الوجه الثاني من النقل : ما جاء في الأحاديث المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
وهي كثيرة تكاد تفوت الحصر; إلا أنا نذكر منها ما تيسر مما يدل على [ ص: 92 ] الباقي ونتحرى في ذلك بحول الله ما هو أقرب إلى الصحة .
فمن ذلك ما في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه; فهو رد . وفي رواية لـ مسلم : من عمل عملا ليس عليه أمرنا; فهو رد .
وهذا الحديث عده العلماء ثلث الإسلام ، لأنه جمع وجه المخالفة لأمره عليه السلام ، ويستوي في ذلك ما كان بدعة أو معصية .
وخرج مسلم ، عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته : " أما بعد ، فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة " .
وفي رواية; قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس ، يحمد الله ، ويثني عليه بما هو أهله ، ثم يقول : من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وخير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة .
وفي رواية للنسائي : " وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة في النار " .
وذكر أن عمر رضي الله عنه كان يخطب بهذه الخطبة .
[ ص: 93 ] وعن ابن مسعود موقوفا ومرفوعا : أنه كان يقول : " إنما هما اثنتان : الكلام ، والهدى ، فأحسن الكلام كلام الله ، وأحسن الهدى هدى محمد ، ألا وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن شر الأمور محدثاتها ، إن كل محدثة بدعة " .
وفي لفظ : " غير أنكم ستحدثون ويحدث لكم ، فكل محدثة ضلالة ، وكل ضلالة في النار " .
وكان ابن مسعود يخطب بهذا كل خميس .
وفي رواية أخرى عنه : " إنما هما اثنتان : الهدى ، والكلام ، فأفضل الكلام أو أصدق الكلام كلام الله ، وأحسن الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، ألا لا يتطاولن عليكم الأمر فتقسو قلوبكم ، ولا يلهينكم الأمل ، فإن كل ما هو آت قريب ، ألا إن بعيدا ما ليس آتيا .
وفي رواية أخرى عنه : " أحسن الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، و ( إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين ) .
وروى ابن ماجه مرفوعا عن ابن مسعود : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إياكم ومحدثات الأمور ، فإن شر الأمور محدثاتها ، وإن كل محدثة بدعة وإن كل بدعة ضلالة .
[ ص: 94 ] والمشهور أنه موقوف على ابن مسعود .
وفي الصحيح من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من دعا إلى الهدى; كان له من الأجر مثل أجور من يتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة ، كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه ، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا .
وفي الصحيح أيضا عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : من سن سنة خير فاتبع عليها; فله أجره ، ومثل أجور من اتبعه غير منقوص من أجورهم شيئا ومن سن سنة شر فاتبع عليها; كان عليه وزره ومثل أوزار من اتبعه غير منقوص من أوزارهم شيئا .
أخرجه الترمذي .
وروى الترمذي أيضا وصححه ، وأبو داود وغيرهما عن العرباض بن سارية قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب . فقال قائل : يا رسول الله ؟ كأن هذا موعظة مودع ، فماذا تعهد إلينا ؟
فقال : " أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة ، وإن كان عبدا [ ص: 95 ] حبشيا; فإنه من يعيش منكم بعدي; فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة .
وروي على وجوه من طرق .
وفي الصحيح عن حذيفة : أنه قال : يا رسول الله ! هل بعد هذا الخير شر ؟ قال : " نعم; قوم يستنون بغير سنتي ، ويهتدون بغير هديي " .
قال : فقلت : هل بعد ذلك الشر من شر ؟
قال : " نعم دعاة على نار جهنم ، من أجابهم ، قذفوه فيها " .
قلت : يا رسول الله ، صفهم لنا .
قال : " نعم; هم من جلدتنا ، ويتكلمون بألسنتنا " .
قلت : فما تأمرني إن أدركت ذلك ؟
قال : " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم " .
قلت : فإن لم يكن إمام ولا جماعة ؟
قال : " فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض بأصل شجرة ، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك " .
وخرجه البخاري على نحو آخر .
[ ص: 96 ] وفي حديث الصحيفة : المدينة حرم ما بين عير إلى ثور ، من أحدث فيها حدثا ، أو آوى محدثا; فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا " .
وهذا الحديث في سياق العموم ، فيشمل كل حدث أحدث فيها مما ينافي الشرع ، والبدع من أقبح الحدث ، وقد استدل به مالك في مسألة تأتي في موضعها بحول الله ، وهو وإن كان مختصا بالمدينة ; فغيرها أيضا يدخل في المعنى .
وفي الموطأ من حديث أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة : فقال : " السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون " الحديث إلى أن قال فيه فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال ، أناديهم ألا هلم ، ألا هلم ، فيقال : إنهم قد بدلوا بعدك . فأقول : فسحقا فسحقا فسحقا .
حمله جماعة من العلماء على أنهم أهل البدع ، وحمله آخرون على المرتدين عن الإسلام .
[ ص: 97 ] والذي يدل على الأول ما خرجه خيثمة بن سليمان عن يزيد الرقاشي ; قال : سألت أنس بن مالك ، فقلت : إن هاهنا قوما يشهدون علينا بالكفر والشرك ، ويكذبون بالحوض والشفاعة ، فهل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئا ؟ قال : نعم; سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : بين العبد والكفر أو الشرك ترك الصلاة ، فإذا تركها فقد أشرك ، وحوضي كما بين أيلة إلى مكة ، أباريقه كنجوم السماء أو قال : كعدد نجوم السماء ، له ميزابان من الجنة ، كلما نضب أمداه ، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا ، وسيرده أقوام ذابلة شفاههم ، فلا يطعمون منه قطرة واحدة . من كذب به اليوم ، لم يصب منه الشراب يومئذ .
فهذا الحديث على أنهم من أهل القبلة ، فنسبتهم أهل الإسلام إلى الكفر من أوصاف الخوارج ، والتكذيب بالحوض من أوصاف أهل الاعتزال وغيرهم .
مع ما في حديث " الموطأ " من قول النبي صلى الله عليه وسلم : ألا هلم لأنه عرفهم بالغرة والتحجيل الذي جعله من خصائص أمته ، وإلا; فلو لم يكونوا من الأمة; لم يعرفهم بالعلامة المذكورة .
[ ص: 98 ] وصح من حديث ابن عباس رضي الله عنه ، قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموعظة ، فقال : " إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا ، كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ) .
قال : أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم ، وإنه يستدعى برجال من أمتي ، فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول كما قال العبد الصالح : ( وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) ، فيقال : هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم " .
ويحتمل هذا الحديث أن يراد به أهل البدع ، كحديث " الموطأ " ، ويحتمل أن يراد به من ارتد بعد النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي الترمذي ، عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، والنصارى مثل ذلك ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة .
حسن صحيح ، وفي الحديث روايات أخر ، سيأتي ذكرها والكلام عليها إن شاء الله . ولكن الفرق فيها عند أكثر العلماء فرق أهل البدع .
وفي الصحيح : أنه صلى الله عليه وسلم قال : إن الله لا يقبض العلم انتزاعا [ ص: 99 ] ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا ، فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا .
وهو آت على وجوه كثيرة في البخاري وغيره .
وفي مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : من سره أن يلقى الله غدا مسلما; فليحافظ على هؤلاء الصلوات ، حيث ينادى بهن ، فإن الله عز وجل شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى ، وإنهن من سنن الهدى ، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته; لتركتم سنة نبيكم ، ولو تركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم لضللتم الحديث .
فتأملوا كيف جعل ترك السنة ضلالة !
وفي رواية : لو تركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم ، لكفرتم ، وهو أشد في التحذير .
وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
إني تارك فيكم ثقلين ، أولهما كتاب الله ، فيه الهدى والنور وفي رواية : فيه الهدى من استمسك به وأخذ به; كان على الهدى ، ومن أخطأه; ضل وفي رواية : من اتبعه كان على الهدى ، ومن تركه كان على ضلالة .
ومما جاء في هذا الباب أيضا ما خرج ابن وضاح ونحوه لابن وهب [ ص: 100 ] عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم; قال : سيكون في أمتي دجالون كذابون ، يأتونكم ببدع من الحديث ، لم تسمعوه أنتم ولا آباؤكم ، فإياكم إياهم لا يفتنونكم .
وفي الترمذي أنه عليه الصلاة والسلام قال : من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي ، فإن له من الأجر مثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله ، كان عليه مثل وزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا ، حديث حسن .
ولابن وضاح وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها : من أتى صاحب بدعة ليوقره فقد أعان على هدم الإسلام .
وعن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن أحببت أن لا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل الجنة ، فلا تحدث في دين الله حدثا برأيك .
وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : من اقتدى بي ، فهو مني ، [ ص: 101 ] ومن رغب عن سنتي; فليس مني .
وخرج الطحاوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ستة ألعنهم لعنهم الله وكل نبي مجاب : الزائد في دين الله ، والمكذب بقدر الله ، والمتسلط بالجبروت يذل به من أعز الله ويعز به من أذل الله ، والتارك لسنتي ، والمستحل لحرم الله ، والمستحل من عترتي ما حرم الله .
وفي رواية أبي بكر بن ثابت الخطيب : ستة لعنهم الله ولعنتهم ، وفيه : والراغب عن سنتي إلى بدع .
وفي الطحاوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن لكل عابد شرة ، ولكل شرة فترة ، فإما إلى سنة وإما إلى بدعة ، فمن كانت فترته إلى سنتي ، فقد اهتدى ، ومن كانت فترته إلى غير ذلك ، فقد هلك .
[ ص: 102 ] وفي معجم البغوي عن مجاهد ، قال : دخلت أنا وأبو يحيى بن جعدة على رجل من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم; قال : ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مولاة لبني عبد المطلب ، فقالوا : إنها قامت الليل وصامت النهار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لكني أنام وأصلي ، وأصوم وأفطر ، فمن اقتدى بي فهو مني ، ومن رغب عن سنتي ، فليس مني ، إن لكل عامل شرة ثم فترة ، فمن كانت فترته إلى بدعة ، فقد ضل ، ومن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى .
وعن أبي وائل ، عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة : رجل قتل نبيا أو قتله نبي ، وإمام ضلالة وممثل من [ ص: 103 ] الممثلين .
وفي " منتقى حديث خيثمة " عن سليمان ، عن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : سيكون من بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن مواقيتها ، فيحدثون البدعة ، قال عبد الله بن مسعود : فكيف أصنع إذا أدركتهم ؟ قال : تسألني يا ابن أم عبد الله كيف تصنع ؟ لا طاعة لمن عصى الله .
وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أكل طيبا ، وعمل في سنة ، وأمن الناس بوائقه ، دخل الجنة ، فقال رجل : يا رسول الله ! إن هذا اليوم في الناس لكثير ، قال : وسيكون في قرون بعدي ، حديث غريب .
وفي كتاب الطحاوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول [ ص: 104 ] الله صلى الله عليه وسلم قال : كيف بكم وبزمان أو قال : يوشك أن يأتي زمان يغربل الناس فيه غربلة ، وتبقى حثالة من الناس ، قد مرجت عهودهم وأماناتهم ، اختلفوا فصارت هكذا وشبك بين أصابعه قالوا : وكيف بنا يا رسول الله ؟ قال : تأخذون بما تعرفون ، وتذرون ما تنكرون ، وتقبلون على أمر خاصتكم ، وتذرون أمر عامتكم .
وخرج ابن وهب مرسلا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إياكم والشعاب ، قالوا : وما الشعاب يا رسول الله ؟ قال : الأهواء .
وخرج أيضا : إن الله ليدخل العبد الجنة بالسنة يتمسك بها .
وفي كتاب السنة للآجري من طريق الوليد بن مسلم عن معاذ بن جبل ; قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا حدث في أمتي البدع ، وشتم أصحابي ، فليظهر العالم علمه ، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .
قال عبد الله بن الحسن : فقلت للوليد بن مسلم : ما إظهار العلم ؟
[ ص: 105 ] قال : إظهار السنة . والأحاديث كثيرة .
وليعلم الموفق أن بعض ما ذكر من الأحاديث يقصر عن رتبة الصحيح ، وإنما أتي بها عملا بما أصله المحدثون في أحاديث الترغيب والترهيب ، وإذ قد ثبت ذم البدع وأهلها بالدليل القاطع القرآني والدليل السني الصحيح ، فما زيد من غيره ، فلا حرج في الإتيان به إن شاء الله .


