علامات إجمالية ، وعلامات تفصيلية .
فأما العلامات الإجمالية فثلاثة .
[ ص: 733 ] إحداها : الفرقة التي نبه عليها قوله تعالى : ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وقوله تعالى : وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة روى ابن وهب عن أنه قال : هي الجدال والخصومات في الدين ، وقوله تعالى : إبراهيم النخعي واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وفي الصحيح عن - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة . إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا ، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، وصدق الحديث
وهذا التفريق - كما تقدم - إنما هو الذي يصير الفرقة الواحدة فرقا والشيعة الواحدة شيعا .
قال بعض العلماء : صاروا فرقا لاتباع أهوائهم . وبمفارقة الدين تشتت أهواؤهم فافترقوا ، وهو قوله تعالى : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ثم برأه الله منهم بقوله :
لست منهم في شيء وهم [ ص: 734 ] أصحاب البدع وأصحاب الضلالات ، والكلام فيما لم يأذن الله فيه ولا رسوله .
قال : ووجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده قد اختلفوا في أحكام الدين ولم يتفرقوا ، ولا صاروا شيعا لأنهم لم يفارقوا الدين ، وإنما اختلفوا فيما أذن لهم من اجتهاد الرأي ، والاستنباط من الكتاب والسنة فيما لم يجدوا فيه نصا ، واختلفت في ذلك أقوالهم فصاروا محمودين لأنهم اجتهدوا فيما أمروا به كاختلاف أبي بكر وعمر وعلي ، وزيد في الجد مع الأم ، وقول عمر وعلي في أمهات الأولاد ، وخلافهم في الفريضة المشتركة ، وخلافهم في الطلاق قبل النكاح ، وفي البيوع وغير ذلك فقد اختلفوا فيه وكانوا مع هذا أهل مودة وتناصح ، وأخوة الإسلام فيما بينهم قائمة ، فلما حدثت الأهواء المردية ، التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وظهرت العداوات وتحزب أهلها فصاروا شيعا ، دل على أنه إنما حدث ذلك من المسائل المحدثة التي ألقاها الشيطان على أفواه أوليائه .
قال : كل مسألة حدثت في الإسلام واختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة ، علمنا أنها من مسائل الإسلام . وكل مسألة حدثت وطرأت فأوجبت العداوة والبغضاء والتدابر والقطيعة ، علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء ، وأنها التي عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير الآية .
وذلك ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عائشة إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا من هم ؟ - [ ص: 735 ] قلت : الله ورسوله أعلم . قال : هم أصحاب الأهواء وأصحاب البدع وأصحاب الضلالة من هذه الأمة الحديث الذي تقدم ذكره .
قال : فيجب على كل ذي عقل ودين أن يجتنبها ، ودليل ذلك قوله تعالى : واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا فإذا اختلفوا وتعاطوا ذلك ، كان لحدث أحدثوه من اتباع الهوى .
هذا ما قاله . وهو ظاهر في أن الإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف ، فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين . وهذه الخاصية قد دل عليها الحديث المتكلم عليه ، وهي موجودة في كل فرقة من الفرق المتضمنة في الحديث .
ألا ترى كيف كانت ظاهرة في الخوارج الذين أخبر بهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : : وأي فرقة توازي هذه الفرقة التي بين أهل الإسلام وأهل الكفر ؟ وهي موجودة في سائر من عرف من الفرق أو ادعي ذلك فيهم ، إلا أن الفرقة لا تعتبر على أي وجه كانت ، لأنها تختلف بالقوة والضعف . يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان
وحيث ثبت أن مخالفة هذه الفرق في الفروع الجزئية ، فإن الفرقة لابد أضعف ، فيجب النظر في هذا كله .
والخاصية الثانية هي التي نبه عليها قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون الآية
[ ص: 736 ] هي التي نبه عليها قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه الآية . فبينت الآية أن أهل الزيغ يتبعون متشابهات القرآن ، وجعلوا ممن شأنه أن يتبع المتشابه لا المحكم . ومعنى المتشابه : ما أشكل معناه ، ولم يبين مغزاه ، سواء كان من المتشابه الحقيقي - كالمجمل من الألفاظ وما يظهر من التشبيه - أو من المتشابه الإضافي ، وهو ما يحتاج في بيان معناه الحقيقي إلى دليل خارجي ، وإن كان في نفسه ظاهر المعنى لبادي الرأي ، كاستشهاد الخوارج على إبطال التحكيم بقوله : إن الحكم إلا لله فإن ظاهر الآية صحيح على الجملة ، وأما على التفصيل فمحتاج إلى البيان ، وهو ما تقدم ذكره - رضي الله عنهما - ، لأنه بين أن الحكم لله تارة بغير تحكيم لأنه إذا أمرنا بالتحكيم فالحكم به حكم الله . لابن عباس
وكذلك قولهم : " قاتل ولم يسب " فإنهم حصروا التحكيم في القسمين وتركوا قسما ثالثا وهو الذي نبه عليه قوله تعالى : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي الآية . فهذا قتال من غير سبي ، لكن نبههم على وجه أظهر وهو أن السباء إذا حصل فلابد من وقوع بعض المقاتلين على أم المؤمنين ، وعند ذلك يكون حكمها حكم السبايا في الانتفاع بها كالسبايا ، فيخالفون القرآن الذي ادعوا التمسك به . ابن عباس
[ ص: 737 ] وكذلك في محو الاسم من إمارة المؤمنين ، اقتضى عندهم أنه إثبات لإمارة الكافرين ، وذلك غير صحيح لأن نفي الاسم منها لا يقتضي نفي المسمى .
وأيضا : فإن فرضنا أنه يقتضي نفي المسمى لم يقتض إثبات إمارة أخرى . فعارضهم بمحو النبي صلى الله عليه وسلم اسم الرسالة من الصحيفة معارضة لا قبل لهم بها . ولذلك رجع منهم ألفان - أو من رجع منهم - . ابن عباس
فتأملوا وجه اتباع المتشابهات ، وكيف أدى إلى الضلال والخروج عن الجماعة ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
. فإذا رأيتم الذي يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم
والخاصية الثالثة : ، وهو الذي نبه عليه قوله تعالى : اتباع الهوى فأما الذين في قلوبهم زيغ والزيغ هو الميل عن الحق اتباعا للهوى ، وكذلك قوله تعالى : ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله وقوله : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم .
وليس في حديث الفرق ما يدل على هذه الخاصية ولا على التي قبلها . إلا أن هذه الخاصية راجعة في المعرفة بها إلى كل أحد في خاصة نفسه ، لأن اتباع الهوى أمر باطني فلا يعرفه غير صاحبه إذا لم يغالط نفسه ، إلا أن يكون عليها دليل خارجي .
[ ص: 738 ] وقد مر أن أصل حدوث الفرق إنما هو الجهل بمواقع السنة ، وهو الذي نبه عليه الحديث بقوله :
. فكل أحد عالم بنفسه هل بلغ في العلم مبلغ المفتين أم لا ؟ وعالم [ إذا ] راجع النظر فيما سئل عنه : هل هو قائل بعلم واضح من غير إشكال أم بغير علم ؟ أم هو على شك فيه ؟ والعالم إذا لم يشهد له العلماء فهو في الحكم باق على الأصل من عدم العلم حتى يشهد فيه غيره ويعلم هو من نفسه ما شهد له به ، وإلا فهو على يقين من عدم العلم أو على شك ، فاختيار الإقدام في هاتين الحالتين على الإحجام لا يكون إلا باتباع الهوى . إذ كان ينبغي له أن يستفتي في نفسه غيره ولم يفعل ، وكان من حقه أن لا يقدم إلا أن يقدمه غيره ، ولم يفعل هذا . اتخذ الناس رؤساء جهالا
قال العقلاء : رأي المستشار أنفع لأنه بريء من الهوى ، بخلاف من لم يستشر فإنه غير بريء ، ولاسيما في الدخول في المناصب العلية والرتب الشرعية كرتب العلم .
فهذا أنموذج ينبه صاحب الهوى في هواه ويضبطه إلى أصل يعرف به ؛ هل هو في تصدره إلى فتوى الناس متبع للهوى ، أم هو متبع للشرع ؟ .
وأما الخاصية الثانية فراجعة إلى العلماء الراسخين في العلم ؛ لأن معرفة المحكم والمتشابه راجع إليهم يعرفونها ويعرفون أهلها ، فهم المرجوع إليهم في بيان من هو متبع للمحكم فيقلد في الدين ، ومن هو المتبع للمتشابه فلا يقلد أصلا .
[ ص: 739 ] ولكن له علامة ظاهرة أيضا نبه عليها الحديث الذي فسرت الآية به ، قال فيه :
فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه ، فهم الذين عنى الله فاحذروهم ، خرجه القاضي ، وقد تقدم أول الكتاب . إسماعيل بن إسحاق
فجعل من شأن المتبع للمتشابه أنه يجادل فيه ويقيم النزاع على الإيمان ، وسبب ذلك أن الزائغ المتبع لما تشابه من الدليل لا يزال في ريب وشك ، إذ المتشابه لا يعطى بيانا شافيا ، ولا يقف منه متبعه على حقيقة ، فاتباع الهوى يلجئه إلى التمسك به ، والنظر فيه لا يتخلص له ، فهو على شك أبدا ، وبذلك يفارق الراسخ في العلم ، لأن جداله إن افتقر إليه فهو في مواقع الإشكال العارض طلبا لإزالته ، فسرعان ما يزول إذا بين له موضع النظر .
وأما ذو الزيغ فإن هواه لا يخليه إلى طرح المتشابه . فلا يزال في جدال عليه وطلب لتأويله .
ويدل على ذلك أن الآية نزلت في شأن نصارى نجران ، وقصدهم أن يناظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى ابن مريم عليهما السلام ، وأنه الله ، أو أنه ثالث ثلاثة ، مستدلين بأمور متشابهات من قوله : فعلنا وخلقنا وهذا كلام جماعة . ومن أنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى وهو كلام طائفة أخرى ، ولم ينظروا إلى أصله ونشأته بعد أن لم يكن ، وكونه كسائر بني آدم يأكل ويشرب وتلحقه الآفات والأمراض . والخبر مذكور في السير .
والحاصل : أنهم إنما أتوا لمناظرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجادلته لا [ ص: 740 ] يقصدوا اتباع الحق .
والجدال على هذا الوجه لا ينقطع ، ولذلك لما بين لهم الحق ولم يرجعوا عنه دعوا إلى أمر آخر خافوا منه الهلكة فكفوا عنه ؛ وهو المباهلة . وهو قوله تعالى : فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم . الآية ، وشأن هذا الجدال أنه شاغل عن ذكر الله وعن الصلاة ، كالنرد والشطرنج وغيرهما .
وقد نقل عن أنه قال : جلس حماد بن زيد عمرو بن عبيد وشبيب بن شيبة ليلة يتخاصمون إلى طلوع الفجر .
قال : فلما صلوا جعل عمرو يقول : هيه أبا معمر ! هيه أبا معمر ! فإذا رأيتم أحدا شأنه أبدا الجدال في المسائل مع كل أحد من أهل العلم ، ثم لا يرجع ولا يرعوي ، فاعلموا أنه زائغ القلب متبع للمتشابه فاحذروه .
وأما ما يرجع للأول فعامة لجميع العقلاء من أهل الإسلام ، لأن التواصل والتقاطع معروف عند الناس كلهم ، وبمعرفته يعرف أهله . وهو الذي نبه عليه حديث الفرق إذ أشار إلى الافتراق شيعا بقوله :
وستفترق هذه الأمة على كذا ولكن هذا الافتراق إنما يعرف بعد الملابسة والمداخلة ، وأما قبل ذلك فلا يعرفه كل أحد ، فله علامات تتضمن الدلالة على التفرق، أولا : مفاتحة الكلام ، وذلك إلقاء المخالف لمن لقيه ذم المتقدمين ممن اشتهر علمهم وصلاحهم واقتداء الخلف بهم ، [ ص: 741 ] ويختص بالمدح من لم يثبت له ذلك من شاذ مخالف لهم ، وما أشبه ذلك .
وأصل هذه العلامة في الاعتبار تكفير الخوارج - لعنهم الله - الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - ، فإنهم ذموا من مدحه الله ورسوله واتفق السلف الصالح على مدحهم والثناء عليهم ، ومدحوا من اتفق السلف الصالح على ذمه كعبد الرحمن بن ملجم قاتل علي - رضي الله عنه - ، وصوبوا قتله إياه ، وقالوا : إن في شأنه نزل قوله تعالى : ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله وأما التي قبلها وهي قوله : ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ، فإنها نزلت في شأن علي - رضي الله عنه - ، وكذبوا - قاتلهم الله - وقال في مدحه عمران بن حطان لابن ملجم .
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا إني لأذكره يوما فأحسبه
أوفى البرية عند الله ميزانا
وكذب - لعنه الله - فإذا رأيت من يجري على هذا الطريق ، فهو من الفرق المخالفة ، وبالله التوفيق .
وروي عن ، قال : حدثني إسماعيل ابن علية اليسع ، قال : تكلم يوما - يعني المعتزلي - فقال واصل بن عطاء : ألا تسمعون ؟ ما كلام عمرو بن عبيد الحسن و - عندما تسمعون - إلا خرقة حيض ملقاة . ابن سيرين
[ ص: 742 ] وروي أن زعيما من زعماء أهل البدعة كان يريد تفضيل الكلام على الفقه ، فكان يقول : إن علم و الشافعي أبي حنيفة ، جملته لا يخرج من سراويل امرأة .
هذا كلام هؤلاء الزائغين ، قاتلهم الله .
و [ أما ] العلامة التفصيلية في كل فرقة فقد نبه عليها وأشير إلى جملة منها في الكتاب والسنة ، وفي ظني أن من تأملها في كتاب الله وجدها منبها عليها ومشارا إليها ، ولولا أنا فهمنا من الشرع الستر عليها لكان في الكلام في تعيينها مجال متسع مدلول عليه بالدليل الشرعي ، وقد كنا هممنا بذلك في ماضي الزمان . فغلبنا عليه ما دلنا على أن الأولى خلاف ذلك .
فأنت ترى أن الحديث الذي تعرضنا لشرحه لم يعين في الرواية الصحيحة واحدة منها ، لهذا المعنى المذكور ، والله أعلم - وإنما نبه عليه في الجملة لتحذر مظانها ، وعين في الحديث المحتاج إليه منها، وهي الفرقة الناجية ليتحراها المكلف ، وسكت عن ذلك في الرواية الصحيحة ، لأن ذكرها في الجملة يفيد الأمة الخوف من الوقوع فيها ، وذكر في الرواية الأخرى فرقة من الفرق الهالكة لأنها - كما قال - أشد الفرق على الأمة . وبيان كونها أشد فتنة من غيرها سيأتي آخرا إن شاء الله .