الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 556 ] فصل

                  قال الرافضي [1] : وأما تقديمه في الصلاة فخطأ ، لأن بلالا لما أذن بالصلاة [2] ، أمرت عائشة أن يقدم أبا بكر [3] فلما أفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع التكبير ، فقال : من يصلي [4] بالناس فقالوا : أبو بكر فقال : أخرجوني فخرج بين علي والعباس فنحاه [5] عن القبلة وعزله عن الصلاة ، وتولى الصلاة " [6] .

                  والجواب : أن هذا من الكذب المعلوم عند جميع أهل العلم بالحديث ، ويقال له : أولا : من ذكر ما نقلته بإسناد يوثق [ به ] ؟ [7] وهل هذا [ ص: 557 ] إلا في كتب من نقله مرسلا من الرافضة ، الذين هم من أكذب الناس وأجهلهم بأحوال الرسول مثل المفيد بن النعمان ، والكراجكي وأمثالهما من الذين هم من أبعد الناس عن معرفة حال الرسول وأقواله وأعماله ؟ .

                  ويقال : ثانيا : هذا كلام جاهل يظن أن أبا بكر لم يصل بهم إلا صلاة واحدة ، وأهل العلم يعلمون أنه لم يزل يصلي بهم حتى مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإذنه واستخلافه له في الصلاة ، بعد أن راجعته عائشة وحفصة في ذلك وصلى بهم أياما متعددة ، وكان قد استخلفه في الصلاة قبل ذلك ، لما ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم ، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف في غيبته على الصلاة ، في غير سفر في حال غيبته ، وفي مرضه [8] إلا أبا بكر ولكن عبد الرحمن بن عوف صلى بالمسلمين مرة صلاة الفجر في السفر عام تبوك ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد ذهب ليقضي حاجته فتأخر ، وقدم المسلمون عبد الرحمن بن عوف ، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم ومعه المغيرة بن شعبة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد توضأ ومسح على خفيه فأدرك معه [9] ركعة ، وقضى ركعة ، وأعجبه ما فعلوه من صلاتهم [10] [ ص: 558 ] لما تأخر [11] ، فهذا إقرار منه على تقديم عبد الرحمن .

                  وكان إذا سافر عن المدينة استخلف من يستخلفه يصلي بالمسلمين ، كما استخلف ابن أم مكتوم تارة ، وعليا تارة في الصلاة ، واستخلف غيرهما تارة .

                  فأما في حال غيبته ومرضه [12] فلم يستخلف إلا أبا بكر لا عليا ولا غيره واستخلافه للصديق في الصلاة متواتر ثابت في الصحاح والسنن والمساند من غير وجه ، كما أخرج البخاري ومسلم وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم من أهل الصحيح عن أبي موسى الأشعري قال : مرض النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد مرضه فقال : " مروا أبا بكر فليصل بالناس ، فقالت عائشة : يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق متى يقم مقامك لا يستطيع أن يصلي بالناس ، فقال : " مري أبا بكر فليصل بالناس ، فإنكن صواحب يوسف " فصلى بهم أبو بكر في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر البخاري [13] فيه مراجعة عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات [14] .

                  [ ص: 559 ] وهذا الذي فيه من أن أبا بكر صلى بهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه إلى أن مات مما اتفق عليه العلماء بالنقل ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم مرض أياما متعددة حتى قبضه الله إليه ، وفي تلك الأيام لم يكن يصلي بهم إلا أبو بكر ، وحجرته إلى جانب المسجد ، فيمتنع والحال هذه أن يكون قد أمر غيره بالصلاة ، فصلى أبو بكر بغير أمره تلك المدة ، ولا مراجعة أحد في ذلك .

                  والعباس وعلي وغيرهما كانوا يدخلون عليه بيته ، وقد خرج بينهما في بعض تلك الأيام ، وقد روي أن ابتداء مرضه كان يوم الخميس ، وتوفي بلا خلاف يوم الاثنين من الأسبوع الثاني ، فكان مدة مرضه فيما قيل : اثني عشر يوما .

                  وفي الصحيح عن عبيد الله بن عبد الله قال : دخلت على عائشة فقلت لها ألا تحدثيني عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : بلى ، ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " أصلى الناس [15] ؟ " قلنا : لا ، وهم ينتظرونك يا رسول الله قال : " ضعوا لي ماء في المخضب " ففعلنا فاغتسل ، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ، ثم أفاق فقال : " أصلى الناس ؟ " فقلنا : لا ، وهم ينتظرونك يا رسول الله ، قالت : والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة ، قالت : فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر يصلي بالناس ، فأتاه الرسول ، فقال : إن رسول الله صلى الله [ ص: 560 ] عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس ، فقال أبو بكر - وكان رجلا رقيقا - يا عمر صل بالناس ، فقال عمر : أنت أحق بذلك ، قالت : فصلى بهم أبو بكر رضي الله عنه تلك الأيام .

                  ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة فخرج بين رجلين ، أحدهما العباس لصلاة الظهر ، وأبو بكر يصلي بالناس ، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتأخر وقال لهما : " أجلساني إلى جنبه " [16] فأجلساه إلى جنب أبي بكر ، فكان أبو بكر يصلي وهو قائم [17] بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد ، قال عبيد الله : فدخلت على ابن عباس فقلت : ألا أعرض عليك ما حدثتني [ به ] [18] عائشة عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : هات ، فعرضت عليه حديثها ، فما أنكر منه شيئا غير أنه قال : أسمت لك الرجل الذي كان مع العباس ؟ قلت : لا ؟ قال : هو علي بن أبي طالب
                  [19] .

                  [ ص: 561 ] فهذا الحديث الذي اتفقت فيه عائشة وابن عباس كلاهما يخبران بمرض النبي صلى الله عليه وسلم ، واستخلاف \ أبي بكر في الصلاة ، وأنه صلى بالناس قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم أياما ، وأنه لما خرج لصلاة الظهر أمره أن لا يتأخر ، بل يقيم مكانه ، وجلس النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ، والناس يصلون بصلاة أبي بكر وأبو بكر يصلي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم .

                  والعلماء كلهم متفقون على تصديق هذا الحديث وتلقيه بالقبول ، وتفقهوا في مسائل فيه منها صلاة النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا ، وأبو بكر قائم هو والناس هل كان من خصائصه ؟ أو كان ذلك ناسخا لما استفاض عنه من قوله " وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون " ؟ ، أو يجمع بين الأمرين ، ويحمل ذلك على ما إذا ابتدأ الصلاة قاعدا ، وهذا على ما إذا حصل القعود في أثنائها : على ثلاثة أقوال للعلماء ، والأول قول مالك ومحمد بن الحسن ، والثاني : قول أبي حنيفة والشافعي والثالث : قول أحمد وحماد بن زيد والأوزاعي وغيرهما ممن يأمر المؤتمين [20] بالقعود إذا قعد الإمام لمرض وتكلم العلماء فيما إذا استخلف الإمام الراتب خليفة ، ثم حضر الإمام هل يتم الصلاة بهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه ، وفعله مرة أخرى [ ص: 562 ] سنذكرها ، أم ذلك من خصائصه ؟ على قولين : هما وجهان في مذهب أحمد .

                  وقد صدق ابن عباس عائشة فيما أخبرت به مع أنه كان بينهما بعض الشيء بسبب ما كان بينهما وبين علي ; ولذلك لم تسمه وابن عباس يميل إلى علي ولا يتهم عليه ، ومع هذا فقط صدقها في جميع ما قالت ، وسمى الرجل الآخر عليا فلم يكذبها ، ولم يخطئها في شيء مما روته .

                  وفي الصحيحين عن عائشة قالت : لقد راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا ، وإلا إني كنت أرى أنه [21] لن يقوم مقامه أحد إلا تشاءم الناس به فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر ، قال البخاري : " ورواه ابن عمر وأبو موسى وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم [22] " .

                  وفي الصحيحين عنها قالت لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بلال يؤذنه بالصلاة ، فقال : " مروا أبا بكر فليصل بالناس " قالت : فقلت : يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف ، وإنه متى يقوم مقامك لا [ ص: 563 ] يسمع [ الناس ] [23] ، فلو أمرت عمر فقال : " مروا أبا بكر فليصل بالناس " قالت : فقلت لحفصة : قولي له إن أبا بكر رجل أسيف ، وإنه متى يقوم مقامك لا يسمع الناس ، فلو أمرت عمر فقالت له : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنكن [24] لأنتن صواحب يوسف ، مروا أبا بكر فليصل بالناس " قالت : فأمروا أبا بكر أن يصلي بالناس [25] ، وفي رواية البخاري [26] : ففعلت حفصة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مه إنكن لأنتن صواحب [27] يوسف ، مروا أبا بكر فليصل بالناس " فقالت حفصة لعائشة : ما كنت لأصيب منك خيرا " [28] .

                  ففي هذا أنها راجعته وأمرت حفصة بمراجعته ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لامهن على هذه المراودة ، وجعلها من المراودة على الباطل كمراودة صواحب يوسف ليوسف .

                  [ ص: 564 ] فدل هذا على أن تقديم غير أبي بكر في الصلاة من الباطل الذي يذم من يراود عليه كما ذم النسوة على مراودة يوسف ، هذا مع أن أبا بكر قد قال لعمر يصلي فلم يتقدم عمر ، وقال : أنت أحق بذلك ، فكان في هذا اعتراف عمر له أنه أحق بذلك منه ، كما اعترف له بأنه أحق بالخلافة منه ومن سائر الصحابة ، وأنه أفضلهم .

                  كما في البخاري عن عائشة لما ذكرت خطبة أبي بكر بالمدينة ، وقد تقدم ذلك قالت : واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة ، فقالوا : منا أمير ومنكم أمير فذهب إليهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وأبو عبيدة بن الجراح ، فذهب [29] عمر يتكلم ، فأسكته أبو بكر وكان عمر يقول : والله ما أردت بذلك إلا أني هيأت كلاما أعجبني خفت أن لا يبلغه أبو بكر ، ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس ، فقال في كلامه : نحن الأمراء وأنتم الوزراء ، فقال حباب [30] بن المنذر : لا نفعل ، منا أمير ومنكم أمير ، فقال أبو بكر : ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء هم أوسط العرب دارا ، وأعرقهم [31] أحسابا ، فبايعوا عمر أو أبا عبيدة بن الجراح فقال عمر : بل نبايعك أنت ، فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس فقال قائل منهم : قتلتم سعد بن عبادة ، فقال عمر : قتله الله [32] .

                  [ ص: 565 ] ففي هذا الخبر إخبار عمر بين للمهاجرين والأنصار أن أبا بكر سيد المسلمين وخيرهم وأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك علة مبايعته فقال : بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ; ليبين بذلك أن المأمور به تولية الأفضل ، وأنت أفضلنا [33] فنبايعك .

                  كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : من أحب الرجال إليك ؟ قال : " أبو بكر " [34] .

                  ولما قال : " لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا " [35] ، وهذا مما يقطع أهل العلم بالحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ، وإن كان من ليس له مثل علمهم لم يسمعه ، أو سمعه ولا يعرف أصدق هو أم كذب ؟ فلكل علم رجال يقومون به ، وللحروب رجال يعرفون بها ، وللدواوين حساب وكتاب .

                  [ ص: 566 ] وهؤلاء الثلاثة هم الذين عنتهم عائشة فيما رواه مسلم عن [ ابن ] [36] أبي مليكة [37] ، قال : سمعت عائشة ، وسئلت : من كان رسول الله مستخلفا لو استخلف ؟ قالت : أبو بكر فقيل لها : من بعد أبي بكر ؟ قالت : عمر قيل لها : من بعد عمر ، قالت : أبو عبيدة بن الجراح ، ثم انتهت إلى هذا [38] .

                  والمقصود هنا أن استخلافه في الصلاة كان أياما متعددة [39] ، كما اتفق عليه رواية الصحابة ، ورواه أهل الصحيح من حديث أبي موسى وابن عباس وعائشة وابن عمر وأنس ، ورواه البخاري من حديث ابن عمر وفيه قوله : " مروا أبا بكر فليصل بالناس " ومراجعة عائشة له في هذه القصة ، وذكر المراجعة مرتين ، وفيه قوله : " مروه فليصل بالناس ، فإنكن صواحب يوسف " ، ولم يزل يصلي بهم باتفاق الناس حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد رآهم النبي صلى الله عليه وسلم يصلون خلفه آخر صلاة في حياته ، وهي صلاة الفجر يوم الاثنين ، وسر بذلك وأعجبه [40] .

                  [ ص: 567 ] كما في الصحيحين عن أنس أن أبا بكر كان يصلي بهم في وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه حتى إذا كان يوم الاثنين ، وهم صفوف في الصلاة كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة ، فنظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف ، ثم تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا ، قال [41] : فبهتنا ونحن في الصلاة من الفرح بخروج النبي صلى الله عليه وسلم ، ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف ، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج للصلاة ، فأشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده أن أتموا صلاتكم ، قال : ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرخى الستر ، قال : فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه ذلك .

                  وفي بعض طرق البخاري : قال : فهم الناس أن يفتتنوا في صلاتهم فرحا في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر أن ذلك كان في صلاة [ ص: 568 ] الفجر
                  [42] .

                  وفي صحيح مسلم عن أنس قال : آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : كشف الستارة يوم الاثنين ، وذكر القصة [43] .

                  وفي الصحيحين عن أنس قال : لم يخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا ، فأقيمت الصلاة فذهب أبو بكر يتقدم ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم بالحجاب [44] ، فرفعه فلما وضح لنا وجه النبي صلى الله عليه وسلم ما نظرنا منظرا قط أعجب إلينا من وجهه حين وضح لنا [45] قال : فأومأ نبي الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم ، وأرخى نبي الله صلى الله عليه وسلم الحجاب ، فلم يقدر عليه حتى مات [46] .

                  فقد أخبر أنس أن هذه الخرجة الثانية إلى باب الحجرة كانت بعد احتباسه ثلاثا ، وفي تلك الثلاث كان يصلي بهم أبو بكر ، كما كان يصلي بهم قبل خرجته الأولى التي خرج فيها بين علي والعباس ، وتلك كان [ ص: 569 ] يصلي قبلها أياما ، فكل هذا ثابت في الصحيح كأنك تراه .

                  وفي حديث أنس أنه أومأ إلى أبي بكر أن يتقدم فيصلي بهم هذه الصلاة الآخرة التي هي آخر صلاة صلاها المسلمون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهنا باشره بالإشارة إليه إما في الصلاة ، وإما قبلها .

                  وفي أول الأمر أرسل إليه رسلا فأمروه بذلك ، ولم تكن عائشة هي المبلغة لأمره ولا قالت لأبيها : إنه أمره كما زعم هؤلاء الرافضة المفترون .

                  فقول هؤلاء الكذابين : إن بلالا لما أذن أمرته عائشة أن يقدم أبا بكر ، كذب واضح لم تأمره عائشة أن يقدم أبا بكر ، ولم تأمره بشيء ولا أخذ بلال ذلك عنها ، بل هو الذي آذنه بالصلاة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لكل من حضره : لبلال وغيره : " مروا أبا بكر فليصل بالناس " فلم يخص عائشة بالخطاب ، ولا سمع ذلك بلال منها .

                  وقوله : " فلما أفاق سمع التكبير ، فقال : من يصلي بالناس ؟ فقالوا : أبو بكر ، فقال : أخرجوني " .

                  فهو كذب ظاهر ، فإنه قد ثبت بالنصوص [47] المستفيضة التي اتفق أهل العلم بالحديث على صحتها أن أبا بكر صلى بهم أياما قبل خروجه ، كما صلى بهم أياما بعد خروجه ، وأنه لم يصل بهم في مرضه غيره .

                  ثم يقال : من المعلوم المتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم مرض [ ص: 570 ] أياما متعددة عجز فيها عن الصلاة ( * بالناس أياما ، فمن الذي كان يصلي بهم تلك الأيام غير أبي بكر ؟ ولم ينقل أحد قط : لا صادق * ) [48] ولا كاذب : أنه صلى بهم غير أبي بكر ، لا عمر ولا علي ولا غيرهما ، وقد صلوا جماعة ، فعلم أن المصلي بهم كان أبا بكر .

                  ومن الممتنع أن يكون الرسول لم يعلم ذلك ، ولم يستأذنه المسلمون فيه ، فإن مثل هذا ممتنع عادة وشرعا ، فعلم أن ذلك كان بإذنه .

                  كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة ، وثبت أنه روجع في ذلك ، وقيل له : لو أمرت غير أبي بكر ؟ فلام من راجعه ، وجعل ذلك من المنكر الذي أنكره لعلمه بأن المستحق لذلك هو أبو بكر لا غيره .

                  كما في الصحيحين عن عائشة قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا لأبي بكر ، فإني أخاف أن يتمنى متمن ، أو يقول قائل : أنا أولى ، ويأبى الله ورسوله والمؤمنون إلا أبا بكر " [49] .

                  وفي البخاري عن القاسم بن محمد قال : قالت عائشة : وارأساه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ذاك لو كان وأنا حي ، فأستغفر لك وأدعو لك " فقالت عائشة : واثكلتاه ، والله إني لأظنك تحب موتي ، فلو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " وارأساه لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد [ ص: 571 ] أن يقول القائلون ، أو يتمنى المتمنون ، ويدفع الله ويأبى المؤمنون " [50] .

                  وهذا الحديث الصحيح فيه همه بأن يكتب لأبي بكر كتابا بالخلافة ; لئلا يقول قائل : أنا [51] أولى ، ثم قال : " يأبى الله ذلك والمؤمنون " فلما علم الرسول أن الله تعالى لا يختار إلا أبا بكر ، والمؤمنون لا يختارون إلا إياه اكتفى بذلك عن الكتاب ، فأبعد الله من لا يختار ما اختاره الله ورسوله والمؤمنون .

                  وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مرتين في مرضه ، ( * قال لعائشة : " ادعي لي أباك وأخاك " ، وقال قبل ذلك لما اشتكت عائشة : " لقد هممت أن أكتب لأبي بكر كتابا " [52] .

                  ثم إنه عزم يوم الخميس في مرضه * ) [53] على الكتاب مرة أخرى ، كما في الصحيحين عن ابن عباس أنه قال : " يوم الخميس وما يوم الخميس ، اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم الوجع ، فقال : " ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا " فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا : ما شأنه هجر ؟ استفهموه ، فذهبوا يردون عليه ، فقال : " ذروني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه " فأمرهم بثلاث ، فقال : " أخرجوا اليهود من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم " وسكت عن الثالثة ، أو قال : فنسيتها " [54] .

                  [ ص: 572 ] وفي رواية في الصحيحين قال : " وفي البيت رجال فيهم عمر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هلموا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده " فقال بعضهم - وفي رواية عمر - : رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن حسبكم كتاب الله ، فاختلف أهل البيت واختصموا ، فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم ، ومنهم من يقول : ما قال عمر ، ومنهم من يقول [55] غير ذلك ، فلما أكثروا اللغط قال : " قوموا عني " قال عبيد الله الراوي [56] عن الزهري قال ابن عباس : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كتابه " [57] ، فحصل لهم شك : هل قوله : " أكتب لكم كتابا لن تضلوا [58] بعده " هو مما أوجبه المرض ، أو هو الحق الذي يجب اتباعه ؟ وإذا حصل الشك لهم لم يحصل به المقصود ، فأمسك عنه وكان لرأفته [59] بالأمة يحب أن يرفع الخلاف بينها ، ويدعو الله بذلك ، ولكن قدر الله قد مضى بأنه لا بد من الخلاف .

                  كما في الصحيح عنه أنه قال : " سألت ربي ثلاثا ، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة : سألته أن لا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم [ ص: 573 ] فيجتاحهم [60] فأعطانيها ، وسألته أن لا يهلكهم بسنة عامة فأعطانيها ، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها " [61] .

                  ولهذا قال ابن عباس : " إن الرزية كل الرزية ما حال بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الكتاب " ، فإن ذلك رزية في حق من شك في خلافة الصديق ، وقدح فيها إذ لو كان الكتاب الذي هم به أمضاه لكانت شبهة هذا المرتاب تزول بذلك ، ويقول : خلافته ثبتت [62] بالنص الصريح الجلي ، فلما لم يوجد هذا كان رزية في حقه من غير تفريط من الله ورسوله ، بل قد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين ، وبين الأدلة الكثيرة الدالة على أن الصديق أحق بالخلافة من غيره ، وأنه المقدم .

                  وليست هذه رزية في حق أهل التقوى الذين يهتدون بالقرآن ، وإنما كانت رزية في حق من في قلبه مرض ، كما كان نسخ ما نسخه الله ، وإنزال القرآن ، وانهزام المسلمين يوم أحد ، وغير ذلك من مصائب الدنيا رزية في حق من في قلبه مرض .

                  قال تعالى : ( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ) [ سورة آل عمران : 7 ] .

                  وإن كانت هذه الأمور في حق من هداه الله مما يزيدهم الله به علما وإيمانا .

                  [ ص: 574 ] وهذا كوجود الشياطين من الجن والإنس يرفع الله به درجات أهل [63] الإيمان بمخالفتهم ومجاهدتهم مع ما في وجودهم من الفتنة لمن أضلوه وأغووه .

                  وهذا كقوله تعالى : ( وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ) [ سورة المدثر : 31 ] .

                  وقوله : ( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ) [ سورة البقرة : 143 ] .

                  وقول موسى : ( إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ) [ سورة الأعراف : 155 ] .

                  وقوله : ( إنا مرسلو الناقة فتنة لهم ) [ سورة القمر : 27 ] .

                  وقوله : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ) [ سورة الحج : 52 - 54 ] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية