرج فيه عن الشريعة وطاعة الله ورسوله ، واتبع فيه هواه ، وظلم الناس - عوقب على ذلك : إما بالعزل ، وإما بالخوف والعدو ، وإما بالحاجة والفقر ، وإما بغير ذلك .

                  والمقصود لنفسه في الدنيا هو الاستقامة على ما يرضاه الله ويحبه ، باطنا وظاهرا . فكلما كان الرجل أتبع لما يرضاه الله ورسوله ، وأتبع لطاعة الله ورسوله ، كان أفضل . ومن حصل له المقصود من الإيمان واليقين والطاعة بلا خارق ، لم يحتج إلى خارق .

                  [ ص: 207 ] كما أن صديق الأمة أبا بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليا ، وطلحة ، والزبير ، وأمثالهم من السابقين الأولين ، لما تبين لهم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رسول الله آمنوا به [16] ، ولم يحتاجوا مع ذلك من الخوارق إلى ما احتاج إليه من لم يعرف كمعرفتهم .

                  ومعرفة الحق له أسباب متعددة ، وقد نبهنا على ذلك في غير هذا الموضع ، في تقرير الرسالة وأعلام النبوة ، وبينا أن الطريق إلى معرفة صدق الرسول كثيرة جدا ، وأن طريق المعجزات طريق من الطرق ، وأن من قال من النظار : ( * إن تصديق الرسول لا يمكن إلا بالمعجزة ، كان كمن قال : إن معرفة الصانع لا تحصل إلا بالمعرفة بحدوث العالم [17] .

                  وهذا وأمثاله مما يقوله كثير من النظار * ) [18] الذين يحصرون نوعا من العلم بدليل معين يدعون أنه لا يحصل إلا بذلك ، مما أوجب تفرق الناس ، فطائفة توافقهم على ذلك ; فيوجبون على كل أحد ما لم يوجبه الله ورسوله ، لا سيما إن كان ذلك الطريق الذي استدلوا به مقدوحا في بعض مقدماته ، كأدلتهم على حدوث العالم بحدوث الأجسام .

                  وطائفة تقدح في الطرق [19] النظرية جملة ، وتسد باب النظر والمناظرة ، وتدعي تحريم ذلك مطلقا ، واستغناء الناس عنه ، فتقع الفتنة بين هؤلاء وهؤلاء [20] .

                  [ ص: 208 ] وحقيقة الأمر أن طرق العلم متعددة ، وقد يغني الله كثيرا من الناس عن تلك الطرق المعينة ، بل عن النظر بعلوم ضرورية تحصل لهم ، وإن كانت العبادة قد تعد النفس لتلك العلوم الضرورية حتى تحصل إلهاما . وطائفة من الناس يحتاجون إلى النظر . أو إلى تلك الطرق : إما لعدم ما يحصل لغيرهم ، وإما لشبه عرضت لهم لا [21] تزول إلا بالنظر .

                  وكذلك [ كثير ] [22] من الأحوال التي تعرض لبعض السالكين [23] : من [24] الصعق والغشي والاضطراب عند الذكر وسماع القرآن وغيره ، ومن الفناء عن شهود المخلوقات ، بحيث يصطلم [25] ويبقى لا يشهد قلبه إلا الله ، حتى يغيب بمشهوده عن نفسه . فمن الناس من يجعل هذا لازما لا بد لكل من سلك [26] منه ، ومنهم من يجعله هو الغاية ولا مقام وراءه ، ومنهم من يقدح في هذا ، ويجعله من البدع التي لم تنقل عن الصحابة .

                  والتحقيق أن هذا أمر [ يقع ] [27] لبعض السالكين بحسب قوة الوارد [ ص: 209 ] عليه ، وضعف القلب عن التمكين بحبه . فمن لم يجد ذلك : قد يكون لكمال قوته وكمال إيمانه ، وقد يكون لضعف إيمانه ، مثل كثير من البطالين والفساق وأهل البدع . وليس هذا من لوازم الطرق ، بل قد يستغني عنه كثير من السالكين ، وليس هو الغاية ، بل كمال الشهود ; بحيث يميز بين المخلوق والخالق ، ويشهد معاني أسماء الله وصفاته ، ولا يشغله هذا عن [28] هذا - هو أكمل في الشهود ، وأقوى في الإيمان . ولكن من عرض له تلك الحال [ التي تعرض ] [29] احتاج إلى ما يناسبها . وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع .

