الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
127 - وقال "أبو عبيد" في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن البتع فقال: "كل شراب أسكر فهو حرام"   [ ص: 392 ] .

[قال] : حدثنيه ابن مهدي، عن مالك بن أنس، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة [ - رضي الله عنها - ] ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -

قال أبو عبيد: وقد جاءت في الأشربة آثار كثيرة بأسماء مختلفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وكل له تفسير.

فأولها الخمر، وهو ما غلى من عصير العنب،  فهذا ما لا اختلاف في تحريمه بين المسلمين، إنما الاختلاف في غيره.

ومنها السكر، وهو نقيع التمر الذي لم تمسه النار.

وفيه يروى عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "السكر خمر".

قال: وكذلك حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، والشعبي، وأبي رزين قالوا: "السكر خمر، ".

وقال أبو زرعة بن عمرو بن جرير: "السكر خمر إلا أنه ألأم من الخمر".

قال: حدثنيه هشيم، عن ابن شبرمة، عن أبي زرعة [ ص: 393 ] .

ومنها "البتع"، وهو الذي جاء فيه الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم، وهو نبيذ العسل، ومنها "الجعة": وهو نبيذ الشعير.

ومنها "المزر": وهو من الذرة.
 

قال: حدثنيه أبو المنذر إسماعيل بن عمر الواسطي، عن مالك بن مغول، عن أكيل مؤذن إبراهيم، عن الشعبي، عن ابن عمر، أنه فسر هذه الأربعة - الأشربة وزاد: والخمر من العنب، والسكر من التمر.

قال أبو عبيد: ومنها "السكركة" وقد روي [فيه] عن الأشعري "التفسير، فقال: إنه من الذرة.

قال: حدثناه حجاج، ومحمد بن كثير، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن صفوان بن محرز، قال: سمعت أبا موسى الأشعري يخطب، فقال: [إن] [ ص: 394 ] خمر "المدينة" من البسر والتمر، وخمر "أهل فارس" من العنب، وخمر "أهل اليمن" . . . البتع، وهو من العسل، وخمر "الحبش" السكركة.

قال أبو عبيد: ومن الأشربة أيضا "الفضيخ" وهو ما افتضخ من البسر من غير أن تمسه النار.  

وفيه يروى عن ابن عمر، ليس بالفضيخ، ولكنه الفضوخ.

[قال أبو عبيد] : وفيه يروى عن أنس [بن مالك] أيضا أنه قال: "نزل تحريم الخمر وما كان غير فضيخكم هذا الذي تسمونه الفضيخ.

قال: حدثنيه ابن علية، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس.

قال أبو عبيد: فإن كان مع البسر تمر، فهو الذي يسمى الخليطين، [ ص: 395 ] وكذلك إن كان زبيبا وتمرا فهو مثله.

ومن الأشربة "المنصف" وهو أن يطبخ عصير العنب قبل أن يغلى حتى يذهب نصفه،  وقد بلغني أنه يسكر، فإن كان يسكر فهو حرام، وإن طبخ حتى يذهب ثلثاه، ويبقى ثلثه، فهو "الطلاء".

وإنما سمي بذلك؛ لأنه شبه بطلاء الإبل في ثخنه وسواده.

وبعض العرب يجعل الطلاء الخمر بعينها، يروى أن "عبيد بن الأبرص" قال في مثل له:


هي الخمر تكنى لعمري الطلا كما الذيب يكنى أبا جعده

وكذلك "الباذق" قد يسمى به الخمر و [هو] المطبوخ، وهو الذي يروى فيه الحديث عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه سئل عن الباذق، فقال: سبق "محمد" [ - صلى الله عليه وسلم - ] الباذق، وما أسكر فهو حرام [ ص: 396 ] .

وإنما قال ابن عباس - رحمه الله - ذلك؛ لأن الباذق كلمة فارسية عربت، فلم يعرفها.

وكذلك "البختج" أيضا إنما هو اسم بالفارسية عرب، وهو الذي يروى فيه الرخصة، عن "إبراهيم".

قال: حدثناه هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، أنه أهدي له "بختج" خاثر، فكان ينبذه يلقي فيه العكر.

قال أبو عبيد: وهو الذي يسميه الناس [اليوم] الجمهوري، وهو إذا غلا، وقد جعل فيه الماء فقد عاد إلى مثل حالة الأولى لو كان غلا ، وهو عصير لم يخالطه الماء، لأن السكر الذي كان زايله أراه قد عاد إليه، وأن الماء الذي خالطه لا يحل حراما.

ألا ترى أن عمر - رضي الله عنه - إنما أحل الطلاء حين ذهب سكره وشره، وحظ شيطانه، وهكذا يروى عنه [ ص: 397 ] .

فإذا عاوده ما كان فارقه، فما أغنت عنه النار والماء، وهل كان دخولهما ها هنا إلا فضلا.

ومن الأشربة نقيع الزبيب، وهو الذي يروى فيه عن سعيد بن جبير وغيره: "هي الخمر أحييتها".

قال أبو عبيد: وهذا الجمهوري عندي شر منه، ولكنه مما أحدث الناس بعد، وليس مما كان في دهر أولئك، فيقولوا فيه.

ومن الأشربة "المقدي" وهو شراب من أشربة "أهل الشام"،  وزعم الهيثم [بن عدي] أن عبد الملك بن مروان، كان يشربه، ولست أدري من أي شيء يعمل غير أنه مسكر .

ومنها شراب يقال له: "المزاء"، وقد جاء في بعض الحديث ذكره، وقالت فيه الشعراء، قال "الأخطل" يعيب قوما [ ص: 398 ] :


بئس الصحاة، وبئس الشرب شربهم     إذا جرى فيهم المزاء والسكر



قال [أبو عبيد] وقد أخبرني محمد بن كثير أن "لأهل اليمن" شرابا يقال له: "الصعف"، وهو أن يشدخ العنب، ثم يلقى في الأوعية حتى يغلي،  فجهالهم لا يرونها خمرا لمكان اسمها.

قال أبو عبيد: وهذه الأشربة المسماة كلها عندي كناية ، عن اسم الخمر، ولا أحسبها إلا داخلة في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أن ناسا من أمتي يشربون الخمر باسم يسمونها به".

قال أبو عبيد: وقد بقيت أشربة سوى هذه المسماة ليست لها أسماء منها: نبيذ الزبيب بالعسل، ونبيذ الحنطة، ونبيذ التين، وطبيخ الدبس، وهو عصير التمر، فهذه كلها لاحقة عندي بتلك المسماة في الكراهة، وإن لم تكن سميت؛ لأنها كلها [ ص: 399 ] تعمل عملا واحدا في السكر، والله أعلم بذلك.

قال: ومما يبينه قول عمر بن الخطاب - رحمه الله - : "الخمر ما خامر العقل".

قال: حدثناه ابن علية، ويحيى بن سعيد كلاهما عن أبي حيان التيمي، عن الشعبي، عن ابن عمر، قال: خطب "عمر" فقال: "إن الخمر نزل تحريمها، وهي من خمسة أشياء: العنب، والتمر، والحنطة، والشعير، والعسل، والخمر ما خامر العقل".

وقد أخبرني يحيى بن سعيد [القطان] ، عن عبد الله بن المبارك في رجل صلى وفي ثوبه من النبيذ المسكر مثل قدر الدرهم أو أكثر أنه يعيد الصلاة [ ص: 400 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية