فرحمتها، فحملتها معها، فبينا هما ترتكان إذ انتفجت الأرنب، فقالت الحديباء: الفصية! والله لا يزال كعبك عاليا!
قالت: وأدركني عمهن بالسيف، فأصابت ظبته طائفة من قرون رأسيه، وقال ألقي إلي ابنة أخي يا دفار! فألقيتها إليه، ثم انطلقت إلى أخت لي ناكح في "بني شيبان" أبتغي الصحابة إلى رسول الله [ ص: 377 ] [ - صلى الله عليه وسلم - ] ، فبينما أنا عندها ليلة تحسب عني نائمة، إذ دخل زوجها من السامر، فقال: وأبيك لقد أصبت "لقيلة ) صاحب صدق: "حريث بن حسان الشيباني ".
فقالت أختي: الويل لي، لا تخبرها، فتتبع أخا "بكر بن وائل" بين سمع الأرض وبصرها، ليس معها رجل من قومها.
قالت: فصحبته صاحب صدق، حتى قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصليت معه الغداة، حتى إذا طلعت الشمس دنوت، فكنت إذا رأيت رجلا ذا رواء وذا قشر، طمح بصري إليه، فجاء رجل فقال: السلام عليك يا رسول الله.
فقال رسول الله [ - صلى الله عليه وسلم - ] : وعليك السلام، وهو قاعد القرفصاء، وعليه أسمال مليتين، ومعه عسيب نخلة مقشو غير خوصتين من أعلاه [ ص: 378 ] .
قالت: فتقدم صاحبي، فبايعه على الإسلام، ثم قال: يا رسول الله! اكتب لي "بالدهناء ".
فقال: يا غلام! اكتب له.
قالت: فشخص بي، وكانت وطني وداري.
فقلت: يا رسول الله! الدهناء مقيد الجمل، ومرعى الغنم، وهذه نساء "بني تميم" وراء ذلك.
فقال: "صدقت المسكينة. المسلم أخو المسلم يسعهما الماء، والشجر، ويتعاونان على الفتان ". حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي تحدثه عنه
قال "أبو عبيد ": ويروى: "الفتان ".
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أيلام ابن هذه أن يفصل الخطة، وينتصر من وراء الحجزة ".
[قال أبو عبيد] : [ ص: 379 ] : قولها: أخذتها الفرصة
هي الريح التي يكون منها الحدب، والعامة تقولها بالسين، وأما المسموع من العرب، فبالصاد.
و [أما] قولها: "عليها سبيج لها ": فإنه ثوب يعمل من الصوف لا أحسبه يكون إلا أسود.
يعني أنهما ترتكان بعيريهما: إذا أسرعا في السير [ ص: 380 ] . وقولها: ترتكان،
يقال: قد رتك البعير يرتك رتكا ورتكانا.
وأرتكته أنا، فأنا أرتكه إرتاكا.
وقولها: فقالت "الحديباء ": الفصية! والله لا يزال كعبك عاليا، فإنها تفاءلت بانتفاج الأرنب [ ص: 381 ] .
والأصل في الفصية: الشيء تكون فيه، ثم تخرج منه إلى غيره ومن هذا قيل: تفصيت من كذا وكذا، أي خرجت منه.
فكأنها أرادت أنها كانت، في ضيق وشدة من قبل عم بناتها، فتفصت، وخرجت منه إلى السعة.
ألا تسمع إلى قولها: والله لا يزال كعبك عاليا.
وأما قولها: فأدركني عمهن بالسيف، فأصابت ظبته بعض قرون رأسيه، فإن ظبته حده، وجمعه ظبات وظبون، وهو ما يلي الطرف منه، ومثله ذبابة [ ص: 382 ] .
قال "الكميت ":
يرى الراءون بالشفرات منا كنار أبي حباحب والظبينا
وقول الرجل للمرأة: ألقي إلي ابنة أخي يا دفار، فالدفار: المنتنة ومنه قيل للأمة يا دفار.ومنه قول [ - رضي الله عنه - ] : "يا دفراه ". "عمر"
وزعم أن العرب تسمي الدنيا "أم دفر ". "الأصمعي"
وهي لغة "بني تميم "، قال وقولها: تحسب عني نائمة، فإنها أرادت: تحسب أني نائمة [ ص: 383 ] . "ذو الرمة ":
أعن ترسمت من خرقاء منزلة ماء الصبابة من عينيك مسجوم
وقول أخت "قيلة ": لا تخبرها فتتبع أخا "بكر بن وائل" بين سمع الأرض وبصرها.
فإن بعضهم يقول: بين طولها وعرضها وهذا معنى يخرج.
ولكن الكلام لا يوافقه، ولا أدري ما الطول والعرض من السمع والبصر، ولكن وجهه عندي [ - والله أعلم - ] أنها أرادت: أن الرجل يخلو [ ص: 384 ] بها ليس معها أحد يسمع كلامها، ولا يبصرها إلا الأرض القفر.
فصارت الأرض خاصة كأنها هي التي تسمعها وتبصرها دون الأشياء والناس. وإنما هذا مثل ليس على أن الأرض تسمع وتبصر.
وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أقبل من سفر، فلما رأى "أحدا" قال: "هذا جبل يحبنا ونحبه ".
والجبل ليست له محبة.
ومنه قول الله [ - عز وجل - ] : جدارا يريد أن ينقض والجدار ليست له إرادة [ ص: 385 ] .
والعرب تكلم بكثير من هذا النحو. كان "الكسائي" يحكي عنهم أنهم يقولون: "منزلي ينظر إلى منزل فلان "، و "دورنا تناظر ".
ويقولون: "إذا أخذت في طريق كذا وكذا، فنظر إليك الجبل فخذ يمينا عنه ".
وإنما يراد بهذا كله قرب ذلك الشيء منه.
ومنه حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : "لا تراءى ناراهما" ومثل هذا في الكلام كثير [ ص: 386 ] .
وقول "قيلة ": كنت إذا رأيت رجلا ذا رواء وذا قشر طمح بصري إليه، أحسب أنه رسول الله [ - صلى الله عليه وسلم - ] :
الرواء: المنظر، والقشر: اللباس.
وقولها: نظرت، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد القرفصاء عليه أسمال مليتين، ومعه عسيب نخلة مقشو.
فإن القرفصاء جلسة المحتبي، إلا أنه لا يحتبي بثوب، ولكن يجعل يديه مكان الثوب.
وأما [ ص: 387 ] . الأسمال: فإنها الأخلاق، والواحد منها سمل
ويقال: قد سمل الثوب، وأسمل، لغتان.
والعسيب: جريد النخل، والمقشو: المقشور.
قاله "الفراء ": يقال: قشوت وجهه، أي قشرته.
ومنه حديث "معاوية" أنه دخل عليه، وهو يأكل لياء مقشى.
وقولها: فلما ذكر "الدهماء" شخص بي. يقال للرجل إذا أتاه أمر يقلقه، ويزعجه: قد شخص به.
ولهذا قيل للشيء الناتئ: شاخص.
ولهذا قيل: شخوص البصر: إنما هو ارتفاعه [ ص: 388 ] .
ومنه شخوص المسافر: إنما هو خروجه من مكانه، وحركته من موضعه.
ويقال: الفتان والفتان.
فمن قال: الفتان، فهو واحد، وهو الشيطان.
ومن قال: الفتان، فهو جمع يريد الشياطين وواحدها فاتن. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "ويتعاونان على الفتان ".
والفاتن: المضل عن الحق، قال الله - تبارك وتعالى - : فإنكم [ ص: 389 ] وما تعبدون. ما أنتم عليه بفاتنين. إلا من هو صال الجحيم.
قال: حدثناه عن "ابن علية" قال: سألت عنها "خالد الحذاء" "الحسن" فقال: "ما أنتم عليه بمضلين. إلا من هو صال الجحيم ".
قال: إلا من كتب عليه أن يصلى.
قال: وحدثنا عن "حجاج" عن "ابن جريج" مثله [ ص: 390 ] . "مجاهد"
وقوله [ - صلى الله عليه وسلم - ] : "أيلام ابن هذه أن يفصل الخطة ": يعني أنه نزل به أمر ملتبس مشكل لا يهتدى له، أنه لا يعيا به، ولكنه يفصله حتى يبرمه، ويخرج منه، وإنما وصفه بجودة الرأي.
وقوله: "وينتصر من وراء الحجزة: فإن الحجزة الرجال الذين يحجزون بين الناس، ويمنعون بعضهم من بعض.
يقول: فهذا إن ظلم بظلامة كان لظالمه من يمنعه من هذا.
فإن عند هذا من المنعة والعز، ما ينتصر من ظالمه، وإن كان أولئك قد حجزوه عنه حتى يستوفي حقه [ ص: 391 ] .
وفي هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حمده على دفع الظلم عن نفسه، وترك الاستخذاء في ذلك. وفى التنزيل ما يصدق هذا، قال الله - تبارك وتعالى - : والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون
قال: حدثني عن "ابن مهدي" "سفيان" عن عن "منصور" "إبراهيم" في هذه الآية، قال: كانوا يكرهون أن يستذلوا.