الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ( فصل )

                  قال الرافضي [1] : " الحادي عشر : أنه - صلى الله عليه وسلم - أنفذه لأداء سورة براءة ، ثم أنفذ عليا [2] ، وأمره برده ، وأن يتولى هو ذلك ، ومن لا يصلح لأداء سورة أو بعضها ، فكيف [3] يصلح [ ص: 296 ] للإمامة العامة المتضمنة لأداء الأحكام إلى جميع الأمة ؟ ! "

                  والجواب من وجوه : أحدها : أن هذا كذب باتفاق أهل العلم ، وبالتواتر العام ; فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمل أبا بكر على الحج سنة تسع ، لم يرده ولا رجع ، بل هو الذي أقام للناس الحج ذلك العام ، وعلي من جملة رعيته ، يصلي خلفه ، ويدفع بدفعه ، ويأتمر بأمره كسائر من معه .

                  وهذا من العلم المتواتر عند أهل العلم : لم يختلف اثنان في أن أبا بكر هو الذي أقام الحج ذلك العام بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم . فكيف يقال : إنه أمره برده ؟ !

                  ولكن أردفه بعلي [4] لينبذ إلى المشركين عهدهم ; لأن عادتهم كانت جارية أن لا يعقد العقود [5] ولا يحلها إلا المطاع ، أو رجل من أهل بيته ، فلم يكونوا يقبلون ذلك من كل أحد .

                  وفي الصحيحين م : وفي الصحيح [6] عن أبي هريرة قال : بعثني أبو بكر الصديق في الحجة التي أمره عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل حجة الوداع ، في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر : " أن [7] : لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان " [8] ، وفي رواية : ثم أردف النبي - صلى الله عليه [ ص: 297 ] وسلم - بعلي ، وأمره أن يؤذن ببراءة ، فأذن علي معنا [9] في أهل منى يوم النحر ببراءة ، وبأن [10] لا يحج ( * بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان . قال : فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام ، فلم يحج * ) [11] عام حجة الوداع - التي حج فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشرك .

                  قال أبو محمد بن حزم [12] : " وما حصل في حجة الصديق كان من أعظم فضائله ; لأنه هو الذي خطب بالناس في ذلك الموسم والجمع العظيم ، والناس منصتون لخطبته ، يصلون خلفه ، وعلي من جملتهم . وفي السورة فضل أبي بكر وذكر الغار ، فقرأها علي على الناس ، فهذا مبالغة في فضل أبي بكر ، وحجة قاطعة " .

                  وتأميره لأبي بكر على علي هذا كان بعد قوله : " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ " [13] ، ولا ريب أن هذا الرافضي ونحوه من شيوخ الرافضة من أجهل الناس بأحوال الرسول وسيرته وأموره ووقائعه ، يجهلون من ذلك ما هو متواتر معلوم لمن له أدنى معرفة بالسيرة ، ويجيئون إلى ما وقع فيقبلونه ، ويزيدون فيه وينقصون .

                  وهذا القدر ، وإن كان الرافضي لم يفعله ، فهو فعل شيوخه وسلفه [ ص: 298 ] الذين قلدهم ، ولم يحقق ما قالوه ، ويراجع [14] ما هو المعلوم عند أهل العلم المتواتر عندهم ، المعلوم لعامتهم وخاصتهم .

                  الثاني : قوله : " الإمامة العامة متضمنة لأداء جميع الأحكام إلى الأمة " .

                  قول باطل ; فالأحكام كلها قد تلقتها الأمة عن نبيها ، لا تحتاج فيها إلى الإمام ، إلا كما تحتاج إلى نظائره من العلماء ، وكانت عامة الشريعة التي يحتاج الناس إليها عند الصحابة معلومة ، ولم يتنازعوا زمن الصديق في شيء منها ، إلا واتفقوا بعد النزاع بالعلم الذي [15] كان يظهره بعضهم لبعض ، وكان الصديق يعلم عامة الشريعة ، وإذا خفي عنه [16] الشيء اليسير سأل عنه الصحابة ممن كان عنده علم ذلك [17] ، كما سألهم عن ميراث الجدة [18] ، فأخبره من أخبره منهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاها [19] السدس [20] .

                  [ ص: 299 ] ولم يعرف لأبي بكر فتيا ولا حكم خالف نصا ، وقد عرف لعمر وعثمان وعلي من ذلك أشياء [21] ، والذي عرف لعلي أكثر مما عرف لهما [22] .

                  مثل قوله في [ الحامل ] [23] المتوفى عنها زوجها إنها تعتد أبعد الأجلين . وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لسبيعة الأسلمية لما وضعت بعد وفاة زوجها بثلاث ليال : " حللت فانكحي من شئت " ، ولما قالت له : إن أبا السنابل قال : ما أنت بناكحة حتى يمضي عليك آخر الأجلين . قال : " كذب أبو السنابل " [24] .

                  وقد جمع الشافعي في كتاب " خلاف علي وعبد الله " من أقوال علي التي تركها الناس لمخالفتها النص أو معنى النص جزءا كبيرا .

                  وجمع بعده محمد بن نصر المروزي أكثر من ذلك ; فإنه كان إذا ناظره الكوفيون يحتج بالنصوص ، فيقولون : نحن أخذنا بقول علي وابن مسعود ، فجمع لهم أشياء كثيرة [25] من قول علي وابن مسعود تركوه ، أو تركه الناس ، يقول : إذا جاز لكم خلافهما [26] في تلك المسائل لقيام الحجة على خلافهما [27] ، فكذلك في سائر المسائل . ولم يعرف لأبي بكر مثل هذا .

                  [ ص: 300 ] الثالث : أن القرآن بلغه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كل أحد من المسلمين ، فيمتنع أن يقال : إن أبا بكر لم يكن يصلح لتبليغه .

                  الرابع : أنه لا يجوز أن يظن أن تبليغ القرآن يختص بعلي ; فإن القرآن لا يثبت بخبر الآحاد ، بل لا بد أن يكون منقولا بالتواتر .

                  الخامس : أن الموسم ذلك العام كان يحج فيه المسلمون والمشركون ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر أن ينادي في الموسم : " أن لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان " كما ثبت في الصحيحين [28] . فأي حاجة كانت بالمشركين إلى أن يبلغوا القرآن [29] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية