وفي هذا أيضا رد على من يدعي أن ظاهر القرآن هو الحلول ؛ لكن يتعين تأويله على خلاف ظاهره ، ويجعل ذلك أصلا يقيس عليه ما يتأوله من النصوص .
فيقال له : قولك إن القرآن يدل على ذلك خطأ كما أن قول قرينك الذي اعتقد هذا المدلول خطأ ، وذلك لوجوه .
أحدها : أن لفظ ( مع ) في لغة العرب إنما تدل على المصاحبة والموافقة والاقتران ، ولا تدل على أن الأول مختلط بالثاني في عامة موارد الاستعمال .
كقوله تعالى : ( محمد رسول الله والذين معه ) [ سورة الفتح : 29 ] لم يرد أن ذواتهم مختلطة بذاته .
وقوله : ( اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) [ سورة التوبة : 119 ] .
وكذلك قوله : ( والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم ) [ سورة الأنفال : 75 ] .
وكذلك قوله عن نوح : ( وما آمن معه إلا قليل ) [ سورة هود : 40 ] .
[ ص: 376 ] وقوله عن نوح أيضا : ( فأنجيناه والذين معه في الفلك ) الآية [ سورة الأعراف : 64 ] .
وقوله عن هود : ( فأنجيناه والذين معه برحمة منا ) [ سورة الأعراف : 72 ] [1] .
وقول قوم شعيب : ( لنخرجنك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريتنا ) [ سورة الأعراف : 88 ] .
وقوله : إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين الآية [2] [ سورة النساء : 146 ] .
وقوله : ( وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ) [ سورة الأنعام : 68 ] .
وقوله : ( ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم ) [ سورة المائدة : 53 ] .
وقوله : ( ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ) [ سورة الحشر : 11 ] .
وقوله عن نوح : ( اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ) [ سورة هود : 48 ] .
وقوله : ( وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ) [ سورة الأعراف : 47 ] .
[ ص: 377 ] وقوله : ( فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين ) [ سورة التوبة : 83 ] .
وقوله : ( رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ) [ سورة التوبة : 87 ] .
وقال : ( لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم ) [ سورة التوبة : 88 ] .
ومثل هذا كثير في كلام الله تعالى وسائر الكلام العربي .
وإذا كان . لفظ " مع " إذا استعملت في كون المخلوق مع المخلوق لم تدل على اختلاط ذاته بذاته ؛ فهي أن لا تدل على ذلك في حق الخالق بطريق الأولى
فدعوى ظهورها في ذلك باطل من وجهين : أحدهما : أن هذا ليس معناها [3] في اللغة ولا اقترن بها في الاستعمال ما يدل على الظهور ؛ فكان الظهور منتفيا [4] من كل وجه .
الثاني : أنه إذا انتفى الظهور فيما هو أولى به فانتفاؤه فيما هو أبعد عنه أولى .
الثاني [5] : أن القرآن قد جعل المعية خاصة أكثر مما جعلها عامة ، ولو كان المراد اختلاط ذاته بالمخلوقات لكانت عامة لا تقبل التخصيص .
الثالث [6] : أن سياق الكلام أوله وآخره يدل على معنى المعية ، كما [ ص: 378 ] قال تعالى في آية المجادلة : ( ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم ) [ سورة المجادلة : 7 ] فافتتحها بالعلم ، وختمها بالعلم فعلم أنه أراد عالم بهم لا يخفى عليه منهم خافية .
وهكذا فسرها السلف : ومن قبله من العلماء الإمام أحمد كابن عباس والضحاك . وسفيان الثوري
وفي آية الحديد قال : ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير ) [ سورة الحديد : 4 ] فختمها أيضا بالعلم وأخبر أنه مع استوائه على العرش يعلم هذا كله .
كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الأوعال : " والله فوق عرشه وهو يعلم ما أنتم عليه " [7] فهناك أخبر بعموم العلم لكل نجوى . [ ص: 379 ] وهنا أخبر أنه مع علوه على عرشه يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج [ ص: 380 ] منها [8] ، وهو مع العباد أينما كانوا : يعلم أحوالهم والله بما يعملون بصير .
وأما قوله : ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) [ سورة النحل : 128 ] فقد دل السياق على أن المقصود ليس مجرد علمه وقدرته ، بل هو معهم في ذلك بتأييده ونصره ، وأنه يجعل للمتقين مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون .
وكذلك قوله لموسى وهارون : ( إنني معكما أسمع وأرى ) [ سورة طه : 46 ] فإنه معهما بالتأييد والنصر والإعانة على فرعون وقومه كما إذا رأى الإنسان من يخاف فقال له من ينصره : " نحن معك " أي معاونوك وناصروك على عدوك .
[ ص: 381 ] وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لصديقه : " إن الله معنا " يدل على أنه موافق لهما بالمحبة والرضا فيما فعلاه وهو مؤيد لهما ومعين وناصر .
