الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 236 ] قالوا : وهذه الأسماء لم نسمه نحن معشر النصارى بها من ذات أنفسنا ، بل الله سمى لاهوته بها ، وذلك أنه قال على لسان موسى النبي في التوراة مخاطبا بني إسرائيل قائلا : أليس هذا الأب الذي صنعك وبراك واقتناك ؟ وعلى لسانه أيضا قائلا : وكان روح الله ترف على الماء وقوله على لسان داود النبي : روحك القدس لا تنزع مني ، وأيضا على لسانه بكلمة الله تشددت السماوات والأرض وبروح فاه جميع قواتهن .

وقوله : على لسان أشعيا : ( ييبس القتاد ويجف العشب ، وكلمة الله [ ص: 237 ] باقية إلى الأبد ، وعلى لسان أيوب الصديق ، روح الله خلقني وهو يعلمني ) .

وقال السيد المسيح في الإنجيل المقدس للتلاميذ الأطهار : ( اذهبوا إلى جميع العالم وعمدوهم باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد ، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به ) ، وقد قال في هذا الكتاب :

ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين .

وقال أيضا :

ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس .

وقال أيضا :

وكلم الله موسى تكليما [ ص: 238 ] وقال في سورة التحريم :

ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين .

وسائر المسلمين يقولون : إن الكتاب كلام الله ولا يكون كلام إلا لحي ناطق ، وهذه صفات جوهرية تجري مجرى الأسماء ، وكل صفة منها غير الأخرى والإله واحد لا يتبعض ولا يتجزأ .

والجواب من وجوه :

أحدها : أن تقول : إن كلام الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا يكون إلا حقا وصدقا ، ولا يكون فيه شيء يعلم بطلانه بصريح العقل ، وإن كان فيه ما يعجز العقل عن معرفته بدون إخبار الأنبياء ، ولا يكون كلام النبي الذي يخبر به مناقضا لكلامه في موضع آخر ، ولا لكلام سائر الأنبياء ، بل كل ما أخبرت به الأنبياء فهو حق وصدق ، يصدق بعضه بعضا .

وقد أوجب الله علينا أن نؤمن بكل ما أخبروا به ، وحكم بكفر من آمن ببعض ذلك ، وكفر ببعضه ، فما علم بصريح العقل لا يناقض ما علم بالنقل الصحيح عن الأنبياء وما علم بالنقل الصحيح عن بعضهم لا يناقض ما علم بالنقل الصحيح عن غيره ، ولكن قد يختلف بعض الشرع والمناهج في الأمر والنهي .

فأما ما يخبرون به عن الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، [ ص: 239 ] وغير ذلك ، فلا يجوز أن يناقض بعضه بعضا .

وإذا كان كذلك فما ينقلونه عن الأنبياء إنما تتم الحجة به إذ علم إسناده ومتنه ، فيعلم أنه منقول عنهم نقلا صحيحا ، ونعلم أن ترجمته من العبرية إلى اللسان الآخر ، كالرومية والعربية والسريانية ترجمة صحيحة ويعلم بعد ذلك أنهم أرادوا به ذلك المعنى .

وليس مع النصارى حجة عن الأنبياء تثبت فيها هذه المقدمات الثلاث
 ونحن في هذا المقام يكفينا المنع ، والمطالبة لهم بتصحيح هذه المقدمات فإنهم ادعوا أن التثليث أخذوه عن الأنبياء  ، فنحن نطالبهم بتصحيح هذه المقدمات .

والجواب الثاني : أنا نبين تفسير ما ذكروه من الكلمات ، أما قوله على لسان موسى - عليه السلام - مخاطبا بني إسرائيل قائلا : ( أليس الأب الذي صنعك وبراك واقتناك ) ؟ فهذا فيه أنه سماه أبا لغير المسيح - عليه السلام - ، وهذا نظير قوله لإسرائيل : ( أنت ابني بكري ) ، وداود ( ابني حبيبي ) ، وقول المسيح ( أبي وأبيكم ) وهم يسلمون أن المراد بهذا في حق غير المسيح بمعنى الرب لا معنى التولد الذي يخصون به المسيح .

الثالث : أن هذا حجة عليهم ، فإذا كان في الكتب المتقدمة تسميته أبا لغير المسيح وليس المراد بذلك إلا معنى الرب ، علم أن هذا اللفظ في لغة الكتب يراد به الرب ، فيجب حمله في حق المسيح على [ ص: 240 ] هذا المعنى ، لأن الأصل عدم الاشتراك في الكلام .

الرابع : أن استعماله في المعنى الذي خصوا به المسيح ، إنما يثبت إذا علم أنه أريد المعنى الذي ادعوه في المسيح فلو أثبت ذلك المعنى بمجرد إطلاق لفظ الأب لزم الدور ، فإنه لا يعلم أنه أريد به ذلك المعنى من حيث يثبت أنه كان يراد به في حق الله هذا المعنى ولا يثبت ذلك ، حتى يعلم أنه أريد به ذلك المعنى في حق المسيح ، فإذا توقف العلم بكل منهما على الآخر لم يعلم واحد منهما ، فتبين أنه لا علم عندهم بأنه أريد في حق المسيح ، بلفظ الأب ما خصوه به في محل النزاع .

الوجه الخامس : أنه يوجد في كتب الأنبياء وكلامهم إطلاق اسم الأب ، والمراد به أب اللاهوت ، ولا إطلاق اسم الابن والمراد به شيء من اللاهوت لا كلمته ولا حياته ، بل لا يوجد لفظ الابن إلا والمراد به المخلوق ، فلا يكون لفظ الابن إلا لابن مخلوق .

وحينئذ فيلزم من ذلك أن يكون مسمى الابن في حق المسيح هو الناسوت ، وهذا يبطل قولهم : إن الابن وروح القدس أنهما صفتان لله وأن المسيح اسم للاهوت والناسوت ، فتبين أن نصوص كتب الأنبياء تبطل مذهب النصارى ، وتناقض أمانتهم ، فهم بين أمرين :

بين الإيمان بكلام الأنبياء ( وبطلان دينهم .

وبين تصحيح دينهم وتكذيب الأنبياء ) ، وهذا هو المطلوب .

التالي السابق


الخدمات العلمية