فصل
ثم استدل المستنصر بالقياس ، فقال : وإن صح أن السلف لم [ ص: 476 ] يعملوا به ؛ فقد عمل السلف بما لم يعمل به من قبلهم مما هو خير .
ثم قال بعد : قد قال ( رضي الله عنه ) : تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور ، فكذلك تحدث لهم مرغبات في الخير بقدر ما أحدثوا من الفتور . عمر بن عبد العزيز
وهذا الاستدلال غير جار على الأصول :
أما أولا : فإنه في مقابلة النص ، وهو ما أشار إليه مالك في مسألة العتبية ، فذلك من باب فساد الاعتبار .
وأما ثانيا : فإنه قياس على نص لم يثبت بعد من طريق مرضي ، وهذا ليس كذلك .
وأما ثالثا : فإن كلام فرع اجتهادي جاء عن رجل مجتهد يمكن أن يخطئ فيه كما يمكن أن يصيب ، وإنما حقيقة الأصل أن يأتي عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أهل الإجماع ، وهذا ليس عن واحد منهما . عمر بن عبد العزيز
وأما رابعا : فإنه قياس بغير معنى جامع ، أو بمعنى جامع غير طردي ، ولكن الكلام فيه سيأتي إن شاء الله في الفرق بين المصالح المرسلة والبدع .
وقوله : " إن السلف عملوا بما لم يعمل به من قبلهم " ؛ حاش لله أن يكونوا ممن يدخل تحت هذه الترجمة .
وقوله : " مما هو خير " ؛ أما بالنسبة إلى السلف فما عملوا خير ، وأما فرعه المقيس [ عليه ] ؛ فكونه خيرا دعوى ؛ لأن كون الشيء خيرا أو شرا لا [ ص: 477 ] يثبت إلا بالشرع ، وأما العقل ؛ فبمعزل عن ذلك ، فليثبت أولا لأن الدعاء على تلك الهيئة خير شرعا .
وأما قياسه على قوله : " تحدث للناس أقضية " ؛ فمما تقدم فيه أمر آخر ، وهو التصريح بأن جائز قياسا على قول إحداث العبادات عمر ، وإنما كلام عمر ـ بعد تسليم القياس عليه ـ في معنى عادي يختلف فيه مناط الحكم الثابت فيما تقدم ؛ كتضمين الصناع ، أو الظنة في توجيه الأيمان ؛ دون مجرد الدعاوى .
فيقول : إن الأولين توجهت عليهم بعض الأحكام ؛ لصحة الأمانة والديانة والفضيلة ، فلما حدثت أضدادها ؛ اختلف المناط ، فوجب اختلاف الحكم ، وهو حكم رادع أهل الباطل عن باطلهم .
فأثر هذا المعنى ظاهر مناسب ؛ بخلاف ما نحن فيه ؛ فإنه على الضد من ذلك ، ألا ترى أن الناس إذا وقع فيهم الفتور عن الفرائض فضلا عن النوافل ـ وهي ما هي من القلة والسهولة ـ ؛ فما ظنك بهم إذا زيد عليهم أشياء أخر يرغبون فيها ويرخصون على استعمالها ، فلا شك أن الوظائف تتكاثر ، حتى يؤدي إلى أعظم من الكسل الأول ، وإلى ترك الجميع ، فإن حدث للعامل بالبدعة هو في بدعته أو لمن شايعه فيها ؛ فلا بد من كسله مما هو أولى .
فنحن نعلم أن ساهر ليلة النصف من شعبان لتلك الصلاة المحدثة لا يأتيه الصبح إلا وهو نائم أو في غاية الكسل ، فيخل بصلاة الصبح ، [ ص: 478 ] وكذلك سائر المحدثات ، فصارت هذه الزيادة عائدة على ما هو أولى منها بالإبطال أو الإخلال ، وقد مر أن . ما من بدعة تحدث إلا ويموت من السنة ما هو خير منها
وأيضا ؛ فإن هذا القياس مخالف لأصل شرعي ـ وهو طلب النبي صلى الله عليه وسلم السهولة والرفق والتيسير وعدم التشديد ـ ، وزيادة وظيفة لم تشرع فتظهر ويعمل بها دائما في مواطن السنن ؛ فهو تشديد بلا شك .
وإن سلمنا ما قال ؛ فقد وجد كل مبتدع من العامة السبيل إلى إحداث البدع ، وأخذ هذا الكلام بيده حجة وبرهانا على صحة ما يحدثه كائنا ما كان ، وهو مرمى بعيد .
ثم استدل على جواز الدعاء إثر الصلاة في الجملة ، ونقل في ذلك عن مالك وغيره أنواعا من الكلام ، وليس [ هذا ] محل النزاع ، بل جعل الأدلة شاملة لتلك الكيفية المذكورة .
وعقب ذلك بقوله : " وقد تظاهرت الأحاديث والآثار وعمل الناس وكلام العلماء على هذا المعنى ؛ كما قد ظهر " ، قال : " ومن المعلوم أنه عليه السلام كان الإمام في الصلوات ، وأنه لم يكن ليخص نفسه بتلك الدعوات ، إذ قد جاء من سنته : . لا يحل لرجل أن يؤم قوما إلا بإذنهم ، ولا يخص نفسه بدعوة دونهم ، فإن فعل فقد خانهم
فتأملوا يا أولي الألباب ! فإن عامة النصوص فيما سمع من أدعيته [ ص: 479 ] في أدبار الصلوات إنما كان دعاء لنفسه ، وهذا الكلام يقول فيه : إنه لم يكن ليخص نفسه بالدعاء دون الجماعة ، وهذا تناقض ، الله نسأل التوفيق .
وإنما حمل الناس الحديث على دعاء الإمام في نفس الصلاة من السجود وغيره ، لا فيما حمله عليه هذا المتأول ، ولما لم يصح العمل بذلك الحديث عند مالك ؛ أجاز للإمام أن يخص نفسه بالدعاء دون المأمومين ، ذكره في " النوادر " .
ولما اعترضه كلام العلماء وكلام السلف مما تقدم ذكره ؛ أخذ يتأول ويوجه كلامهم على طريقته المرتبكة ، ووقع له في [ ذلك ] كلام على غير تأمل لا يسلم ظاهره من التناقض والتدافع لوضوح أمره ، وكذلك في تأويل الأحاديث التي نقلها ، لكن تركت هنا استيفاء الكلام عليها لطوله ، وقد ذكرته في غير هذا الموضع ، والحمد لله على ذلك .