وهذا صريح في مشاركة للنبي في هذه المعية التي اختص بها الصديق لم يشركه فيها أحد من الخلق . الصديق
والمقصود هنا أن : " إن الله معنا هي معية الاختصاص التي تدل على أنه معهم بالنصر والتأييد والإعانة على عدوهم لأبي بكر ، فيكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أن الله ينصرني وينصرك يا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - على عدونا ويعيننا عليهم . أبا بكر
ومعلوم أن نصر الله نصر إكرام ومحبة ، كما قال تعالى : ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ) [ سورة غافر : 51 ] وهذا غاية المدح ؛ إذ دل على أنه ممن شهد له الرسول بالإيمان المقتضي نصر الله له مع رسوله لأبي بكر [9] ، وكان متضمنا شهادة الرسول له بكمال الإيمان المقتضي نصر الله له مع رسوله [10] في مثل هذه الحال التي بين الله فيها غناه عن الخلق فقال : ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار ) [ سورة التوبة : 40 ] .
ولهذا قال وغيره إن الله عاتب الخلق جميعهم في نبيه إلا سفيان بن عيينة . وقال من أنكر صحبة أبا بكر فهو كافر لأنه كذب القرآن . أبي بكر
[ ص: 382 ] وقال طائفة من أهل العلم كأبي القاسم السهيلي وغيره : هذه المعية الخاصة لم تثبت لغير . أبي بكر
وكذلك قوله : " " ؛ بل ظهر اختصاصهما في اللفظ كما ظهر في المعنى فكان يقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما ظنك باثنين الله ثالثهما محمد رسول الله ؛ " فلما تولى بعده صاروا يقولون : " وخليفة رسول الله " فيضيفون الخليفة إلى رسول الله المضاف إلى الله ، والمضاف إلى المضاف مضاف تحقيقا أبو بكر [11] لقوله : " إن الله معنا " ، ، ثم لما تولى ما ظنك باثنين الله ثالثهما بعده صاروا يقولون : " أمير المؤمنين " فانقطع الاختصاص الذي امتازه به عمر عن سائر الصحابة . أبو بكر
ومما يبين هذا أن الصحبة فيها عموم وخصوص ؛ فيقال : صحبه ساعة ويوما وجمعة وشهرا وسنة وصحبه عمره كله .
وقد قال تعالى : ( والصاحب بالجنب ) [ سورة النساء : 36 ] قيل : هو الرفيق في السفر وقيل الزوجة وكلاهما تقل صحبته [ وتكثر ] [12] ، وقد سمى الله الزوجة صاحبة في قوله : ( أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ) [ سورة الأنعام : 101 ] .
ولهذا قال في " الرسالة " التي رواها أحمد بن حنبل عبدوس بن مالك [ ص: 383 ] عنه [13] : " من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة ، أو شهرا [14] ، أو يوما ، أو ساعة [15] ، أو رآه مؤمنا [16] به فهو من أصحابه له من الصحبة على قدر ما صحبه " .
وهذا . قول جماهير العلماء من الفقهاء وأهل الكلام وغيرهم : يعدون في أصحابه من قلت صحبته ومن كثرت ، وفي ذلك خلاف ضعيف
والدليل على قول الجمهور ما أخرجاه في الصحيحين عن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أبي سعيد الخدري . وهذا لفظ يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس ، فيقال : هل فيكم من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيقولون : نعم ، فيفتح لهم ، ثم يغزو فئام من الناس فيقال : هل فيكم من رأى من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيقولون : نعم فيفتح لهم ، ثم يغزو فئام من الناس فيقال : هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولون نعم فيفتح لهم ، وله في رواية أخرى : " مسلم [17] البعث فيقولون : انظروا هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيوجد الرجل فيفتح لهم به .
[ ص: 384 ] ثم يبعث البعث الثاني ، فيقولون : هل فيكم من رأى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيقولون : نعم ، فيفتح لهم به ، ثم يبعث البعث الثالث فيقال : انظروا هل ترون فيكم من رأى من رأى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولون : نعم ، ثم يكون البعث الرابع فيقال : هل ترون فيكم أحدا رأى من رأى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيوجد الرجل فيفتح لهم به ولفظ يأتي على الناس زمان يبعث منهم ثلاث مرات البخاري [18] كالرواية الأولى ؛ لكن لفظه : يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس ، وكذلك قال في الثانية والثالثة ، وقال فيها كلها : ( صحب ) ، واتفقت الروايات على ذكر الصحابة والتابعين وتابعيهم وهم [19] القرون الثلاثة وأما القرن الرابع فهو في بعضها ؛ وذكر القرن الثالث ثابت في المتفق عليه من غير وجه[20] .
كما في الصحيحين عن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ابن مسعود " خير أمتي القرن الذين يلونني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يجئ قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته [21] .
[ ص: 385 ] وفي الصحيحين عن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " عمران : فلا أدري أقال عمران [22] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ، ثم يكون بعدهم قوم [23] يشهدون ولا يستشهدون ، ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون " إن خيركم قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ؛ قال [24] وفي رواية : " ويحلفون ولا يستحلفون " [25] فقد شك عمران [26] في القرن الرابع .