[ ص: 236 ] قالوا : وهذه الأسماء لم نسمه نحن معشر النصارى بها من ذات أنفسنا ، بل الله سمى لاهوته بها ، وذلك أنه قال على لسان موسى النبي في التوراة مخاطبا بني إسرائيل قائلا : أليس هذا الأب الذي صنعك وبراك واقتناك ؟ وعلى لسانه أيضا قائلا : وكان روح الله ترف على الماء وقوله على لسان داود النبي : روحك القدس لا تنزع مني ، وأيضا على لسانه بكلمة الله تشددت السماوات والأرض وبروح فاه جميع قواتهن .
وقوله : على لسان أشعيا : ( ييبس القتاد ويجف العشب ، وكلمة الله [ ص: 237 ] باقية إلى الأبد ، وعلى لسان أيوب الصديق ، روح الله خلقني وهو يعلمني ) .
وقال السيد المسيح في الإنجيل المقدس للتلاميذ الأطهار : ( اذهبوا إلى جميع العالم وعمدوهم باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد ، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به ) ، وقد قال في هذا الكتاب :
ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين .
وقال أيضا :
ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس .
وقال أيضا :
وكلم الله موسى تكليما [ ص: 238 ] وقال في سورة التحريم :
ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين .
وسائر المسلمين يقولون : إن الكتاب كلام الله ولا يكون كلام إلا لحي ناطق ، وهذه صفات جوهرية تجري مجرى الأسماء ، وكل صفة منها غير الأخرى والإله واحد لا يتبعض ولا يتجزأ .
والجواب من وجوه :
أحدها : أن تقول : إن كلام الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا يكون إلا حقا وصدقا ، ولا يكون فيه شيء يعلم بطلانه بصريح العقل ، وإن كان فيه ما يعجز العقل عن معرفته بدون إخبار الأنبياء ، ولا يكون كلام النبي الذي يخبر به مناقضا لكلامه في موضع آخر ، ولا لكلام سائر الأنبياء ، بل كل ما أخبرت به الأنبياء فهو حق وصدق ، يصدق بعضه بعضا .
وقد أوجب الله علينا أن نؤمن بكل ما أخبروا به ، وحكم بكفر من آمن ببعض ذلك ، وكفر ببعضه ، فما علم بصريح العقل لا يناقض ما علم بالنقل الصحيح عن الأنبياء وما علم بالنقل الصحيح عن بعضهم لا يناقض ما علم بالنقل الصحيح عن غيره ، ولكن قد يختلف بعض الشرع والمناهج في الأمر والنهي .
فأما ما يخبرون به عن الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، [ ص: 239 ] وغير ذلك ، فلا يجوز أن يناقض بعضه بعضا .
وإذا كان كذلك
وليس مع النصارى حجة عن الأنبياء تثبت فيها هذه المقدمات الثلاث ونحن في هذا المقام يكفينا المنع ، والمطالبة لهم بتصحيح هذه المقدمات فإنهم فما ينقلونه عن الأنبياء إنما تتم الحجة به إذ علم إسناده ومتنه ، فيعلم أنه منقول عنهم نقلا صحيحا ، ونعلم أن ترجمته من العبرية إلى اللسان الآخر ، كالرومية والعربية والسريانية ترجمة صحيحة ويعلم بعد ذلك أنهم أرادوا به ذلك المعنى . ، فنحن نطالبهم بتصحيح هذه المقدمات . ادعوا أن التثليث أخذوه عن الأنبياء
والجواب الثاني : أنا نبين تفسير ما ذكروه من الكلمات ، أما قوله على لسان موسى - عليه السلام - مخاطبا بني إسرائيل قائلا : ( أليس الأب الذي صنعك وبراك واقتناك ) ؟ فهذا فيه أنه سماه أبا لغير المسيح - عليه السلام - ، وهذا نظير قوله لإسرائيل : ( أنت ابني بكري ) ، وداود ( ابني حبيبي ) ، وقول المسيح ( أبي وأبيكم ) وهم يسلمون أن المراد بهذا في حق غير المسيح بمعنى الرب لا معنى التولد الذي يخصون به المسيح .
الثالث : أن هذا حجة عليهم ، فإذا كان في الكتب المتقدمة تسميته أبا لغير المسيح وليس المراد بذلك إلا معنى الرب ، علم أن هذا اللفظ في لغة الكتب يراد به الرب ، فيجب حمله في حق المسيح على [ ص: 240 ] هذا المعنى ، لأن الأصل عدم الاشتراك في الكلام .
الرابع : أن استعماله في المعنى الذي خصوا به المسيح ، إنما يثبت إذا علم أنه أريد المعنى الذي ادعوه في المسيح فلو أثبت ذلك المعنى بمجرد إطلاق لفظ الأب لزم الدور ، فإنه لا يعلم أنه أريد به ذلك المعنى من حيث يثبت أنه كان يراد به في حق الله هذا المعنى ولا يثبت ذلك ، حتى يعلم أنه أريد به ذلك المعنى في حق المسيح ، فإذا توقف العلم بكل منهما على الآخر لم يعلم واحد منهما ، فتبين أنه لا علم عندهم بأنه أريد في حق المسيح ، بلفظ الأب ما خصوه به في محل النزاع .
الوجه الخامس : أنه يوجد في كتب الأنبياء وكلامهم إطلاق اسم الأب ، والمراد به أب اللاهوت ، ولا إطلاق اسم الابن والمراد به شيء من اللاهوت لا كلمته ولا حياته ، بل لا يوجد لفظ الابن إلا والمراد به المخلوق ، فلا يكون لفظ الابن إلا لابن مخلوق .
وحينئذ فيلزم من ذلك أن يكون مسمى الابن في حق المسيح هو الناسوت ، وهذا يبطل قولهم : إن الابن وروح القدس أنهما صفتان لله وأن المسيح اسم للاهوت والناسوت ، فتبين أن نصوص كتب الأنبياء تبطل مذهب النصارى ، وتناقض أمانتهم ، فهم بين أمرين :
بين الإيمان بكلام الأنبياء ( وبطلان دينهم .
وبين تصحيح دينهم وتكذيب الأنبياء ) ، وهذا هو المطلوب .