                  لكن المقصود أن تعرف مرتبة الخوارق وأنها عند أولياء الله الذين يريدون وجهه ، ويحبون ما أحبه الله ورسوله ، في مرتبة الوسائل التي يستعان بها ، كما يستعان بغير الخوارق ، فإن لم يحتاجوا إليها - استغناء بالمعتادات - لم يتلفتوا إليها . وأما عند كثير ممن يتبع هواه ويحب الرياسة عند الجهال ونحو ذلك ، فهي عندهم أعلى المقاصد .

                  كما أن كثيرا من طلبة العلم ليس مقصودهم به إلا تحصيل رياسة أو مال ، ولكل امرئ ما نوى . وأما أهل العلم والدين الذين هم أهله ، فهو [30] مقصود عندهم لمنفعته [31] لهم ، وحاجتهم إليه في الدنيا والآخرة . كما قال معاذ بن جبل في صفة العلم : إن [32] طلبه لله عبادة ، ومذاكرته [ ص: 210 ] تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة ، به يعرف الله ويعبدونه ، ويمجد الله ويوحد [33] .

                  ولهذا تجد أهل الانتفاع به يزكون به نفوسهم ، ويقصدون فيه اتباع الحق لا اتباع الهوى ويسلكون فيه سبيل العدل والإنصاف ، ويحبونه ويلتذون به ، ويحبون كثرته وكثرة أهله ، وتنبعث هممهم على العمل به وبموجبه ومقتضاه [34] ، بخلاف من لم يذق حلاوته وليس مقصوده إلا مالا أو رياسة ، فإن ذلك لو حصل له بطريق آخر سلكه ، وربما رجحه إذا كان أسهل عليه .

                  ومن عرف هذا تبين له أن المقاصد التي يحبها الله ويرضاها التي حصلت لأبي بكر ، أكمل مما حصل لعمر ، والتي حصلت لعمر أكمل مما حصل لعثمان ، والتي حصلت لعثمان أكمل مما حصل لعلي ، وأن الصحابة كانوا أعلم الخلق بالحق ، وأتبعهم له ، وأحقهم بالعدل ، وإيتاء كل ذي حق حقه ، وأنه لم يقدح فيهم إلا مفرط في الجهل بالحقائق التي بها [35] يستحق المدح والتفضيل ، وبما آتاهم الله من الهدى إلى سواء السبيل .

                  ولهذا من لم يسلك في عبادته الطريق الشرعية التي أمر الله بها [ ص: 211 ] ورسوله ، وتعلقت همته بالخوارق ، فإنه قد يقترن به من الجن والشياطين [36] من يحصل له به نوع من الخبر عن بعض الكائنات ، أو يطير به في الهواء ، أو يمشي به على الماء ، فيظن ذلك من كرامات الأولياء ، وأنه ولي لله ، ويكون سبب شركه أو كفره ، أو بدعته أو فسقه .

                  فإن هذا الجنس قد يحصل لبعض الكفار وأهل الكتاب وغيرهم ، وقد يحصل لبعض الملحدين المنتسبين إلى المسلمين ، مثل من لا يرى الصلوات واجبة ، بل ولا يقر بأن محمدا رسول الله ، بل يبغضه ويبغض القرآن ، ونحو ذلك من الأمور التي توجب كفره ، ومع هذا تغويه الشياطين ببعض الخوارق ، كما تغوي المشركين ، كما كانت تقترن بالكهان والأوثان ، وهي اليوم كذلك في المشركين من أهل الهند والترك والحبشة ، وفي كثير من المشهورين في البلاد التي فيها الإسلام ممن هو كافر أو فاسق ، أو جاهل مبتدع ، كما قد بسط في موضع آخر .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية