[ ص: 428 ] فصل .
ومما يبين من القرآن في الغار أن الله تعالى ذكر نصره لرسوله أبي بكر في هذه الحال فضيلة [1] التي يخذل فيها عامة الخلق إلا من نصره [2] الله : ( إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار ) [ سورة التوبة : 40 ] أي : أخرجوه في هذه القلة من العدد لم يصحبه إلا الواحد ؛ فإن الواحد أقل ما يوجد فإذا لم يصحبه إلا واحد دل على أنه في غاية القلة .
ثم قال : ( إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) [ سورة التوبة : 40 ] ؛ وهذا يدل على أن صاحبه كان مشفقا عليه محبا له ناصرا له حيث حزن ، وإنما يحزن الإنسان حال الخوف على من يحبه ، وأما عدوه فلا يحزن إذا انعقد سبب هلاكه .
فلو كان مبغضا أبو بكر [3] كما يقول المفترون لم يحزن ولم ينه عن الحزن ، بل كان يضمر الفرح والسرور ، ولا كان الرسول يقول له : " لا تحزن إن الله معنا " .
فإن قال المفتري : إنه خفي على الرسول حاله لما أظهر له الحزن ، وكان في الباطن مبغضا .
[ ص: 429 ] قيل له فقد قال : " إن الله معنا " ، فهذا إخبار بأن الله معهما [ جميعا ] بنصره [4] ، ولا يجوز للرسول أن يخبر بنصر الله لرسوله وللمؤمنين وأن الله [5] معهم ويجعل [6] ذلك في الباطن منافقا لا يقول عليه إلا الحق ؛ وإن جاز أن يخفى عليه حال بعض الناس فلا يعلم أنه منافق كما قال : ( فإنه معصوم في خبره عن الله وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم ) [ سورة التوبة : 101 ] فلا يجوز أن يخبر عنهم بما يدل على إيمانهم .
ولهذا كعب وأخبره بحقيقة أمره [7] قال : " أما هذا فقد صدق " ، أو قال : " صدقكم " لما جاءه المخلفون عام تبوك فجعلوا يحلفون ويعتذرون ، وكان يقبل علانيتهم ، ويكل سرائرهم إلى الله ، لا يصدق أحدا منهم فلما جاء [8] .
وأيضا فإن لما سعد بن أبي وقاص [9] قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : " [10] مؤمن " قال : " أو مسلم " مرتين أو ثلاثا أعطيت فلانا وفلانا ، وتركت فلانا وهو [11] فأنكر عليه إخباره بالإيمان ، ولم يعلم منه إلا ظاهر الإسلام .
[ ص: 430 ] فكيف يشهد بأن الله معهما وهو لا يعلم ذلك ؟ والكلام بلا علم لا يجوز . لأبي بكر
وأيضا فإن الله أخبر بهذا عن الرسول إخبار مقرر له ، لا إخبار منكر له فعلم أن قوله : " إن الله معنا " من الخبر الصدق الذي أمر الله به ورضيه لا مما [12] أنكره وعابه .
وأيضا فمعلوم أن أضعف الناس عقلا لا يخفى عليه حال من يصحبه في مثل هذا السفر الذي يعاديه فيه الملأ الذين هم بين أظهرهم [13] ، ويطلبون قتله ، وأولياؤه هناك لا يستطيعون نصره ؛ فكيف يصحب واحدا ممن يظهر له موالاته دون غيره ، وقد أظهر له هذا حزنه ، وهو مع ذلك عدو له في الباطن . والمصحوب يعتقد أنه وليه ، وهذا لا يفعله إلا أحمق الناس وأجهلهم .
فقبح الله من نسب رسوله الذي هو أكمل الخلق عقلا وعلما وخبرة إلى مثل هذه الجهالة والغباوة .
ولقد بلغني عن ملك المغول خدابنده [14] الذي صنف له هذا الرافضي [ ص: 431 ] كتابه هذا في الإمامة أن الرافضة لما صارت تقول له مثل هذا الكلام إن كان يبغض النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان عدوه ، ويقولون مع هذا إنه صحبه في سفر الهجرة الذي هو أعظم الأسفار خوفا . قال كلمة تلزم عن قولهم الخبيث ، وقد برأ الله رسوله منها ، لكن ذكرها على من افترى الكذب الذي أوجب أن يقال في الرسول مثلها حيث قال : " كان قليل العقل " . أبا بكر
ولا ريب أن فعل ما قالته الرافضة فهو قليل العقل . وقد برأ الله رسوله وصديقه من كذبهم وتبين أن قولهم يستلزم القدح في الرسول .