الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما قول الرافضي : " يجوز أن يستصحبه معه لئلا يظهر أمره حذرا منه " .

                  والجواب : أن هذا باطل من وجوه كثيرة لا يمكن استقصاؤها .

                  أحدها : أنه قد علم بدلالة القرآن موالاته له ومحبته لا عداوته ، فبطل هذا .

                  الثاني : أنه قد علم بالتواتر أن أبا بكر كان محبا للنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنا به ، من أعظم الخلق اختصاصا به ، أعظم مما تواتر [ ص: 434 ] من شجاعة عنترة ، ومن سخاء حاتم ، ومن موالاة علي ومحبته له ، ونحو ذلك من التواترات المعنوية فيها الأخبار الكثيرة على مقصود واحد .

                  والشك في محبة أبي بكر كالشك في غيره وأشد ، ومن الرافضة من ينكر كون أبي بكر وعمر مدفونين في الحجرة النبوية ، وبعض غلاتهم ينكر أن يكون هو صاحبه الذي كان معه في الغار . وليس هذا من بهتانهم ببعيد ، فإن القوم قوم بهت يجحدون المعلوم ثبوته [1] بالاضطرار ، ويدعون ثبوت ما يعلم انتفاؤه بالاضطرار في العقليات والنقليات .

                  ولهذا قال من قال : لو قيل : من أجهل الناس ؟ لقيل : الرافضة حتى فرضها بعض الفقهاء \ مسألة فقهية : فيما إذا أوصى [2] لأجهل الناس ؛ قال : هم الرافضة ، لكن هذه الوصية باطلة ؛ فإن الوصية باطلة ، فإن الوصية والوقف لا يكونان [3] معصية ، بل على جهة لا تكون مذمومة في الشرع . والوقف والوصية لأجهل الناس فيه جعل [4] الأجهلية والبدعية موجبة للاستحقاق ، فهو كما لو أوصى لأكفر الناس ، أو للكفار دون المسلمين بحيث يجعل الكفر شرطا في الاستحقاق ، فإن هذا لا يصح .

                  وكون أبي بكر كان مواليا للنبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم من غيره ؛ أمر علمه المسلمون والكفار والأبرار والفجار حتى أني أعرف طائفة من الزنادقة كانوا يقولون : إن دين الإسلام اتفق عليه في الباطن النبي - صلى [ ص: 435 ] الله عليه وسلم - وأبو بكر وثالثهما عمر ؛ لكن لم يكن عمر مطلعا على سرهما كله ، كما وقعت دعوة الإسماعيلية الباطنية والقرامطة ، فكان [5] كل من كان أقرب إلى إمامهم [ كان ] [6] أعلم بباطن الدعوة ، وأكتم لباطنها من غيره .

                  ولهذا جعلوهم مراتب : فالزنادقة المنافقون لعلمهم بأن أبا بكر أعظم موالاة واختصاصا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من غيره ، جعلوه ممن يطلع على باطن أمره ويكتمه عن غيره ، ويعاونه على مقصوده بخلاف غيره .

                  فمن قال : إنه كان في الباطن عدوه [7] ، كان من أعظم أهل الأرض فرية ، ثم إن قاتل هذا إذا قيل له مثل هذا في علي ، وقيل [ له ] له زيادة في ( م ) . : إنه كان في الباطن معاديا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنه كان عاجزا في ولاية الخلفاء الثلاثة عن إفساد ملته ؛ فلما ذهب أكابر الصحابة وبقي هو ؛ طلب حينئذ إفساد ملته وإهلاك أمته ، ولهذا قتل من المسلمين خلقا كثيرا ، وكان مراده إهلاك الباقين ؛ لكن عجز ؛ وإنه بسبب ذلك انتسب إليه الزنادقة المنافقون المبغضون للرسول كالقرامطة والإسماعيلية والنصيرية ، فلا تجد عدوا للإسلام إلا وهو يستعين على ذلك بإظهار موالاة على استعانة لا تمكنه بإظهار موالاة أبي بكر وعمر .

                  [ ص: 436 ] فالشبهة في دعوى موالاة علي للرسول أعظم من الشبهة في دعوى معاداة أبي بكر وكلاهما باطل معلوم الفساد بالاضطرار ؛ لكن الحجج الدالة على بطلان هذه الدعوى في أبي بكر أعظم من الحجج الدالة على بطلانها في حق علي ؛ فإذا كانت الحجة على موالاة علي صحيحة ، والحجة على معاداته باطلة ، فالحجة على موالاة أبي بكر أولى بالصحة ، والحجة على معاداته أولى بالبطلان .

