الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 304 ] فصل

                  قال الرافضي [1] : " الثالث عشر : أنه ابتدع التراويح مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أيها الناس [2] إن الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة جماعة بدعة ، وصلاة الضحى بدعة ، فإن قليلا [3] في سنة خير من كثير في بدعة ، ألا وإن كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة سبيلها إلى النار ، وخرج عمر في شهر رمضان ليلا فرأى المصابيح في المساجد ، فقال : ما هذا ؟ فقيل له : إن الناس قد اجتمعوا لصلاة التطوع ، فقال : بدعة ونعمت [4] البدعة ، فاعترف بأنها بدعة " .

                  فيقال : ما رئي في طوائف أهل البدع والضلال أجرأ من هذه الطائفة الرافضة على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقولها عليه ما لم يقله ، والوقاحة المفرطة في الكذب ، وإن كان فيهم من لا يعرف أنها كذب ، فهو مفرط في الجهل كما قال فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم [ ص: 305 ] والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة ، فيقال : ما الدليل على صحة هذا الحديث ؟ وأين إسناده ؟ وفي أي كتاب من كتب المسلمين روي هذا ؟ ومن قال من أهل العلم بالحديث : إن هذا صحيح ؟ .

                  الثاني : أن جميع أهل المعرفة بالحديث يعلمون علما ضروريا أن هذا من الكذب الموضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأدنى من له معرفة بالحديث يعلم أنه كذب لم يروه أحد من المسلمين في شيء من كتبه : لا كتب الصحيح ولا السنن ولا المساند ، ولا المعجمات ولا الأجزاء ، ولا يعرف له إسناد : لا صحيح ولا ضعيف ، بل هو كذب بين .

                  الثالث : أنه قد ثبت أن الناس كانوا يصلون بالليل في رمضان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وثبت أنه صلى بالمسلمين جماعة ليلتين أو ثلاثا .

                  ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل ، فصلى وصلى رجال بصلاته ، فأصبح الناس فتحدثوا فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه فأصبح الناس فتحدثوا ، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى صلاته ، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله ، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفق رجال يقولون : الصلاة ، فلم يخرج إليهم حتى خرج لصلاة الصبح ، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ، ثم قال : " أما بعد ، فإنه لم يخف علي مكانكم ، [ ص: 306 ] ولكن خشيت أن تفرض عليكم ، فتعجزوا عنها فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك ، وذلك في رمضان [5] .

                  وعن أبي ذر قال : صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتى بقي سبع فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل ، فلما كانت السادسة لم يقم بنا ، فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل [6] ، فقلت : يا رسول الله لو نفلتنا قيام هذه الليلة ، قال : " إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليله " ، فلما كانت الليلة الرابعة لم يقم بنا ، فلما كانت الليلة [7] [ الثالثة ] جمع أهله ونساءه ، فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح ، قلت : وما الفلاح ؟ قال : السحور ، ثم لم يقم بنا بقية الشهر ، رواه أحمد والترمذي والنسائي وأبو داود [8] .

                  [ ص: 307 ] وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمر فيه بعزيمة ، ويقول : " من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر [9] .

                  وخرج البخاري عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال : خرجت مع عمر ليلة من رمضان إلى المسجد ، فإذا الناس أوزاع متفرقون ، يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط ، فقال عمر : إني لأرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب ، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم ، قال عمر : نعمت البدعة هذه [10] ، والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون يريد بذلك آخر الليل ، وكان الناس يقومون أوله [11] .

                  وهذا الاجتماع العام لما لم يكن قد فعل سماه بدعة ، لأن ما فعل ابتداء [ ص: 308 ] يسمى بدعة في اللغة ، وليس ذلك بدعة شرعية ; فإن البدعة الشرعية التي هي ضلالة هي ما فعل بغير دليل شرعي كاستحباب ما لم يحبه الله ، وإيجاب ما لم يوجبه الله وتحريم ما لم يحرمه الله ، فلا بد مع الفعل [12] من اعتقاد يخالف الشريعة ، وإلا فلو عمل الإنسان فعلا محرما يعتقد تحريمه لم يقل إنه فعل بدعة .

                  الرابع : أن هذا لو كان قبيحا منهيا عنه لكان علي أبطله لما صار أمير المؤمنين وهو بالكوفة ، فلما كان جاريا في ذلك مجرى عمر دل على استحباب ذلك ، بل روي عن علي أنه قال : نور الله على عمر قبره كما نور علينا مساجدنا .

                  وعن أبي عبد الرحمن السلمي أن عليا دعا القراء في رمضان ، فأمر رجلا منهم يصلي بالناس عشرين ركعة ، قال [13] : وكان علي يوتر بهم [14] .

                  وعن عرفجة الثقفي قال : كان علي يأمر الناس بقيام شهر رمضان ، ويجعل للرجال إماما وللنساء إماما ، قال عرفجة : فكنت أنا إمام النساء رواهما البيهقي في " سننه " [15] .

                  وقد تنازع العلماء في قيام رمضان : هل فعله في المسجد جماعة أفضل أم فعله في البيت أفضل ؟ على قولين مشهورين ، هما : قولان [ ص: 309 ] للشافعي وأحمد وطائفة يرجحون فعلها في المسجد جماعة منهم الليث ، وأما مالك وطائفة فيرجحون فعلها في البيت ، ويحتجون بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة " أخرجاه في الصحيحين [16] .

                  وأحمد وغيره احتجوا بقوله في حديث أبي ذر : " الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتب [ الله ] له [17] قيام ليلة " [18] .

                  وأما قوله : " أفضل [ الصلاة ] [19] صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة فالمراد بذلك ما لم تشرع له الجماعة ، وأما ما شرعت له الجماعة [20] كصلاة الكسوف ، ففعلها في المسجد أفضل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة واتفاق العلماء .

                  [ ص: 310 ] قالوا : فقيام [21] رمضان إنما لم يجمع النبي صلى الله عليه وسلم الناس عليه خشية أن يفترض ، وهذا قد أمن بموته ، فصار هذا كجمع المصحف وغيره .

                  وإذا كانت الجماعة مشروعة فيها ففعلها في الجماعة أفضل .

                  وأما قول عمر رضي الله عنه : " والتي تنامون عنها أفضل ، يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله ، فهذا كلام صحيح ، فإن آخر الليل أفضل كما أن صلاة العشاء في أوله أفضل ، والوقت المفضول قد يختص العمل فيه بما يوجب أن يكون أفضل منه في غيره ، كما أن الجمع بين الصلاتين بعرفة ومزدلفة أفضل من التفريق بسبب أوجب ذلك ، وإن كان الأصل أن الصلاة في وقتها الحاضر [22] أفضل ، والإبراد بالصلاة في شدة الحر أفضل .

                  وأما يوم الجمعة فالصلاة عقب الزوال أفضل ، ولا يستحب الإبراد بالجمعة لما فيه من المشقة على الناس ، وتأخير العشاء إلى ثلث الليل أفضل إلا إذا اجتمع الناس وشق عليهم الانتظار ، فصلاتها قبل ذلك أفضل ، وكذلك الاجتماع في شهر رمضان في النصف الثاني : إذا كان يشق على الناس .

                  وفي السنن عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ ص: 311 ] " صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل ، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله " [23] .

                  ولهذا كان الإمام أحمد في إحدى الروايتين يستحب إذا أسفر بالصبح أن يسفر بها لكثرة الجمع ، وإن كان التغليس أفضل .

                  فقد ثبت بالنص والإجماع أن الوقت المفضول قد يختص بما يكون الفعل فيه أحيانا أفضل .

                  وأما الضحى فليس لعمر فيها اختصاص ، بل قد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال : " أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام [24] من كل شهر ، وركعتي الضحى ، وأن أوتر قبل أن أنام " [25] .

                  [ ص: 312 ] وفي صحيح مسلم عن أبي الدرداء مثل [26] حديث أبي هريرة [27] .

                  وفي صحيح مسلم عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة ، وكل تحميدة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى " [28] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية