وفي الصحيحين عن ، قال : البراء بن عازب علي بن أبي طالب [1] الصلح بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين يوم الحديبية ؛ فكتب : هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا : لا تكتب رسول الله ؛ لو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك ؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي : " امحه " ، فقال : " ما أنا بالذي أمحوه " قال : فمحاه النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده [2] ، قال : وكان فيما اشترطوا عليه أن يدخلوا فيقيموا بها [3] ثلاثا ، ولا يدخلوا بسلاح إلا جلبان السلاح . قال : قلت شعبة لأبي إسحاق : وما جلبان السلاح ؟ قال : القراب وما فيه " كتب [4] .
[ ص: 405 ] وفي الصحيحين عن أبي وائل قال : يوم سهل بن حنيف صفين فقال : يا أيها الناس اتهموا أنفسكم وفي لفظ اتهموا رأيكم على دينكم ؛ لقد كنا [ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ] [5] يوم الحديبية ؛ ولو نرى قتالا لقاتلنا وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين وجاء [6] ، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله ألسنا على حق وهم على باطل قال : " بلى " ، قال : أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال : " بلى " ، قال : ففيم عمر [7] نعطي الدنية في ديننا ؟ ، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم ؛ قال : " يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا " ، قال : فانطلق فلم يصبر متغيظا فأتى عمر ، فقال : يا أبا بكر ألسنا على حق وهم على باطل ؟ قال : بلى ، قال : أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال : بلى ، قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم ؟ فقال : يا أبا بكر ابن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا ، قال : فنزل القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفتح ؛ فأرسل إلى عمر [ ص: 406 ] فأقرأه إياه ، فقال : يا رسول الله أوفتح [8] هو ؟ قال : " نعم " قام [9] .
وفي لفظ مسلم [10] " فطابت نفسه ورجع " .
وفي لفظ أيضا : " لمسلم [11] ، لقد رأيتني يوم أبي جندل [12] ، ولو [ أني ] [13] أستطيع أن أرد أمر رسول الله لرددته " أيها الناس اتهموا رأيكم [14] .
وفي رواية : والله ورسوله أعلم [15] : " والله ما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر قط إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه إلا أمركم هذا " [16] ، " ما [ ص: 407 ] نسد منه خصما إلا انفجر علينا خصم ما ندري كيف نأتي له [17] " يعني يوم صفين .
وقال ذلك سهل يوم صفين لما خرجت الخوارج على حين أمر بمصالحة علي وأصحابه . معاوية
وهذه الأخبار الصحيحة هي باتفاق أهل العلم بالحديث في عمرة الحديبية تبين بكر [ بمنزلة ] [18] من الله ورسوله لم يشركه فيها أحد من الصحابة : لا اختصاص أبي ولا عمر ولا غيرهما ، وأنه لم يكن فيهم أعظم إيمانا وموافقة وطاعة لله ورسوله منه ، ولا كان فيهم من يتكلم بالشورى قبله . علي
فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصدر عن رأيه وحده في الأمور العظيمة وإنه [ كان ] [19] يبدأ بالكلام بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - معاونة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كما كان يفتي بحضرته وهو يقره على ذلك ولم يكن هذا لغيره .
فإنه لما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - جاسوسه الخزاعي ، وأخبره أن قريشا قد جمعوا له الأحابيش ، وهي الجماعات [20] المستجمعة من [ ص: 408 ] قبائل ، والتحبش : التجمع ، وأنهم مقاتلوه وصادوه عن البيت ، استشار أصحابه أهل المشورة مطلقا ، هل يميل إلى ذراري الأحابيش ؟ أو ينطلق إلى مكة فلما أشار عليه أن لا يبدأ أحدا بالقتال ، فإنا لم نخرج إلا للعمرة لا للقتال ؛ فإن منعنا أحد أبو بكر [21] من [22] البيت قاتلناه لصده لنا عما قصدنا لا مبتدئين [23] له بقتال ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " روحوا إذا " ، ثم إنه [ لما ] تكلم [24] عروة بن مسعود الثقفي وهو من سادات ثقيف وحلفاء قريش مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم ، وأخذ يقول له عن أصحابه : " إنهم أشواب " أي : أخلاط وفي المسند أوباش يفرون عنك ويدعوك ، قال له - رضي الله عنه - : امصص بظر اللات أنحن نفر عنه وندعه ، فقال له الصديق ولما يجاوبه عن هذه الكلمة : لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك ، وكان عروة قد أحسن إليه قبل ذلك فرعى حرمته ولم يجاوبه عن هذه الكلمة . الصديق
ولهذا قال : من قال من العلماء إن هذا يدل على جواز التصريح باسم العورة للحاجة والمصلحة وليس من الفحش المنهي عنه .
كما في حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أبي بن كعب [25] الجاهلية فأعضوه هن أبيه ولا تكنوا " رواه [ ص: 409 ] من سمعتموه يتعزى بعزاء أحمد [26] فسمع رجلا يقول : يا فلان ، فقال : اعضض أير أبيك ، فقيل له في ذلك ، فقال : بهذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي بن كعب [27] .
ثم إنه لما صالح النبي - صلى الله عليه وسلم - قريشا كان ظاهر الصلح فيه غضاضة وضيم على المسلمين ، وفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - طاعة لله وثقة بوعده له ، وأن الله سينصره عليهم ، واغتاظ من ذلك جمهور الناس وعز عليهم ، حتى على مثل عمر وعلي ؛ ولهذا كبر عليه وسهل بن حنيف - رضي الله عنه - علي [28] لما مات تبيينا لفضله على غيره يعني فعلي أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يمحو اسمه من الكتاب فلم يفعل حتى أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - الكتاب ومحاه بيده . سهل بن حنيف
[ ص: 410 ] وفي صحيح البخاري [29] أنه قال : " امح رسول الله " قال : لا والله لا أمحوك أبدا ؛ فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكتاب ، وليس يحسن يكتب لعلي [30] فكتب : " هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله " .
يقول : " لو استطعت أن أرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرددته " ، وسهل بن حنيف يناظر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقول : إذا كنا على الحق وعدونا على الباطل وقتلانا في الجنة وقتلاهم في النار وأنت رسول الله حقا فعلام نعطي الدنية في ديننا ، ثم إنه رجع عن ذلك وعمل له أعمالا وعمر [31] .
أطوعهم لله ورسوله وأبو بكر [32] لم يصدر عنه مخالفة في شيء قط ، بل لما ناظره بعد مناظرته للنبي - صلى الله عليه وسلم - أجابه عمر بمثل ما أجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير أن يسمع جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . أبو بكر
وهذا من أبين الأمور دلالة على موافقته للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومناسبته له واختصاصه به قولا وعملا وعلما وحالا ؛ إذ كان قوله من جنس قوله وعمله من جنس عمله . وفي المواطن التي ظهر فيها تقدمه على غيره في ذلك ؛ فأين مقامه من مقام غيره ؟ ! هذا يناظره ليرده عن [ ص: 411 ] أمره ؛ وهذا يأمره ليمحو اسمه فلا يمحوه ، وهذا يقول : لو أستطيع أن أرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرددته ، وهو يأمر الناس بالحلق والنحر فيتوقفون .
ولا ريب أن الذي حملهم على ذلك حب الله ورسوله ، وبغض الكفار ومحبتهم أن يظهر الإيمان على الكفر ، وأن لا يكون قد دخل على أهل الإيمان غضاضة وضيم من أهل الكفر . ورأوا أن قتالهم لئلا يضاموا هذا الضيم أحب إليهم من هذه المصالحة التي فيها من الضيم ما فيها .
لكن معلوم ؛ فالأصل الذي افترق فيه المؤمنون بالرسل والمخالفون لهم : تقديم نصوصهم على الآراء وشرعهم على الأهواء ، وأصل الشر من تقديم الرأي على النص والهوى * على الشرع ؛ فمن نور الله قلبه فرأى ما في النص والشرع وجوب تقديم النص على الرأي ، والشرع على الهوى [33] من الصلاح والخير ، وإلا فعليه * [34] الانقياد لنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشرعه [35] وليس له معارضته برأيه وهواه .
كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " إني رسول الله [36] ولست أعصيه ، وهو ناصري " [37] فبين أنه رسول الله ، يفعل ما أمره به مرسله ، لا يفعل من تلقاء [ ص: 412 ] نفسه وأخبر أنه يطيعه لا يعصيه كما يفعل المتبع لرأيه [38] وهواه وأخبر أنه ناصره فهو على ثقة من نصر الله فلا يضره ما حصل ؛ فإن في ضمن ذلك من المصلحة وعلو الدين ما ظهر بعد ذلك ، وكان هذا فتحا مبينا في الحقيقة وإن كان فيه ما لم يعلم حسن ما فيه كثير من الناس ، بل رأى ذلك ذلا وعجزا وغضاضة وضيما .
ولهذا تاب الذين عارضوا ذلك - رضي الله عنهم - كما في الحديث رجوع ، وكذلك في الحديث أن عمر اعترف بخطئه حيث قال : " والله ورسوله أعلم " وجعل رأيهم عبرة لمن بعدهم ؛ فأمرهم أن يتهموا رأيهم على دينهم ؛ فإن الرأي يكون خطأ ، كما كان رأيهم يوم الحديبية خطأ ، وكذلك على الذي لم يفعل ما أمره به ، والذين لم يفعلوا ما أمروا به من الحلق والنحر حتى فعل هو ذلك قد تابوا من ذلك والله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات . سهل بن حنيف
والقصة كانت عظيمة بلغت منهم مبلغا عظيما لا تحمله عامة النفوس وإلا فهم [39] خير الخلق ، وأفضل الناس وأعظمهم علما وإيمانا وهم الذين بايعوا تحت الشجرة ، وقد رضي [ الله ] عنهم [40] وأثنى عليهم وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار .
والاعتبار في الفضائل بكمال النهاية لا بنقص البداية ، وقد قص الله [ ص: 413 ] علينا من توبة أنبيائه ، وحسن عاقبتهم ، وما آل إليه أمرهم من على الدرجات وكرامة الله لهم بعد أن جرت لهم أمور ، ولا يجوز أن يظن بغضهم لأجلها ؛ إذا كان الاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية .
وهكذا السابقون الأولون من ظن بغضهم [ لأجلها إذا كان الاعتبار بكمال النهاية ] [41] كما ذكر [42] ، فهو جاهل ؛ لكن المطلوب أن أكمل القوم وأفضلهم وأسبقهم إلى الخيرات ، وأنه لم يكن فيهم من يساويه . الصديق
وهذا أمر بين لا يشك فيه إلا من كان جاهلا بحالهم مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، أو كان صاحب هوى صده اتباع هواه عن معرفة الحق وإلا فمن كان له علم وعدل لم يكن عنده في ذلك شك ، كما لم يكن عند أهل العلم والإيمان شك ؛ بل كانوا مطبقين على تقديم وتفضيله على من سواه كما اتفق على ذلك علماء المسلمين وخيارهم من الصديق الصحابة والتابعين وتابعيهم ، وهو مذهب مالك وأصحابه ، وأصحابه ، والشافعي وأصحابه ، وداود وأصحابه ، وأحمد وأصحابه ، والثوري وأصحابه ، والليث وأصحابه ، وسائر العلماء الذين لهم في الأمة لسان صدق . والأوزاعي
ومن ظن أن مخالفة من خالف أمر الرسول يوم الحديبية - أو غيره - لم تكن من الذنوب التي تجب التوبة منها فهو غالط ، كما قال من أخذ يعتذر [ ص: 414 ] لمن خالف أمره عذرا يقصد به [43] رفع الملام : بأنهم إنما تأخروا عن النحر والحلق ; لأنهم كانوا ينتظرون النسخ ونزول الوحي بخلاف ذلك .