ولهذا . أما المستقلان ، فلأن استقلال أحدهما بالعالم امتنع ربان مستقلان أو متعاونان [1] يوجب أن يكون [2] الآخر لم يشركه فيه ، فإذا كان الآخر مستقلا لزم أن يكون كل منهما فعله ، وكل منهما لم يفعله ، وهو جمع بين النقيضين .
وأما المتعاونان ، فإن قيل : إن كلا منهما قادر على الاستقلال حال كون الآخر مستقلا به [3] ، لزم القدرة على اجتماع النقيضين وهو ممتنع ، [ ص: 439 ] فإنه حال قدرة أحدهما على الاستقلال يمتنع قدرة الآخر على الاستقلال ، ولا يكونان [4] في حال واحدة كل منهما قادر على الاستقلال ، فإن ذلك يقتضي وجوده مرتين في حال واحدة . لكن الممكن أن يقدر هذا إذا لم يكن الآخر فاعلا [5] وبالعكس ، فقدرة كل منهما مشروطة بعدم فعل الآخر معه ، ففي حال فعل كل واحد [6] منهما يمتنع قدرة الآخر .
وإن قيل : إن المتعاونين لا يقدران في حال واحدة على الاستقلال ، كما هو الممكن الموجود في المتعاونين من المخلوقين ، كان هذا باطلا [ أيضا كما سيأتي ] [7] .
والمقصود أنهما إن كانا قادرين على الاستقلال ، أمكن أن يفعل هذا مقدوره وهذا مقدوره ، فيلزم اجتماع النقيضين ، وإلا لزم أن تكون قدرة أحدهما مشروطة بتمكين الآخر له ، وهذا ممتنع كما سيأتي .
وأيضا ، فيمكن أن يريد أحدهما [8] ضد مراد الآخر ، فيريد هذا تحريك جسم وهذا تسكينه ، واجتماع الضدين ممتنع . وإن لم يمكن أحدهما إرادة الفعل إلا بشرط موافقة الآخر له ، كان عاجزا وحده ، ولم يصر قادرا إلا بموافقة الآخر
[ ص: 440 ] وكذا [9] إذا قدر أنه ليس واحد منهما قادرا على الاستقلال ، بل لا يقدر إلا بمعاونة الآخر كما في المخلوقين ، أو قيل : يمكن كل [10] منهما الاستقلال بشرط تخلية الآخر بينه وبين الفعل ، ففي جميع هذه الأقسام يلزم أن تكون قدرة كل منهما لا تحصل إلا بإقدار الآخر له ، وهذا ممتنع ، فإنه من جنس الدور في المؤثرات في الفاعلين والعلل الفاعلة [11] . فإن ما به يتم كون الفاعل فاعلا يمتنع فيه الدور ، كما يمتنع في ذات الفاعل ، والقدرة شرط في الفعل ، فلا يكون الفاعل فاعلا إلا بالقدرة ، ( * فإذا كانت قدرة هذا لا تحصل إلا بقدرة ذاك [12] ، وقدرة ذاك [13] لا تحصل إلا بقدرة هذا * ) [14] كان هذا دورا ممتنعا .
كما أن ذات ذاك إذا لم تحصل إلا بهذا ، وذات هذا لم تحصل إلا بذات ذاك [15] كان هذا دورا ممتنعا ، إذ كان كل منهما هو الفاعل للآخر ، بخلاف ما إذا كان ملازما له أو شرطا فيه [16] والفاعل غيرهما ، فإن هذا جائز ، كما ذكر في الأبوة والبنوة .
وكذلك الواحد الذي يريد أحد الضدين بشرط [17] أن لا يريد الضد [ ص: 441 ] الآخر ، فإن هذا لا يقدح في كونه قادرا . وأما إذا كان لا يقدر حتى يعينه الآخر على القدرة ، أو حتى يخليه فلا يمنعه من الفعل ، فإن ذلك يقدح في كونه وحده قادرا .
وهذه المعاني قد بسطت في غير هذا الموضع ، لكن لما كان الكلام في التسلسل والدور كثيرا ما يذكر في هذه المواضع المشكلة المتعلقة بما يذكر من الدلائل في توحيد الله وصفاته وأفعاله ، وكثير من الناس قد لا يهتدي للفروق الثابتة بين الأمور المتشابهة ، حتى يظن فيما هو دليل صحيح أنه ليس دليلا صحيحا ، أو يظن ما ليس بدليل دليلا ، أو يحار ويقف ويشتبه الأمر عليه ، أو يسمع كلاما طويلا مشكلا لا يفهم معناه ، أو يتكلم بما لا يتصور حقيقته ، نبهنا [18] على ذلك هنا تنبيها لطيفا ؛ إذ هذا ليس [19] موضع بسطه .