المعنى المناسب الذي يربط به الحكم لا يخلو من ثلاثة أقسام :
أحدها : ، فلا إشكال في صحته ، ولا خلاف في إعماله ، وإلا كان مناقضة للشريعة ، كشريعة القصاص حفظا للنفوس والأطراف وغيرها . أن يشهد الشرع بقبوله
والثاني : فلا سبيل إلى قبوله ، إذ المناسبة لا تقتضي الحكم لنفسها ، وإنما ذلك مذهب أهل التحسين العقلي ، بل إذا ظهر المعنى وفهمنا من الشرع اعتباره في اقتضاء الأحكام ، فحينئذ نقبله ، فإن المراد بالمصلحة عندنا ما فهم رعايته في حق الخلق من جلب المصالح ودرء المفاسد على وجه لا يستقل العقل بدركه على حال ، فإذا لم يشهد الشرع باعتبار ذلك المعنى ، بل [ شهد ] برده ، كان مردودا باتفاق [ ص: 610 ] المسلمين . ما شهد الشرع برده
ومثال [ ذلك ] ما حكى عن بعض أكابر العلماء أنه دخل على بعض السلاطين فسأله عن الوقاع في نهار رمضان ، فقال : عليك صيام شهرين متتابعين . فلما خرج راجعه بعض الفقهاء وقالوا له : القادر على إعتاق الرقبة كيف يعدل به إلى الصوم والصوم وظيفة المعسرين ، وهذا الملك يملك عبيدا غير محصورين ؟ فقال لهم : لو قلت له عليك إعتاق رقبة لاستحقر ذلك وأعتق عبيدا مرارا ، فلا يزجره إعتاق الرقبة ويزجره صوم شهرين متتابعين . الغزالي
فهذا المعنى مناسب ، لأن الكفارة ، مقصود الشرع منها الزجر ، والملك لا يزجره الإعتاق ويزجره الصيام .
وهذه الفتيا باطلة لأن العلماء بين قائلين : قائل بالتخيير ، وقائل بالترتيب ، فيقدم العتق على الصيام ، فتقديم الصيام بالنسبة إلى الغني لا قائل به .
على أنه قد جاء عن مالك شيء يشبه هذا ، لكنه على صريح الفقه .
قال : حنث يحيى بن بكير الرشيد في يمين فجمع العلماء فأجمعوا أن عليه عتق رقبة . فسأل مالكا . فقال : صيام ثلاثة أيام . واتبعه على ذلك إسحاق بن إبراهيم من فقهاء قرطبة .
حكى أن ابن بشكوال الحكم أمير المؤمنين أرسل في الفقهاء وشاورهم في مسألة نزلت به ، فذكر لهم عن نفسه أنه عمد إلى إحدى كرائمه ووطئها في رمضان ، فأفتوا بالإطعام ، وإسحاق بن إبراهيم ساكت . [ ص: 611 ] فقال له أمير المؤمنين : ما يقول الشيخ في فتوى أصحابه ؟ فقال له : لا أقول بقولهم ، وأقول بالصيام . فقيل له : أليس مذهب مالك الإطعام ؟ فقال لهم : تحفظون مذهب مالك ، إلا إن كنتم تريدون مصانعة أمير المؤمنين . إنما أمر بالإطعام لمن له مال ، وأمير المؤمنين لا مال له ، إنما هو بيت مال المسلمين ، فأخذ بقوله أمير المؤمنين وشكر له عليه اهـ . وهذا صحيح .
نعم ـ حكى ابن بشكوال أنه اتفق لعبد الرحمن بن الحكم مثل هذا في رمضان ، فسأل الفقهاء عن توبته من ذلك وكفارته . فقال يحيى بن يحيى : يكفر ذلك صيام شهرين متتابعين . فلما برز ذلك من يحيى سكت سائر الفقهاء حتى خرجوا من عنده ، فقالوا ليحيى : ما لك لم تفته بمذهبنا عن مالك من أنه مخير بين العتق والطعام والصيام ؟ فقال لهم : لو فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة ، ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود .
فإن صح هذا عن يحيى بن يحيى رحمه الله ، وكان كلامه على ظاهره ، كان مخالفا للإجماع .
( الثالث ) : ما الشواهد الخاصة ، فلم تشهد باعتباره ولا بإلغائه . فهذا على وجهين : سكتت عنه
أحدهما : أن يرد نص على وفق ذلك المعنى ، كتعليل منع القتل للميراث ، فالمعاملة بنقيض المقصود على تقدير أن لم يرد نص على وفقه ؛ فإن هذه العلة لا عهد بها في تصرفات الشرع بالفرض ولا بملائمها بحيث يوجد لها جنس معتبر ، فلا يصح التعليل بها ، ولا بناء الحكم عليها باتفاق ، [ ص: 612 ] ومثل هذا تشريع من القائل به فلا يمكن قبوله .
والثاني : أن يلائم تصرفات الشرع ، وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل معين ، وهو الاستدلال المرسل ، المسمى بالمصالح المرسلة ولا بد من بسطه بالأمثلة حتى يتبين وجهه بحول الله .