                  الوجه الثالث : أن قوله : " استصحبه حذرا من أن يظهر أمره " .

                  كلام من هو من أجهل الناس بما وقع ، فإن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في خروجه من مكة ظاهر عرفه أهل مكة ، وأرسلوا الطلب ، فإنه في الليلة التي خرج فيها عرفوا في صبيحتها أنه خرج ، وانتشر ذلك وأرسلوا إلى أهل الطرق يبذلون الدية فيه ، وفي أبي بكر بذلوا الدية لمن يأتي بأبي بكر ؛ فأي شيء كان يخاف ؟ وكون المشركين بذلوا الدية لمن يأتي بأبي بكر دليل على أنهم كانوا يعلمون موالاته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه كان عدوهم في الباطن ولو كان معهم في الباطن لم يفعلوا ذلك .

                  الرابع : أنه إذا كان خرج ليلا ، كان وقت الخروج لم يعلم به أحد ، فما يصنع بأبي بكر واستصحابه [8] معه ؟ .

                  فإن قيل : فلعله علم خروجه دون غيره ؟ .

                  قيل : أولا : قد كان يمكنه أن يخرج في وقت لا يشعر به ، كما ن : لا يشعر به بخروجه كما ، [9] خرج [ ص: 437 ] في وقت لم يشعر به المشركون ، وكان يمكنه أن [ لا ] يعينه [10] .

                  فكيف وقد ثبت في الصحيحين أن أبا بكر استأذنه في الهجرة ، فلم يأذن له حتى هاجر معه ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أعلمه بالهجرة في خلوة [11]

                  ففي الصحيحين عن البراء بن عازب قال : جاء أبو بكر إلى أبي في منزله فاشترى منه رحلا ، فقال لعازب [12] : ابعث ابنك معي يحمله إلى منزلي فحملته وخرج أبي معه ينتقد ثمنه ؛ فقال أبي : يا أبا بكر حدثني كيف صنعتما ليلة سريت [13] مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : نعم سرينا ليلتنا كلها ، ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق ، فلا يمر بنا فيه أحد حتى رفعت [14] لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليه الشمس بعد ، فنزلنا عندها فأتيت الصخرة فسويت بيدي مكانا ينام فيه [ النبي ] النبي : [15] - صلى الله عليه وسلم - في ظلها ، ثم بسطت عليه فروة [16] ، ثم قلت : نم يا رسول الله ، وأنا أنفض لك ما حولك [17] ، فنام رسول الله [ ص: 438 ] - صلى الله عليه وسلم - في ظلها ، وخرجت أنفض ما حوله ، فإذا أنا براع مقبل بغنمه إلى الصخرة ، يريد منها الذي أردنا فلقيته ؛ فقلت : لمن [18] . أنت يا غلام ؟ فقال : لرجل من أهل المدينة - يريد مكة [19] - لرجل من قريش سماه فعرفته فقلت له : أفي غنمك لبن ؟ فقال : نعم ، قلت : أفتحلب لي ؟ قال : نعم فأخذ شاة ؛ فقلت [ له ] [20] انفض الضرع من الشعر والتراب والقذى ، فحلب لي في قعب معه كثبة من لبن ، قال : ومعي إداوة [21] أرتوي فيها [22] لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - [23] منها ويتوضأ ، قال : فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وكرهت أن أوقظه من نومه فوافيته قد استيقظ فصببت على اللبن الماء حتى برد أسفله ؛ فقلت : يا رسول الله اشرب من هذا اللبن ، فشرب حتى رضيت ، ثم قال : " ألم يأن للرحيل ؟ " قلت : بلى ، فارتحلنا بعد ما زالت [24] الشمس ، واتبعنا سراقة بن مالك ، قال : ونحن في جلد من الأرض [25] فقلت : [ ص: 439 ] يا رسول الله : أتينا [26] ، فقال : لا تحزن إن الله معنا ، فدعا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فارتطمت فرسه إلى بطنها ، فقال : إني قد علمت أنكما دعوتما علي ، فادعوا الله لي ، فالله لكما أن أرد عنكما الطلب فدعا الله فنجا فرجع لا يلقى أحدا إلا قال قد كفيتم ما هنا ، ولا يلقى أحدا إلا رده ، وقال [27] : خذ سهما من كنانتي فإنك تمر بإبلي وغلماني ، فخذ منها حاجتك فقال : " لا حاجة لي في إبلك " قال : فقدمنا المدينة ، فتنازعوا أيهم ينزل عليه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أنزل على بني النجار أخوال عبد المطلب ؛ أكرمهم بذلك " ؛ فصعد الرجال والنساء فوق البيوت ، وتفرق الغلمان والخدم في الطرق [28] ينادون : يا محمد ، يا رسول الله ، يا محمد ، يا رسول الله [29] " .

                  وروى البخاري عن عائشة ، قالت : لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين ، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرفي النهار : بكرة وعشية ؛ فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا [ ص: 440 ] إلى الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد [30] لقيه ابن الدغنة [31] . وهو سيد القارة [32] فقال : أين تريد يا أبا بكر ؟ قال : أخرجني قومي ، فأنا أريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي ، قال ابن الدغنة : إن مثلك لا يخرج ولا يخرج فإنك تكسب المعدوم ، وتصل الرحم ، وتحمل الكل وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق [33] ، وأنا لك جار ، فاعبد [34] ربك ببلدك [35] ، فارتحل ابن الدغنة فرجع مع أبي بكر [36] ، فطاف في أشراف كفار قريش فقال لهم : إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ، ويحمل الكل ويقري الضيف ، [ ص: 441 ] ويعين على نوائب الحق ، فأنفذت [37] قريش جوار ابن الدغنة ، وآمنوا أبا بكر وقالوا لابن الدغنة : مر أبا بكر فليعبد ربه في داره ، فليصل وليقرأ ما شاء ، ولا يؤذينا [38] بذلك ، ولا يستعلن به ، فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا ، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر ، فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره ولا يستعلن [39] بالصلاة والقراءة في غير داره . ثم بدا لأبي بكر فابتنى بفناء داره مسجدا ، وبرز فكان يصلي فيه ، ويقرأ القرآن فتنقصف [40] عليه نساء المشركين وأبناؤهم ، [ وهم ] يعجبون [ منه ] وينظرون إليه [41] ، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن فأفزع ذلك أشراف قريش ، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم ؛ فقالوا : إنا كنا [ قد ] [42] أجرنا [43] أبا بكر على أن يعبد ربه في داره ، وإنه جاوز ذلك ، فابتنى مسجدا بفناء داره ، وأعلن بالصلاة والقراءة ، وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا فأته ، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل ، وإلا فإن أبى [44] إلا أن يعلن ذلك ، فسله [ ص: 442 ] أن يرد إليك جوارك ؛ فإنا قد كرهنا أن نخفرك [45] ، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان . قالت عائشة : فأتى ابن الدغنة أبا بكر ؛ فقال : قد علمت الذي عقدت لك عليه ؛ فإما أن تقتصر على ذلك ، وإما أن ترد إلي ذمتي ، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت [46] في رجل عقدت له ، قال أبو بكر : إني أرد إليك جوارك ، وأرضى بجوار الله [47] ، ورسول الله يومئذ بمكة ؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " قد أريت [48] دار هجرتكم : ذات نخل ، بين لابتين - وهما الحرتان - [49] فهاجر من هاجر إلى المدينة ، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة ، وتجهز أبو بكر قبل المدينة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " على رسلك [50] ، فإني أرجو أن يؤذن لي " فقال أبو بكر : وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي ؟ قال " نعم " فحبس أبو بكر نفسه [51] على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصحبه ، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر - وهو [ ص: 443 ] الخبط [52] أربعة أشهر ، قال ابن شهاب : قال عروة [53] : قالت عائشة [54] : فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة ، قال قائل لأبي بكر [55] : هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقنعا [56] في ساعة لم يكن يأتينا فيها ؛ فقال أبو بكر : فداه أبي وأمي ، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر . قالت : فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستأذن فأذن له فدخل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر : " أخرج من عندك " فقال أبو بكر : إنما هم أهلك بأبي أنت [57] يا رسول الله قال : " فإني قد أذن لي في الخروج " قال أبو بكر : الصحابة [58] يا رسول الله ، قال : نعم ، قال أبو بكر : فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بالثمن " قالت عائشة : [ ص: 444 ] فجهزناهما أحث [59] الجهاز ، وصنعنا [60] لهما سفرة في جراب [61] ، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها ، فربطت به [62] على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاقين ، قالت : ثم لحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ وأبو بكر ] [63] بغار في جبل ثور فمكثا [64] فيه ثلاث ليال ، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر ، وهو غلام شاب ثقف لقن فيدلج [65] من عندهما بسحر ، فيصبح مع [66] قريش بمكة كبائت ، ولا يسمع أمرا يكادان به [67] إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام ، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة ) [68] من غنم ، فيريحها [69] عليهما [ ص: 445 ] حين تذهب ساعة من الليل ، فيبيتان في رسل [70] ، وهو لبن منحتهما ورضيفهما [71] حتى ينعق بها [72] عامر بغلس يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث ، واستأجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ وأبو بكر ] [73] رجلا من بني الديل ، وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا والخريت : الماهر بالهداية [74] [75] [76] في آل العاص بن وائل السهمي ، وهو على دين كفار قريش ، فأمناه ، فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه [77] غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث ، فانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل وأخذ بهما طريق الساحل " قال ابن شهاب : فأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي ، وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن جعشم يقول : " جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 446 ] وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره ، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس ، فقال : يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة [78] بالساحل : أراها محمدا وأصحابه ، قال سراقة : فعرفت أنهم هم ، فقلت [ له ] [79] : إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقا بأعيننا [80] ، ثم لبثت في المجلس ساعة ، ثم قمت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي من وراء أكمة فتحبسها علي ، وأخذت رمحي ، ثم خرجت به من ظهر البيت ، فحططت بزجة الأرض وخفضت عاليه [81] حتى أتيت فرسي فركبتها ، فرفعتها تقرب بي [82] حتى دنوت منهم ، فعثرت فرسي ، فخررت عنها فقمت فأهويت بيدي إلى كنانتي ، فاستخرجت منها الأزلام ، فاستقسمت بها [83] : أضرهم [ ص: 447 ] أرده فآخذ المائة ناقة أم لا ؟ فخرج الذي أكره [84] ، فركبت [ فرسي ] [85] - وعصيت الأزلام - تقرب [ بي ] حتى [ إذا ] سمعت [86] قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يلتفت ، وأبو بكر يكثر الالتفات ، ساخت [87] يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين ، فخررت عنها ، ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها ، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها [88] غبار [89] ساطع في السماء مثل الدخان ، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره ، فناديتهم بالأمان فوقفوا ؛ فركبت فرسي حتى جئتهم ، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر [90] رسول الله - صلى الله عليه وسلم [91] " .

                  الوجه الخامس : أنه لما كان في الغار كان يأتيه بالأخبار عبد الله بن أبي بكر ، وكان معهما عامر بن فهيرة كما تقدم ذلك ، فكان يمكنه أن [ ص: 448 ] يعلمهم بخبره .

                  السادس : أنه إذا كان كذلك ، والعدو [92] قد جاء إلى الغار ، ومشوا فوقه ، كان يمكنه حينئذ أن يخرج من الغار ، وينذر العدو به ، وهو وحده ليس معه أحد يحميه منه ومن العدو ؛ فمن يكون مبغضا لشخص طالبا لإهلاكه ينتهز الفرصة في مثل هذه الحال التي لا يظفر فيها عدو بعدوه إلا أخذه ؛ فإنه وحده في الغار والعدو قد صاروا [93] عند الغار ، وليس لمن في الغار هناك من يدفع عنه ، وأولئك هم العدو الظاهرون الغالبون المتسلطون بمكة ، ليس بمكة من يخافونه إذا أخذوه ؛ فإن كان أبو بكر معهم مباطنا لهم كان الداعي إلى أخذه تاما ، والقدرة تامة ، وإذا اجتمع القدرة التامة والداعي التام وجب وجود الفعل ؛ فحيث لم يوجد دل على انتفاء الداعي ، أو انتفاء القدرة ، والقدرة موجودة ؛ فعلم انتفاء الداعي وأن أبا بكر لم يكن له غرض في أذاه ، كما يعلم ذلك جميع الناس إلا من أعمى الله قلبه .

                  ومن هؤلاء المفترين من يقول : إن أبا بكر كان يشير بإصبعه إلى العدو يدلهم [94] على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلدغته حية [95] فردها حتى كفت عنه الألم ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : إن نكثت نكث يدك ، وإنه نكث بعد ذلك ، فمات منها ، وهذا يظهر كذبه من وجوه نبهنا على بعضها .

                  [ ص: 449 ] ومنهم من قال : أظهر كعبه ليشعروا به ، فلدغته الحية ، وهذا من نمط الذي قبله .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية