الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ولهذا امتنع ربان مستقلان أو متعاونان . أما المستقلان ، فلأن استقلال أحدهما بالعالم [1] يوجب أن يكون [2] الآخر لم يشركه فيه ، فإذا كان الآخر مستقلا لزم أن يكون كل منهما فعله ، وكل منهما لم يفعله ، وهو جمع بين النقيضين .

                  وأما المتعاونان ، فإن قيل : إن كلا منهما قادر على الاستقلال حال كون الآخر مستقلا به [3] ، لزم القدرة على اجتماع النقيضين وهو ممتنع ، [ ص: 439 ] فإنه حال قدرة أحدهما على الاستقلال يمتنع قدرة الآخر على الاستقلال ، ولا يكونان [4] في حال واحدة كل منهما قادر على الاستقلال ، فإن ذلك يقتضي وجوده مرتين في حال واحدة . لكن الممكن أن يقدر هذا إذا لم يكن الآخر فاعلا [5] وبالعكس ، فقدرة كل منهما مشروطة بعدم فعل الآخر معه ، ففي حال فعل كل واحد [6] منهما يمتنع قدرة الآخر .

                  وإن قيل : إن المتعاونين لا يقدران في حال واحدة على الاستقلال ، كما هو الممكن الموجود في المتعاونين من المخلوقين ، كان هذا باطلا [ أيضا كما سيأتي ] [7] .

                  والمقصود أنهما إن كانا قادرين على الاستقلال ، أمكن أن يفعل هذا مقدوره وهذا مقدوره ، فيلزم اجتماع النقيضين ، وإلا لزم أن تكون قدرة أحدهما مشروطة بتمكين الآخر له ، وهذا ممتنع كما سيأتي .

                  وأيضا ، فيمكن أن يريد أحدهما [8] ضد مراد الآخر ، فيريد هذا تحريك جسم وهذا تسكينه ، واجتماع الضدين ممتنع . وإن لم يمكن أحدهما إرادة الفعل إلا بشرط موافقة الآخر له ، كان عاجزا وحده ، ولم يصر قادرا إلا بموافقة الآخر

                  [ ص: 440 ] وكذا [9] إذا قدر أنه ليس واحد منهما قادرا على الاستقلال ، بل لا يقدر إلا بمعاونة الآخر كما في المخلوقين ، أو قيل : يمكن كل [10] منهما الاستقلال بشرط تخلية الآخر بينه وبين الفعل ، ففي جميع هذه الأقسام يلزم أن تكون قدرة كل منهما لا تحصل إلا بإقدار الآخر له ، وهذا ممتنع ، فإنه من جنس الدور في المؤثرات في الفاعلين والعلل الفاعلة [11] . فإن ما به يتم كون الفاعل فاعلا يمتنع فيه الدور ، كما يمتنع في ذات الفاعل ، والقدرة شرط في الفعل ، فلا يكون الفاعل فاعلا إلا بالقدرة ، ( * فإذا كانت قدرة هذا لا تحصل إلا بقدرة ذاك [12] ، وقدرة ذاك [13] لا تحصل إلا بقدرة هذا * ) [14] كان هذا دورا ممتنعا .

                  كما أن ذات ذاك إذا لم تحصل إلا بهذا ، وذات هذا لم تحصل إلا بذات ذاك [15] كان هذا دورا ممتنعا ، إذ كان كل منهما هو الفاعل للآخر ، بخلاف ما إذا كان ملازما له أو شرطا فيه [16] والفاعل غيرهما ، فإن هذا جائز ، كما ذكر في الأبوة والبنوة .

                  وكذلك الواحد الذي يريد أحد الضدين بشرط [17] أن لا يريد الضد [ ص: 441 ] الآخر ، فإن هذا لا يقدح في كونه قادرا . وأما إذا كان لا يقدر حتى يعينه الآخر على القدرة ، أو حتى يخليه فلا يمنعه من الفعل ، فإن ذلك يقدح في كونه وحده قادرا .

                  وهذه المعاني قد بسطت في غير هذا الموضع ، لكن لما كان الكلام في التسلسل والدور كثيرا ما يذكر في هذه المواضع المشكلة المتعلقة بما يذكر من الدلائل في توحيد الله وصفاته وأفعاله ، وكثير من الناس قد لا يهتدي للفروق الثابتة بين الأمور المتشابهة ، حتى يظن فيما هو دليل صحيح أنه ليس دليلا صحيحا ، أو يظن ما ليس بدليل دليلا ، أو يحار ويقف ويشتبه الأمر عليه ، أو يسمع كلاما طويلا مشكلا لا يفهم معناه ، أو يتكلم بما لا يتصور حقيقته ، نبهنا [18] على ذلك هنا تنبيها لطيفا ؛ إذ هذا ليس [19] موضع بسطه .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية