المسألة السادسة والعشرون
إن هاهنا نظرا لفظيا في الحديث هو من تمام الكلام فيه ، وذلك أنه لما
nindex.php?page=treesubj&link=30232_28828أخبر عليه الصلاة والسلام أن جميع الفرق في النار إلا فرقة واحدة ، وهي الجماعة المفسرة في الحديث الآخر ، فجاء في الرواية الأخرى السؤال عنها - سؤال التعيين - فقالوا : من هي يا رسول الله ؟ فأصل الجواب أن يقال : أنا وأصحابي ، ومن عمل مثل عملنا . أو ما أشبه ذلك مما يعطي تعيين الفرقة ، إما بالإشارة أو بوصف من أوصافها . إلا أن
[ ص: 799 ] ذلك لم يقع ، وإنما وقع في الجواب تعيين الوصف لا تعيين الموصوف ، فلذلك أتى بما أتى ، فظاهرها الوقوع على غير العاقل من الأوصاف وغيرها ، والمراد هنا الأوصاف التي هو عليها صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضي الله عنهم - فلم يطابق السؤال الجواب في اللفظ . والعذر عن هذا أن العرب لا تلتزم ذلك النوع إذا فهم المعنى ، لأنهم لما سألوا عن تعيين الفرقة الناجية بين لهم الوصف الذي به صارت ناجية ، فقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005637ما أنا عليه وأصحابي .
ومما جاء غير مطابق في الظاهر وهو في المعنى مطابق قول الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=15قل أؤنبئكم بخير من ذلكم ؟ فإن هذا الكلام معناه : هل أخبركم بما هو أفضل من متاع الدنيا ؟ فكأنه قيل : نعم ! أخبرنا ، فقال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=15للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار الآية . أي للذين اتقوا استقر لهم
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=15عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار الآية . فأعطى مضمون الكلام معنى الجواب على غير لفظه . وهذا التقرير على قول جماعة من المفسرين .
وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=15مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار الآية . فقوله : مثل الجنة يقتضي المثل لا الممثل ، كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=17مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ولأنه كلما كان المقصود الممثل جاء به بعينه .
ويمكن أن يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الفرق وذكر أن فيها فرقة ناجية ، كان الأولى السؤال عن أعمال الفرقة الناجية ، لا عن نفس الفرقة .
[ ص: 800 ] لأن التعريف فيها من حيث هي لا فائدة فيه إلا من جهة أعمالها التي نجت بها . فالمتقدم في الاعتبار هو العمل لا العامل ، فلو سألوا : ما وصفها ؟ أو ما عملها ؟ أو ما أشبه ذلك لكان أشد مطابقة في اللفظ والمعنى ، فلما فهم عليه الصلاة والسلام منهم ما قصدوا أجابهم على ذلك .
ونقول : لما تركوا السؤال عما كان الأولى في حقهم ، أتى به جوابا عن سؤالهم ، حرصا منه عليه الصلاة والسلام على تعليمهم ما ينبغي لهم تعلمه والسؤال عنه .
ويمكن أن يقال : إن ما سألوا عنه لا يتعين ، إذ لا تختص النجاة بمن تقدم دون من تأخر ، إذ كانوا قد اتصفوا بوصف التأخير .
ومن شأن هذا السؤال التعيين، وعدم انحصارهم بزمان أو مكان لا يقتضي التعيين ، وانصرف القصد إلى تعيين الوصف الضابط للجميع ، وهو ما كان عليه هو وأصحابه .
وهذا الجواب بالنسبة إلينا كالمبهم ، وهو بالنسبة إلى السائل معين ، لأن أعمالهم كانت للحاضرين معهم رأي عين ، فلم يحتج إلى أكثر من ذلك ، لأنه غاية التعيين اللائق بمن حضر ، فأما غيرهم ممن لم يشاهد أحوالهم ولم ينظر أعمالهم فليس مثلهم ، ولا يخرج الجواب بذلك عن التعيين المقصود . والله أعلم . انتهى .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ
إِنَّ هَاهُنَا نَظَرًا لَفْظِيًّا فِي الْحَدِيثِ هُوَ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ فِيهِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=30232_28828أَخْبَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ جَمِيعَ الْفِرَقِ فِي النَّارِ إِلَّا فِرْقَةً وَاحِدَةً ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ الْمُفَسِّرَةُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ ، فَجَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى السُّؤَالُ عَنْهَا - سُؤَالُ التَّعْيِينِ - فَقَالُوا : مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَأَصْلُ الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ : أَنَا وَأَصْحَابِي ، وَمَنْ عَمِلَ مِثْلَ عَمَلِنَا . أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يُعْطِي تَعْيِينَ الْفِرْقَةِ ، إِمَّا بِالْإِشَارَةِ أَوْ بِوَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِهَا . إِلَّا أَنَّ
[ ص: 799 ] ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي الْجَوَابِ تَعْيِينُ الْوَصْفِ لَا تَعْيِينُ الْمَوْصُوفِ ، فَلِذَلِكَ أَتَى بِمَا أَتَى ، فَظَاهَرُهَا الْوُقُوعُ عَلَى غَيْرِ الْعَاقِلِ مِنَ الْأَوْصَافِ وَغَيْرِهَا ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوْصَافُ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَلَمْ يُطَابِقِ السُّؤَالُ الْجَوَابَ فِي اللَّفْظِ . وَالْعُذْرُ عَنْ هَذَا أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَلْتَزِمُ ذَلِكَ النَّوْعَ إِذَا فُهِمَ الْمَعْنَى ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوا عَنْ تَعْيِينِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ بَيَّنَ لَهُمُ الْوَصْفَ الَّذِي بِهِ صَارَتْ نَاجِيَةً ، فَقَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005637مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي .
وَمِمَّا جَاءَ غَيْرَ مُطَابِقٍ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ فِي الْمَعْنَى مُطَابِقٌ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=15قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ ؟ فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَعْنَاهُ : هَلْ أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا ؟ فَكَأَنَّهُ قِيلَ : نَعَمْ ! أَخْبِرْنَا ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=15لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ الْآيَةَ . أَيْ لِلَّذِينِ اتَّقَوُا اسْتَقَرَّ لَهُمْ
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=15عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ الْآيَةَ . فَأَعْطَى مَضْمُونُ الْكَلَامِ مَعْنَى الْجَوَابِ عَلَى غَيْرِ لَفْظِهِ . وَهَذَا التَّقْرِيرُ عَلَى قَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ .
وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=15مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ الْآيَةَ . فَقَوْلُهُ : مَثَلُ الْجَنَّةِ يَقْتَضِي الْمَثَلَ لَا الْمُمَثَّلُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=17مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا وَلِأَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْمُمَثَّلَ جَاءَ بِهِ بِعَيْنِهِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ذَكَرَ الْفِرَقَ وَذَكَرَ أَنَّ فِيهَا فِرْقَةً نَاجِيَةً ، كَانَ الْأَوْلَى السُّؤَالَ عَنْ أَعْمَالِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ ، لَا عَنْ نَفْسِ الْفِرْقَةِ .
[ ص: 800 ] لِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِيهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ أَعْمَالِهَا الَّتِي نَجَتْ بِهَا . فَالْمُتَقَدِّمُ فِي الِاعْتِبَارِ هُوَ الْعَمَلُ لَا الْعَامِلُ ، فَلَوْ سَأَلُوا : مَا وَصْفُهَا ؟ أَوْ مَا عَمَلُهَا ؟ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لَكَانَ أَشَدَّ مُطَابَقَةً فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى ، فَلَمَّا فَهِمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْهُمْ مَا قَصَدُوا أَجَابَهُمْ عَلَى ذَلِكَ .
وَنَقُولُ : لَمَّا تَرَكُوا السُّؤَالَ عَمَّا كَانَ الْأَوْلَى فِي حَقِّهِمْ ، أَتَى بِهِ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِمْ ، حِرْصًا مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى تَعْلِيمِهِمْ مَا يَنْبَغِي لَهُمْ تَعَلُّمُهُ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إِنَّ مَا سَأَلُوا عَنْهُ لَا يَتَعَيَّنُ ، إِذْ لَا تَخْتَصُّ النَّجَاةُ بِمَنْ تَقَدَّمَ دُونَ مَنْ تَأَخَّرَ ، إِذْ كَانُوا قَدِ اتَّصَفُوا بِوَصْفِ التَّأْخِيرِ .
وَمِنْ شَأْنِ هَذَا السُّؤَالِ التَّعْيِينُ، وَعَدَمُ انْحِصَارِهِمْ بِزَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ لَا يَقْتَضِي التَّعْيِينَ ، وَانْصَرَفَ الْقَصْدُ إِلَى تَعْيِينِ الْوَصْفِ الضَّابِطِ لِلْجَمِيعِ ، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ .
وَهَذَا الْجَوَابُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا كَالْمُبْهَمِ ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّائِلِ مُعَيَّنٌ ، لِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ لِلْحَاضِرِينَ مَعَهُمْ رَأْيَ عَيْنٍ ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ غَايَةُ التَّعْيِينِ اللَّائِقِ بِمَنْ حَضَرَ ، فَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَمْ يُشَاهِدْ أَحْوَالَهُمْ وَلَمْ يَنْظُرْ أَعْمَالَهُمْ فَلَيْسَ مِثْلَهُمْ ، وَلَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ بِذَلِكَ عَنِ التَّعْيِينِ الْمَقْصُودِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . انْتَهَى .