الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وفي الصحيحين عن البراء بن عازب ، قال : كتب علي بن أبي طالب [1] الصلح بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين يوم الحديبية ؛ فكتب : هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا : لا تكتب رسول الله ؛ لو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك ؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي : " امحه " ، فقال : " ما أنا بالذي أمحوه " قال : فمحاه النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده [2] ، قال : وكان فيما اشترطوا عليه أن يدخلوا فيقيموا بها [3] ثلاثا ، ولا يدخلوا بسلاح إلا جلبان السلاح . قال شعبة : قلت لأبي إسحاق : وما جلبان السلاح ؟ قال : القراب وما فيه " [4] .

                  [ ص: 405 ] وفي الصحيحين عن أبي وائل قال : قام سهل بن حنيف يوم صفين فقال : يا أيها الناس اتهموا أنفسكم وفي لفظ اتهموا رأيكم على دينكم ؛ لقد كنا [ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ] [5] يوم الحديبية ؛ ولو نرى قتالا لقاتلنا وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين وجاء [6] عمر ، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله ألسنا على حق وهم على باطل قال : " بلى " ، قال : أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال : " بلى " ، قال : ففيم [7] نعطي الدنية في ديننا ؟ ، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم ؛ قال : " يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا " ، قال : فانطلق عمر فلم يصبر متغيظا فأتى أبا بكر ، فقال : يا أبا بكر ألسنا على حق وهم على باطل ؟ قال : بلى ، قال : أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال : بلى ، قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم ؟ فقال : يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا ، قال : فنزل القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفتح ؛ فأرسل إلى عمر [ ص: 406 ] فأقرأه إياه ، فقال : يا رسول الله أوفتح [8] هو ؟ قال : " نعم " [9] .

                  وفي لفظ مسلم [10] " فطابت نفسه ورجع " .

                  وفي لفظ لمسلم أيضا : " أيها الناس اتهموا رأيكم [11] ، لقد رأيتني يوم أبي جندل [12] ، ولو [ أني ] [13] أستطيع أن أرد أمر رسول الله لرددته " [14] .

                  وفي رواية : والله ورسوله أعلم [15] : " والله ما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر قط إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه إلا أمركم هذا " [16] ، " ما [ ص: 407 ] نسد منه خصما إلا انفجر علينا خصم ما ندري كيف نأتي له [17] " يعني يوم صفين .

                  وقال ذلك سهل يوم صفين لما خرجت الخوارج على علي حين أمر بمصالحة معاوية وأصحابه .

                  وهذه الأخبار الصحيحة هي باتفاق أهل العلم بالحديث في عمرة الحديبية تبين اختصاص أبي بكر [ بمنزلة ] [18] من الله ورسوله لم يشركه فيها أحد من الصحابة : لا عمر ولا علي ولا غيرهما ، وأنه لم يكن فيهم أعظم إيمانا وموافقة وطاعة لله ورسوله منه ، ولا كان فيهم من يتكلم بالشورى قبله .

                  فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصدر عن رأيه وحده في الأمور العظيمة وإنه [ كان ] [19] يبدأ بالكلام بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - معاونة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كما كان يفتي بحضرته وهو يقره على ذلك ولم يكن هذا لغيره .

                  فإنه لما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - جاسوسه الخزاعي ، وأخبره أن قريشا قد جمعوا له الأحابيش ، وهي الجماعات [20] المستجمعة من [ ص: 408 ] قبائل ، والتحبش : التجمع ، وأنهم مقاتلوه وصادوه عن البيت ، استشار أصحابه أهل المشورة مطلقا ، هل يميل إلى ذراري الأحابيش ؟ أو ينطلق إلى مكة فلما أشار عليه أبو بكر أن لا يبدأ أحدا بالقتال ، فإنا لم نخرج إلا للعمرة لا للقتال ؛ فإن منعنا أحد [21] من [22] البيت قاتلناه لصده لنا عما قصدنا لا مبتدئين [23] له بقتال ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " روحوا إذا " ، ثم إنه [ لما ] تكلم [24] عروة بن مسعود الثقفي وهو من سادات ثقيف وحلفاء قريش مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم ، وأخذ يقول له عن أصحابه : " إنهم أشواب " أي : أخلاط وفي المسند أوباش يفرون عنك ويدعوك ، قال له الصديق - رضي الله عنه - : امصص بظر اللات أنحن نفر عنه وندعه ، فقال له عروة ولما يجاوبه عن هذه الكلمة : لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك ، وكان الصديق قد أحسن إليه قبل ذلك فرعى حرمته ولم يجاوبه عن هذه الكلمة .

                  ولهذا قال : من قال من العلماء إن هذا يدل على جواز التصريح باسم العورة للحاجة والمصلحة وليس من الفحش المنهي عنه .

                  كما في حديث أبي بن كعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من سمعتموه يتعزى بعزاء [25] الجاهلية فأعضوه هن أبيه ولا تكنوا " رواه [ ص: 409 ] أحمد [26] فسمع أبي بن كعب رجلا يقول : يا فلان ، فقال : اعضض أير أبيك ، فقيل له في ذلك ، فقال : بهذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [27] .

                  ثم إنه لما صالح النبي - صلى الله عليه وسلم - قريشا كان ظاهر الصلح فيه غضاضة وضيم على المسلمين ، وفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - طاعة لله وثقة بوعده له ، وأن الله سينصره عليهم ، واغتاظ من ذلك جمهور الناس وعز عليهم ، حتى على مثل عمر وعلي وسهل بن حنيف ؛ ولهذا كبر عليه علي - رضي الله عنه - [28] لما مات تبيينا لفضله على غيره يعني سهل بن حنيف فعلي أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يمحو اسمه من الكتاب فلم يفعل حتى أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - الكتاب ومحاه بيده .

                  [ ص: 410 ] وفي صحيح البخاري [29] أنه قال لعلي : " امح رسول الله " قال : لا والله لا أمحوك أبدا ؛ فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكتاب ، وليس يحسن يكتب [30] فكتب : " هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله " .

                  وسهل بن حنيف يقول : " لو استطعت أن أرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرددته " ، وعمر يناظر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقول : إذا كنا على الحق وعدونا على الباطل وقتلانا في الجنة وقتلاهم في النار وأنت رسول الله حقا فعلام نعطي الدنية في ديننا ، ثم إنه رجع عن ذلك وعمل له أعمالا [31] .

                  وأبو بكر أطوعهم لله ورسوله [32] لم يصدر عنه مخالفة في شيء قط ، بل لما ناظره عمر بعد مناظرته للنبي - صلى الله عليه وسلم - أجابه أبو بكر بمثل ما أجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير أن يسمع جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                  وهذا من أبين الأمور دلالة على موافقته للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومناسبته له واختصاصه به قولا وعملا وعلما وحالا ؛ إذ كان قوله من جنس قوله وعمله من جنس عمله . وفي المواطن التي ظهر فيها تقدمه على غيره في ذلك ؛ فأين مقامه من مقام غيره ؟ ! هذا يناظره ليرده عن [ ص: 411 ] أمره ؛ وهذا يأمره ليمحو اسمه فلا يمحوه ، وهذا يقول : لو أستطيع أن أرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرددته ، وهو يأمر الناس بالحلق والنحر فيتوقفون .

                  ولا ريب أن الذي حملهم على ذلك حب الله ورسوله ، وبغض الكفار ومحبتهم أن يظهر الإيمان على الكفر ، وأن لا يكون قد دخل على أهل الإيمان غضاضة وضيم من أهل الكفر . ورأوا أن قتالهم لئلا يضاموا هذا الضيم أحب إليهم من هذه المصالحة التي فيها من الضيم ما فيها .

                  لكن معلوم وجوب تقديم النص على الرأي ، والشرع على الهوى ؛ فالأصل الذي افترق فيه المؤمنون بالرسل والمخالفون لهم : تقديم نصوصهم على الآراء وشرعهم على الأهواء ، وأصل الشر من تقديم الرأي على النص والهوى * على الشرع ؛ فمن نور الله قلبه فرأى ما في النص والشرع[33] من الصلاح والخير ، وإلا فعليه * [34] الانقياد لنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشرعه [35] وليس له معارضته برأيه وهواه .

                  كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " إني رسول الله [36] ولست أعصيه ، وهو ناصري " [37] فبين أنه رسول الله ، يفعل ما أمره به مرسله ، لا يفعل من تلقاء [ ص: 412 ] نفسه وأخبر أنه يطيعه لا يعصيه كما يفعل المتبع لرأيه [38] وهواه وأخبر أنه ناصره فهو على ثقة من نصر الله فلا يضره ما حصل ؛ فإن في ضمن ذلك من المصلحة وعلو الدين ما ظهر بعد ذلك ، وكان هذا فتحا مبينا في الحقيقة وإن كان فيه ما لم يعلم حسن ما فيه كثير من الناس ، بل رأى ذلك ذلا وعجزا وغضاضة وضيما .

                  ولهذا تاب الذين عارضوا ذلك - رضي الله عنهم - كما في الحديث رجوع عمر ، وكذلك في الحديث أن سهل بن حنيف اعترف بخطئه حيث قال : " والله ورسوله أعلم " وجعل رأيهم عبرة لمن بعدهم ؛ فأمرهم أن يتهموا رأيهم على دينهم ؛ فإن الرأي يكون خطأ ، كما كان رأيهم يوم الحديبية خطأ ، وكذلك على الذي لم يفعل ما أمره به ، والذين لم يفعلوا ما أمروا به من الحلق والنحر حتى فعل هو ذلك قد تابوا من ذلك والله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات .

                  والقصة كانت عظيمة بلغت منهم مبلغا عظيما لا تحمله عامة النفوس وإلا فهم [39] خير الخلق ، وأفضل الناس وأعظمهم علما وإيمانا وهم الذين بايعوا تحت الشجرة ، وقد رضي [ الله ] عنهم [40] وأثنى عليهم وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار .

                  والاعتبار في الفضائل بكمال النهاية لا بنقص البداية ، وقد قص الله [ ص: 413 ] علينا من توبة أنبيائه ، وحسن عاقبتهم ، وما آل إليه أمرهم من على الدرجات وكرامة الله لهم بعد أن جرت لهم أمور ، ولا يجوز أن يظن بغضهم لأجلها ؛ إذا كان الاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية .

                  وهكذا السابقون الأولون من ظن بغضهم [ لأجلها إذا كان الاعتبار بكمال النهاية ] [41] كما ذكر [42] ، فهو جاهل ؛ لكن المطلوب أن الصديق أكمل القوم وأفضلهم وأسبقهم إلى الخيرات ، وأنه لم يكن فيهم من يساويه .

                  وهذا أمر بين لا يشك فيه إلا من كان جاهلا بحالهم مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، أو كان صاحب هوى صده اتباع هواه عن معرفة الحق وإلا فمن كان له علم وعدل لم يكن عنده في ذلك شك ، كما لم يكن عند أهل العلم والإيمان شك ؛ بل كانوا مطبقين على تقديم الصديق وتفضيله على من سواه كما اتفق على ذلك علماء المسلمين وخيارهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، وهو مذهب مالك وأصحابه ، والشافعي وأصحابه ، وأحمد وأصحابه ، وداود وأصحابه ، والثوري وأصحابه ، والأوزاعي وأصحابه ، والليث وأصحابه ، وسائر العلماء الذين لهم في الأمة لسان صدق .

                  ومن ظن أن مخالفة من خالف أمر الرسول يوم الحديبية - أو غيره - لم تكن من الذنوب التي تجب التوبة منها فهو غالط ، كما قال من أخذ يعتذر [ ص: 414 ] لمن خالف أمره عذرا يقصد به [43] رفع الملام : بأنهم إنما تأخروا عن النحر والحلق ; لأنهم كانوا ينتظرون النسخ ونزول الوحي بخلاف ذلك .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية