المسألة الرابعة عشرة
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعين من الفرق إلا فرقة واحدة ، وإنما تعرض لعدها خاصة ، وأشار إلى الفرق الناجية حين سئل عنها ، وإنما وقع ذلك كذلك ولم يكن الأمر بالعكس لأمور :
أحدها : أن تعيين الفرقة الناجية هو الآكد في البيان بالنسبة إلى تعبد المكلف والأحق بالذكر ، إذ لا يلزم تعيين الفرق الباقية إذا عينت الواحدة . وأيضا لو عينت الفرق كلها إلا هذه الأمة لم يكن بد من بيانها ، لأن الكلام فيها يقتضي ترك أمور، وهي البدع . والترك للشيء لا يقتضي فعل شيء آخر لا ضدا ولا خلافا ، فذكر الواحدة هو المفيد على الإطلاق . فقط وهي ثلاثة أحدها أن تعيين الفرقة الناجية هو الآكد في البيان والثاني أن ذلك أوجز . أسباب تعيين النبي صلى الله عليه وسلم الفرقة الناجية
والثاني : أن ذلك أوجز لأنه إذا ذكرت نحلة الفرقة الناجية علم على البديهة أن ما سواها مما يخالفها ليس بناج ، وحصل التعيين بالاجتهاد ، بخلاف ما إذا ذكرت الفرق إلا الناجية فإنه يقتضي شرحا كثيرا ، ولا يقتضي في الفرقة الناجية اجتهاد ، لأن إثبات العبادات التي تكون مخالفتها بدعا لا حظ للعقل في الاجتهاد فيها . السبب الثاني أنه أحرى بالستر كما تقدم بيانه
والثالث : أن ذلك أحرى بالستر ، كما تقدم بيانه في مسألة الفرق ، ولو فسرت لناقض ذلك قصد الستر ، ففسر ما يحتاج إليه وترك ما لا يحتاج إليه إلا من جهة المخالفة ، فللعقل وراء ذلك مرمى تحت أذيال [ ص: 759 ] الستر ، والحمد لله ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله ما أنا عليه وأصحابي ، ووقع ذلك جوابا للسؤال الذي سألوه إذ قالوا : من هي يا رسول الله ؟ فأجاب بأن . وكان ذلك معلوما عندهم غير خفي فاكتفوا به . وربما يحتاج إلى تفسير بالنسبة إلى من بعد تلك الأزمان . الفرقة الناجية من اتصف بأوصافه عليه الصلاة والسلام وأوصاف أصحابه
وحاصل الأمر أن أصحابه كانوا مقتدين به مهتدين بهديه ، وقد جاء مدحهم في القرآن الكريم وأثنى على متبوعهم محمد صلى الله عليه وسلم ، وإنما خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن ، فقال تعالى : وإنك لعلى خلق عظيم فالقرآن إنما هو المتبوع على الحقيقة ، وجاءت السنة مبينة له ، فالمتبع للسنة متبع للقرآن . والصحابة كانوا أولى الناس بذلك ، فكل من اقتدى بهم فهو من الفرقة الناجية الداخلة للجنة بفضل الله ، وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام : ما أنا عليه وأصحابي . الكتاب والسنة هما الصراط المستقيم وغيرهما تابع لهما
فالكتاب والسنة هو الطريق المستقيم ، وما سواهما من الإجماع وغيره فناشئ عنهما ، هذا هو الوصف الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وهو معنى ما جاء في الرواية الأخرى من قوله : وهي الجماعة لأن الجماعة في وقت الإخبار كانوا على ذلك الوصف ، إلا أن في لفظ الجماعة معنى تراه بعد إن شاء الله .
ثم إن في هذا التعريف نظرا لابد من الكلام عليه فيه ، وذلك أن [ ص: 760 ] " كل " داخل تحت راية الإسلام من سني أو مبتدع مدع أنه هو الذي نال رتبة النجاة ودخل في غمار تلك الفرقة ، إذ لا يدعي ( خلاف ) ذلك إلا من خلع ربقة الإسلام ، وانحاز إلى فئة الكفر ، كاليهود والنصارى ، وفي معناهم من دخل بظاهره وهو معتقد غيره كالمنافقين . وأما من لم يرض لنفسه إلا بوصف الإسلام وقاتل سائر الملل على هذه الملة ، فلا يمكن أن يرضى لنفسه بأخس مراتبها - وهو مدع أحسنها - وهو المعلم فلو علم المبتدع أنه مبتدع لم يبق على تلك الحالة ولم يصاحب أهلها ، فضلا عن أن يتخذها دينا يدين به لله ، وهو أمر مركوز في الفطرة لا يخالف فيه عاقل . تنازع الفرق وتعبير كل منها عن نفسها
فإذا كان كذلك فكل فرقة تنازع صاحبتها في فرقة النجاة . ألا ترى أن المبتدع آخذ أبدا في تحسين حالتيه شرعا وتقبيح حالة غيره ؟ فالظاهر يدعي أنه المتبع للسنة .
والغاش يدعي أنه الذي فهم الشريعة ، وصاحب نفي الصفات يدعي أنه الموحد .
والقائل باستقلال العبد [ يدعي ] أنه صاحب العدل ، وكذلك سمى المعتزلة أنفسهم أهل العدل والتوحيد .
والمشبه يدعي أنه المثبت لذات الباري وصفاته ، لأن نفي التشبيه عنده نفي محض ، وهو العدم .
وكذلك كل طائفة من الطوائف التي ثبت لها اتباع الشريعة أو لم يثبت لها .
وإذا رجعنا إلى الاستدلالات القرآنية أو السنية على الخصوص ، فكل طائفة تتعلق بذلك أيضا .
[ ص: 761 ] فالخوارج تحتج بقوله عليه الصلاة والسلام : وفي رواية : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله
. لا يضرهم خلاف من خالفهم ، ومن قتل منهم دون ماله فهو شهيد
والقاعد يحتج بقوله :
وقوله : عليكم بالجماعة ، فإن يد الله مع الجماعة ، ومن فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله [ ص: 762 ] القاتل .
والمرجئ يحتج بقوله : . من قال لا إله إلا الله مخلصا من قلبه فهو في الجنة وإن زنى وإن سرق
والمخالف له محتج بقوله : . لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن
يحتج بقوله تعالى : والقدري فطرة الله التي فطر الناس عليها وبحديث : الحديث . كل مولود يولد على الفطرة
والمفوض يحتج بقوله تعالى : ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها وبحديث : . اعملوا فكل ميسر لما خلق له
[ ص: 763 ] والرافضة تحتج بقوله عليه الصلاة والسلام : ويحتجون في تقديم ليردن الحوض أقوام ثم ليتخلفن دوني ، فأقول : يا رب أصحابي ! فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، ثم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم علي - رضي الله عنه - ب : هارون من موسى ، غير أنه لا نبي بعدي و : أنت مني بمنزلة فعلي مولاه ومخالفوهم يحتجون في تقديم من كنت مولاه أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - بقوله : أبي بكر وعمر ويأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر إلى أشباه ذلك ، مما يرجع إلى معناه . اقتدوا باللذين من بعدي
والجميع محومون - في زعمهم - على الانتظام في سلك الفرقة الناجية ، وإذا كان كذلك أشكل على المبتدع في النظر ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ولا يمكن أن يكون مذهبهم مقتضى هذه الظواهر ، فإنها متدافعة متناقضة . وإنما يمكن الجمع فيها إذا جعل بعضها أصلا . فيرد البعض الآخر إلى ذلك الأصل بالتأويل .
وكذلك فعل كل واحدة من تلك الفرق تستمسك ببعض تلك [ ص: 764 ] الأدلة وترد ما سواها إليها ، أو تهمل اعتبارها بالترجيح ، إن كان الموضع من الظنيات التي يسوغ فيها الترجيح ، أو تدعي أن أصلها الذي ترجع إليه قطعي والمعارض له ظني فلا يتعارضان .
وإنما كانت طريقة الصحابة ظاهرة في الأزمنة المتقدمة ، أما وقد استقرت مآخذ الخلاف فمحال ، وهذا الموضع مما يتضمنه قول الله تعالى : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم .
فتأملوا - رحمكم الله - كيف صار الاتفاق محالا في العادة ليصدق العقل بصحة ما أخبر الله به .
والحاصل ، أن تعيين هذه الفرقة الناجية في مثل زماننا صعب ، ومع ذلك فلابد من النظر فيه ، وهو نكتة هذا الكتاب ، فليقع به فضل اعتناء ما هيأه الله ، وبالله التوفيق .
ولما كان ذلك يقتضي كلاما كثيرا أرجأنا القول فيه إلى باب آخر ، وذكره فيه على حدته، إذ ليس هذا موضع ذكره ، والله المستعان
.