[ ص: 280 ]  [ ص: 281 ] الباب الرابع في  مأخذ أهل البدع بالاستدلال   
كل خارج عن السنة ممن يدعي الدخول فيها والكون من أهلها لا بد له من تكلف في الاستدلال بأدلتها على خصومات مسائلهم ، وإلا كذب اطراحها دعواهم .  
بل كل مبتدع من هذه الأمة : إما أن يدعي أنه هو صاحب السنة دون من خالفه من الفرق ، فلا يمكنه الرجوع إلى التعلق بشبهها ، وإذا رجع إليها ؛ كان الواجب عليه أن يأخذ الاستدلال مأخذ أهله العارفين بكلام العرب وكليات الشريعة ومقاصدها ؛ كما كان السلف الأول يأخذونها .  
إلا أن هؤلاء ـ كما يتبين بعد ـ لم يبلغوا مبلغ الناظرين فيها بإطلاق : إما لعدم الرسوخ في معرفة كلام العرب والعلم بمقاصدها ، وإما لعدم الرسوخ في العلم بقواعد الأصول التي من جهتها تستنبط الأحكام الشرعية ، وإما لعدم الأمرين جميعا ، فبالحري أن تصير مآخذهم للأدلة مخالفة لمأخذ من تقدمهم من المحققين للأمرين .  
وإذا تقرر هذا ؛ فلا بد من التنبيه على تلك المآخذ ؛ لكي تحذر وتتقى ؛ وبالله التوفيق ، فنقول :  
قال الله سبحانه وتعالى :  فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله    [ ص: 282 ] وذلك أن هذه الآية شملت قسمين هما أصل المشي على طريق الصواب أو على طريق الخطأ :  
أحدهما : الراسخون في العلم ، وهم الثابتو الأقدام في علم الشريعة ، ولما كان ذلك متعذرا إلا على من حصل الأمرين المتقدمين ؛ لم يكن بد من المعرفة بهما معا على حسب ما تعطيه المنة الإنسانية ، وإذ ذاك يطلق عليه ( أنه راسخ في العلم ) ومقتضى الآية مدحه ، فهو إذا أهل للهداية والاستنباط .  
وحين خص أهل الزيغ باتباع المتشابه ؛ دل التخصيص على أن الراسخين لا يتبعونه ، فإذا ؛ لا يتبعون إلا المحكم ، وهو أم الكتاب ومعظمه .  
فكل دليل خاص أو عام شهد له معظم الشريعة ؛ فهو الدليل الصحيح ، وما سواه فاسد   ، إذ ليس بين الصحيح والفاسد واسطة في الأدلة يستند إليها ، وإذ لو كان ثم ثالث ، لنصت عليه الآية .  
ثم لما خص الزائغون بكونهم يتبعون المتشابه أيضا ؛ علم أن الراسخين لا يتبعونه :  
فإن تأولوه ؛ فبالرد إلى المحكم ؛ بأن أمكن حمله على المحكم بمقتضى القواعد ، فهذا المتشابه الإضافي لا الحقيقي ، وليس في الآية نص على حكمه بالنسبة إلى الراسخين ، فليرجع عندهم إلى المحكم      [ ص: 283 ] الذي هو أم الكتاب .  
وإن لم يتأولوه ؛ فبناء على أنه متشابه حقيقي ، فيقابلونه بالتسليم وقولهم :  آمنا به كل من عند ربنا   ، وهؤلاء هم أولو الألباب .  
وكذلك ذكر في  أهل الزيغ أنهم يتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة   ، فهم يطلبون به أهواءهم ؛ لحصول الفتنة ، فليس في نظرهم إذا في الدليل نظر المستبصر حتى يكون هواه تحت حكمه ، بل نظر من حكم بالهوى ، ثم أتى بالدليل كالشاهد له ، ولم يذكر مثل ذلك في الراسخين ، فهم إذن بضد هؤلاء ، حيث وقفوا في المتشابه ، فلم يحكموا فيه ولا عليه سوى التسليم ، وهذا المعنى خاص بمن طلب الحق من الأدلة ، لا يدخل فيه من طلب في الأدلة ما يصحح هواه السابق .  
والقسم الثاني : من ليس براسخ في العلم ، وهو الزائغ ، فحصل له من الأدلة وصفان :  
أحدهما : بالنص ، وهو الزيغ ؛ لقوله تعالى :  فأما الذين في قلوبهم زيغ   والزيغ : هو الميل عن الصراط المستقيم ، وهو ذم لهم .  
والثاني : بالمعنى الذي أعطاه التقسيم ، وهو عدم الرسوخ في العلم ، وكل منفي عنه الرسوخ ؛ فإلى الجهل ما هو ( مائل ) ، ومن جهة الجهل حصل له الزيغ ؛ لأن من نفي عنه طريق الاستنباط واتباع الأدلة لبعض الجهالات ؛ لم يحل له أن يتبع الأدلة المحكمة ولا المتشابهة .  
ولو فرضنا أنه يتبع المحكم ؛ لم يكن اتباعه مفيدا لحكمه ؛ لإمكان      [ ص: 284 ] أن يتبعه على وجه واضح البطلان أو متشابه ، فما ظنك به إذا اتبع المتشابه ؟ ! .  
ثم اتباعه للمتشابه ـ ولو كان من جهة الاسترشاد به لا للفتنة به ـ ؛ لم يحصل به مقصودا على حال ، فما ظنك به إذا اتبع ابتغاء الفتنة ؟ ! .  
وهكذا  المحكم إذا اتبعه ابتغاء الفتنة به   ، فكثيرا ما ترى الجهال يحتجون لأنفسهم بأدلة فاسدة وبأدلة صحيحة ؛ اقتصارا بالنظر على دليل ما ، واطراحا للنظر في غيره من الأدلة الأصولية والفروعية العاضدة لنظره أو المعارضة له .  
وكثير ممن يدعي العلم يتخذ هذا الطريق مسلكا ، وربما أفتى بمقتضاه وعمل على وفقه إذا كان له فيه غرض .  
وأعرض من عرض له غرض في الفتيا بجواز تنفيل الإمام الجيش جميع ما غنموا على طريقة " من عز بز " لا طريقة الشرع ؛ بناء على نقل بعض العلماء : " أنه يجوز تنفيل السرية جميع ما غنمت " ، ثم عزا ذلك ـ وهو مالكي المذهب ـ إلى  مالك  ، حيث قال في كلام روي عنه : " ما نفل الإمام فهو جائز " ، فأخذ هذه العبارة نصا على  جواز تنفيل الإمام الجيش جميع ما غنم ،   ولم يلتفت في النفل إلى أن السرية هي القطعة من الجيش المداخل لبلاد العدو لتغير على العدو ثم ترجع إلى الجيش ، لا أن السرية هي الجيش بعينه ، ولا التفت إليه أيضا إلى أن النفل عند مالك لا يكون إلا من الخمس ، لا اختلاف عنه في ذلك أعلمه ، ولا عن أحد من أصحابه ، فما نفل الإمام منه فهو جائز ؛ لأنه محمول على الاجتهاد .  
 [ ص: 285 ] وكذلك الأمر في  كل مسألة فيها الهوى أولا ثم يطلب لها المخرج من كلام العلماء أو من أدلة الشرع   وكلام العرب أبدا ؛ لاتساعه وتصرفه ، ويحتمل أنها كثيرة ، لكن يعلم الراسخون المراد منه ؛ من أوله ، وآخره ، وفحواه ، أو بساط حاله ، أو قرائنه ، فمن لا يعتبره من أوله إلى آخره ويعتبر ما ابتنى عليه ؛ زل في فهمه ، وهو شأن من يأخذ الأدلة من أطراف العبارة الشرعية ولا ينظر بعضها ببعض ، فيوشك أن يزل ، وليس هذا من شأن الراسخين ، وإنما هو من شأن من استعجل ؛ طلبا للمخرج في دعواه .  
فقد حصل من الآية المذكورة أن الزيغ لا يجري على طريق الراسخ بغير حكم الاتفاق ، وأن الراسخ لا زيغ معه بالقصد ألبتة .  
				
						
						
