فصل
، ولكن على غير الوجه الذي فرغنا من ذكره . قد يكون أصل العمل مشروعا ، ولكنه يصير جاريا مجرى البدعة من [ ص: 446 ] باب الذرائع
وبيانه : أن العمل يكون مندوبا إليه ـ مثلا ـ ، فيعمل به العامل في خاصة نفسه على وضعه الأول من الندبية ، فلو اقتصر العامل على هذا المقدار لم يكن به بأس ، ويجري مجراه إذا دام عليه في خاصيته غير مظهر له دائما ، بل إذا أظهره لم يظهره على حكم الملتزمات من السنن الرواتب والفرائض اللوازم ، فهذا صحيح لا إشكال فيه ، وأصله وقوله : ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإخفاء النوافل والعمل بها في البيوت ، ، فاقتصر في الإظهار على المكتوبات ـ كما ترى ـ ، وإن كان ذلك في مسجده عليه السلام أو في أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة المسجد الحرام أو ( في ) مسجد بيت المقدس ، حيث قالوا : إن النافلة في البيت أفضل منها في أحد هذه المساجد الثلاثة بما اقتضاه ظاهر الحديث ، وجرى مجرى الفرائض في الإظهار السنن ؛ كالعيدين ، والخسوف ، والاستسقاء . . . . وشبه ذلك ، فبقي ما سوى ذلك حكمه الإخفاء ، ومن هنا ثابر السلف الصالح رضي الله عنهم على إخفاء الأعمال فيما استطاعوا أو خف عليهم الاقتداء بالحديث وبفعله عليه الصلاة والسلام ؛ لأنه القدوة والأسوة .
ومع ذلك ؛ فلم يثبت فيها إذا عمل بها في البيوت دائما أن يقام جماعة في المساجد ألبتة ، ما عدا رمضان ـ حسبما تقدم ـ ولا في البيوت دائما ، وإن وقع ذلك في الزمان الأول في الفرط ؛ كقيام رضي [ ص: 447 ] الله عنهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما بات عند خالته ابن عباس ميمونة ، وما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام : ، وما في الموطأ من صلاة قوموا فلأصل لكم يرفأ مع رضي الله عنه وقت الضحى . عمر بن الخطاب
فمن فعله في بيته وقتا ما ؛ فلا حرج ، ونص العلماء على جواز ذلك بهذا القيد المذكور ، وإن كان الجواز قد وقع في " المدونة " مطلقا ، فما ذكره تقييد له ، وأظن ابن حبيب نقل [ ـه ] عن مالك مقيدا .
فإذا اجتمع في النافلة أن يلتزم السنن الرواتب إما دائما وإما في أوقات محدودة وعلى وجه محدود ، وأقيمت في الجماعة في المساجد التي تقام فيها الفرائض ، أو المواضع التي تقام فيها السنن الرواتب ؛ فذلك ابتداع .
والدليل عليه أنه لم يأت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ولا عن التابعين لهم بإحسان فعل هذا المجموع هكذا مجموعا ، وإن أتى مطلقا من غير تلك التقييدات ، مشروعا في التقييد في المطلقات التي لم تثبت بدليل الشرع تقييدها رأي في التشريع ، فكيف إذا عارضه الدليل ، وهو الأمر بإخفاء النوافل مثلا ؟ ! .
ووجه دخول الابتداع هنا : أن كل ما واظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من النوافل وأظهره في الجماعات ؛ فهو سنة ، فالعمل بالنافلة التي ليست بسنة على طريق العمل بالسنة إخراج للنافلة عن مكانها المخصوص بها شرعا ، [ ص: 448 ] ثم يلزم من ذلك اعتقاد العوام فيها ومن لا علم عنده أنها سنة ، وهذا فساد عظيم ؛ لأن اعتقاد ما ليس بسنة سنة ، والعمل بها على حد العمل بالسنة ؛ نحو من تبديل الشريعة ؛ كما لو اعتقد في الفرض أنه ليس بفرض ، أو بما ليس بفرض أنه فرض ، ثم عمل وفق اعتقاده ؛ فإنه فاسد ، فهب العمل في الأصل صحيحا ؛ فإخراجه عن بابه اعتقادا وعملا من باب إفساد الأحكام الشرعية .
ومن هنا ظهر لئلا يعتقد الجاهل أنها من الفرائض ؛ كالأضحية وغيرها ؛ كما تقدم ذلك . عذر السلف الصالح في تركهم سننا قصدا ؛
ولأجله أيضا نهى أكثرهم عن اتباع الآثار ؛ كما خرج الطحاوي وغيرهما عن وابن وضاح الأسدي ؛ قال : معرور بن سويد
" وافيت الموسم مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فلما انصرفنا إلى المدينة ؛ انصرفت معه ، فلما صلى لنا صلاة الغداة فقرأ فيها : ألم تر كيف فعل ربك ، و لإيلاف قريش ، ثم رأى ناسا يذهبون مذهبا ، فقال : أين يذهب هؤلاء ؟ قالوا : يأتون مسجدا هاهنا صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إنما هلك من كان قبلكم بهذا ؛ يتبعون آثار أنبيائهم ، فاتخذوها كنائس وبيعا ، من أدركته الصلاة في شيء من هذه المساجد التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فليصل فيها ، وإلا ؛ فلا يتعمدها .
وقال : " سمعت ابن وضاح مفتي عيسى بن يونس أهل طرسوس [ ص: 449 ] يقول : أمر رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم ، فقطعها ؛ لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها ، فخاف عليهم الفتنة . عمر بن الخطاب
قال : " وكان ابن وضاح وغيره من مالك بن أنس علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنبي صلى الله عليه وسلم ما عدا قباء وحده " .
وقال : " وسمعتهم يذكرون أن سفيان دخل مسجد بيت المقدس ، فصلى فيه ، ولم يتبع تلك الآثار ولا الصلاة فيها ، وكذلك فعل غيره أيضا ممن يقتدى به ، وقدم أيضا وكيع مسجد بيت المقدس ، فلم يعد فعل سفيان .
قال : " فعليكم بالاتباع لأئمة الهدى المعروفين ، فقد قال بعض من مضى : كم من أمر هو اليوم معروف عند كثير من الناس كان منكرا عند من مضى ؟ " . ابن وضاح
وقد كان مالك يكره كل بدعة وإن كانت في خير .
وجميع هذا ذريعة لئلا يتخذ سنة ما ليس بسنة ، أو يعد مشروعا ما ليس معروفا .
وقد كان مالك يكره المجيء إلى بيت المقدس ؛ خيفة أن يتخذ ذلك سنة ، وكان يكره مجيء قبور الشهداء ، ويكره مجيء قباء ؛ خوفا من ذلك ، مع ما جاء في الآثار من الترغيب فيه ، ولكن ؛ لما خاف العلماء عاقبة ذلك ؛ تركوه .
وقال ابن كنانة وأشهب : " سمعنا مالكا يقول لما أتاه سعد بن أبي [ ص: 450 ] وقاص قال : وددت أن رجلي تكسرت وأني لم أفعل " .
وسئل عن الآثار التي تركوا ابن كنانة بالمدينة ، فقال : " أثبت ما في ذلك عندنا قباء ، إلا أن مالكا كان يكره مجيئها ، خوفا من أن يتخذ سنة " .
وقال سعيد بن حسان : " كنت أقرأ على ابن نافع ، فلما مررت بحديث التوسعة ليلة عاشوراء ؛ قال لي : حرق عليه ، قلت : ولم ذلك يا أبا محمد ؟ قال : خوفا من أن يتخذ سنة " .
فهذه لأن اتخاذها سنة إنما هو بأن يواظب الناس عليها مظهرين لها ، وهذا شأن السنة ، وإذا جرت مجرى السنن ؛ صارت من البدع بلا شك . أمور جائزة أو مندوب إليها ، ولكنهم كرهوا فعلها خوفا من البدعة ؛
فإن قيل : كيف صارت هذه الأشياء من البدع الإضافية والظاهر منها أنها بدع حقيقية ؛ لأن تلك الأشياء إذا عمل بها على اعتقاد أنها سنة فهي حقيقية ، إذ لم يضعها صاحب السنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الوجه ، فصارت مثل ما إذا صلى الظهر على أنها غير واجبة ، واعتقدها عبادة ؛ فإنها بدعة من غير إشكال ، هذا إذا نظرنا إليها بمآلها ، وإذا نظرنا إليها أولا ؛ فهي مشروعة من غير نسبة إلى بدعة أصلا ؟ ! .
فالجواب : أن السؤال صحيح ؛ إلا أن لوضعها أولا نظرين :
أحدهما : من حيث هي مشروعة ، فلا كلام فيها .
والثاني : من حيث صارت كالسبب الموضوع لاعتقاد البدعة أو [ ص: 451 ] للعمل بها على غير السنة ؛ فهي من هذا الوجه غير مشروعة ؛ لأن وضع الأسباب للشارع لا للمكلف ، والشارع لم يضع الصلاة في مسجد قباء أو بيت المقدس ـ مثلاـ سببا لأن تتخذ سنة ، فوضع المكلف لها كذلك رأي غير مستند إلى الشرع ، فكان ابتداعا .
وهذا معنى كونها بدعة إضافية ، أما إذا استقر السبب ، وظهر عنه مسببه الذي هو اعتقاد العمل سنة والعمل على وفقه ؛ فذلك بدعة حقيقية لا إضافية .
ولهذا الأصل أمثلة كثيرة وقعت الإشارة إليها في أثناء الكلام ، فلا معنى للتكرار .
وإذا ثبت في الأمور المشروعة أنها قد تعد بدعا بالإضافة ؛ فما ظنك بالبدع الحقيقية ؛ فإنها قد تجتمع فيها أن تكون حقيقية وإضافية معا ، لكن من جهتين ؟ !
فإذا بدعة " أصبح ولله الحمد " في نداء الصبح ظاهرة ، ثم لما عمل بها في المساجد والجماعات مواظبا عليها لا تترك كما لا تترك الواجبات وما أشبهها ؛ كان تشريعا أولا يلزمه أن يعتقد فيه الوجوب أو السنة ، وهذا ابتداع ثان إضافي ، ثم إذا اعتقد فيها ثانيا السنية أو الفرضية ؛ صارت بدعة من ثلاثة أوجه .
ومثله يلزم في كل بدعة أظهرت والتزمت ، وأما إذا خفيت واختص بها صاحبها ؛ فالأمر عليه أخف ، فيا لله ويا للمسلمين ! ماذا يجني المبتدع على نفسه مما لا يكون في حسابه ؟ وقانا الله شرور أنفسنا بفضله .