فيقال : إن ادعيتم ظهوره في عيسى كما ظهر في إبراهيم وموسى ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه ، وكما يظهر في بيوته التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ، وذلك بظهور نوره ومعرفته ، وذكر أسمائه وعبادته ونحو ذلك ، من غير حلول ذاته في البشر ولا اتحاده به ، فهذا أمر مشترك بين المسيح وغيره فلا اختصاص للمسيح بهذا ، وهذا أيضا قد يسمى حلولا ، وعندهم أن الله يحل في الصالحين ، وهذا مذكور عندهم في بعض الكتب الإلهية ، كما في كتبهم في المزمور الرابع من الزبور ، يقول داود عليه السلام في مناجاته لربه : وليفرح المتوكلون عليك إلى الأبد ، ويبتهجون ، وتحل فيهم ويفتخرون . فأخبر أنه يحل في الصالحين المذكورين ، فعلم أن هذا لا اختصاص للمسيح به ، وليس المراد بهذا - باتفاقهم واتفاق المسلمين - أن ذات الله نفسه تتحد بالبشر ، ويصير اللاهوت والناسوت كالنار والحديد ، والماء واللبن ، [ ص: 333 ] ونحو ذلك مما يمثلون به الاتحاد ، ، بل هذا يراد به حلول الإيمان به ومعرفته ، ومحبته وذكره وعبادته ، ونوره وهداه .
وقد يعبر عن ذلك بحلول المثال العلمي ، كما قال تعالى :
وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله .
وقال تعالى :
وهو الله في السماوات وفي الأرض .
وله المثل الأعلى في السماوات والأرض .
فهو سبحانه له المثل الأعلى في قلوب أهل السماوات وأهل الأرض .
ومن هذا الباب ، فأخبر أن شفتيه تتحرك به أي باسمه ، وكذلك قوله في الحديث الصحيح : ما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه قال : يقول الله : أنا مع عبدي ما ذكرني ، وتحركت بي شفتاه
. عبدي مرضت فلم تعدني ، فيقول العبد : رب كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ ، فيقول : أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده
[ ص: 334 ] فقال : لوجدتني عنده ولم يقل : لوجدتني إياه ، وهو عنده أي في قلبه ، والذي في قلبه المثال العلمي .
، ولم يقل لوجدتني قد أكلته . وقال تعالى : عبدي جعت فلم تطعمني ، فيقول : وكيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ فيقول : أما علمت أن عبدي فلانا جاع ، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي
وكذلك قوله في الحديث الصحيح الذي رواه عن البخاري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله تعالى : من أبي هريرة . عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها
وفي رواية : فبي يسمع ، وبي يبصر ، وبي يبطش ، وبي يمشي ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت وأكره مساءته .
[ ص: 335 ] وهذا الحديث قد يحتج به القائلون بالحلول العام ، أو الاتحاد العام أو وحدة الوجود ، وقد يحتج به من يقول بالخاص من ذلك ، كأشباه النصارى .
والحديث حجة على الفريقين ، فإنه قال : فأثبت ثلاثة : وليا له ، وعدوا يعادي وليه ، وميز بين نفسه وبين وليه ، وعدو وليه ، فقال : من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، ، ولكن دل ذلك على أن وليه الذي والاه فصار يحب ما يحب ويبغض ما يبغض ، ويوالي من يوالي ويعادي من يعادي ، فيكون الرب مؤذنا بالحرب لمن عاداه ، بأنه معاد لله . من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب
ثم قال تعالى :
، ففرق بين العبد المتقرب ، والرب المتقرب إليه ، ثم قال : وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه فبين أنه يحبه بعد تقربه بالنوافل والفرائض . ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ،
ثم قال : وعند أهل الحلول والاتحاد العام أو الوحدة : هو صدره وبطنه وظهره ورأسه وشعره ، وهو كل شيء ، أو في كل شيء قبل التقرب وبعده ، وعند الخاص وأهل الحلول صار هو ، وهو كالنار والحديد والماء واللبن ، لا يختص بذلك آلة الإدراك والفعل . فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ،
[ ص: 336 ] ثم قال تعالى :
، وعلى قول هؤلاء - الرب هو الذي يسمع ويبصر ويبطش ويمشي ، والرسول إنما قال : فبي ، ثم قال : فبي يسمع ، وبي يبصر ، وبي يبطش ، وبي يمشي ، فجعل العبد سائلا مستعيذا ، والرب مسئولا مستعاذا به ، وهذا يناقض الاتحاد ، وقوله : فبي يسمع مثل قوله : ما تحركت بي شفتاه ، يريد به المثال العلمي . ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه
وقول الله : فيكون الله في قلبه أي معرفته ومحبته وهداه وموالاته ، وهو المثل العلمي ، فبذاك الذي في قلبه يسمع ويبصر ويبطش ويمشي .
والمخلوق إذا أحب المخلوق أو عظمه أو أطاعه يعبر عنه بمثل هذا ، فيقول : أنت في قلبي وفي فؤادي ، وما زلت بين عيني ، ومنه قول القائل :
مثالك في عيني وذكرك في فمي ومثواك في قلبي فأين تغيب
وقول الآخر :ومن عجبي أني أحن إليهم وأسأل عنهم من لقيت وهم معي
وتطلبهم عيني وهم في سوادها ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
ولذلك غلط بعض الفلاسفة حتى ظنوا أن ذات المعلوم المعقول يتحد بالعالم العاقل ، فجعلوا المعقول والعقل والعاقل شيئا واحدا ، ولم يميزوا بين حلول مثال المعلوم ، وبين حلول ذاته ، وهذا يكون لضعف العقل وقوة سلطان المحبة والمعرفة ، فيغيب الإنسان بمعبوده عن عبادته ، وبمحبوبه عن محبته ، وبمشهوده عن شهادته ، وبمعروفه عن معرفته ، فيفنى من لم يكن عن شهود العبد ، لا أنه نفسه يعدم ويفنى في من لم يزل في شهوده ، ومن هذا المقام إذا غلط قد يقول مثل ما يحكى عن : سبحاني ، أو ما في الجبة [ ص: 338 ] إلا الله ، وفي هذا تذكر حكاية ، وهو أن شخصا كان يحب آخر فألقى المحبوب نفسه في ماء ، فألقى المحب نفسه خلفه ، فقال : أنا وقعت فلم وقعت أنت ؟ فقال : غبت بك عني ، فظننت أنك أني ، فهذا العبد المحب لما استولى على قلبه سلطان المحبة صار قلبه مستغرقا في محبوبه ، لا يشهد قلبه غير ما في قلبه وغاب عن شهود نفسه وأفعاله ، فظن أنه هو نفس المحبوب ، وهذا أهون من أن يظن أن ذات المحبوب نفسه . أبي يزيد البسطامي
فهذا الظن لاتحاد الذات أو لحلولها ظن غالط وقع فيه كثير من الناس ، المسيح أو غيره من البشر هو الله ، أو إن الله حال فيه قد يكون غلطهم من هذا الجنس ، لما سمعوا كلاما يقتضي أن الله في ذات الشخص ، وجعلوا فعل هذا فعل هذا ، ظنوا ذاك اتحاد الذات وحلولها . فالذين قالوا : إن
وإنما المراد أن معرفة الله فيه ، واتحاد المأمور به والمنهي عنه والموالي والمعادي ، كقوله تعالى :
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله .
وقوله :
من يطع الرسول فقد أطاع الله .
وليس ذلك لأن الرسول هو الله ، ولا لأن نفسه حال في [ ص: 339 ] الرسول ، ، بل لأن الرسول يأمر بما أمر الله به ، وينهى عما ينهى الله عنه ، ويحب ما يحبه الله ، ويبغض ما يبغضه الله ، ويوالي أولياء الله ، ويعادي أعداء الله .
فمن بايعه على السمع والطاعة ، فإنما بايع الله على السمع والطاعة ، ومن أطاعه فإنما أطاع الله .
وكذلك المسيح وسائر الرسل ؛ إنما يأمرون بما يأمر الله به ، وينهون عما ينهى الله عنه ويوالون أولياء الله ، ويعادون أعداء الله ، فمن أطاعهم فقد أطاع الله ، ومن صدقهم فقبل منهم ما أخبروا به ، فقد قبل عن الله ، ومن والاهم فقد والى الله ، ومن عاداهم وحاربهم فقد عادى الله وحارب الله ، ومن تصور هذه الأمور تبين له أن لفظ الحلول قد يعبر به عن معنى صحيح ، وقد يعبر به عن معنى فاسد .
وكذلك حلول كلامه في القلوب ، ولذلك كره [ ص: 340 ] الكلام في لفظ حلول القرآن في القلوب ، كما قد ذكر في غير هذا الموضع . أحمد بن حنبل
ومما يوضح هذا أن الشيء له وجود في نفسه هو ، وله وجود في المعلوم والأذهان ، ووجود في اللفظ واللسان ، ووجود في الخط والبيان ، ووجود عيني شخصي ، وعلمي ولفظي ، ورسمي ، وذلك كالشمس مثلا فلها تحقق في نفسها ، وهي الشمس التي في السماء ، ثم يتصور بالقلب الشمس ، ثم ينطق اللسان بلفظ الشمس ، ويكتب بالقلم الشمس .
والمقصود بالكتابة مطابقة اللفظ ، وباللفظ مطابقة العلم ، وبالعلم مطابقة المعلوم ، فإذا رأى الإنسان في كتاب خط الشمس ، أو سمع قائلا يذكر قال : هذه الشمس قد جعلها الله سراجا وهاجا ، وهذه الشمس تطلع من المشرق وتغرب في المغرب ، فهو يشير إلى ما سمعه من اللفظ ورآه من الخط ، وليس مراده نفس اللفظ والخط ، فإن ذلك ليس هو الشمس التي تطلع وتغرب ، وإنما مراده ما يقصد بالخط واللفظ ويراد بهما ، وهو المدلول المطابق لهما ، وكذلك قد يرى اسم الله مكتوبا في كتاب ، ومعه اسم صنم ، فيقول : آمنت بهذا ، وكفرت بهذا ، ومراده أنه مؤمن بالله كافر بالصنم ، فيشير إلى اسمه المكتوب ومراده المسمى بهذا الاسم ، وكذلك إذا سمع من يذكر أسماء الله الحسنى قال : هذا رب العالمين ، ومراده : المسمى بتلك الأسماء ، ومن هذا أنس بن [ ص: 341 ] مالك : كان نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أسطر : محمد رسول الله ، محمد سطر ، ورسول سطر ، والله سطر . قول
ومراده بهذه الأسماء الخط لهذا وهذا وهذا ، لا اللفظ ولا المسمى .
ومما يشبه هذا ما يرى في المرآة أو الماء ، مثل أن يرى الشمس أو غيرها في ماء أو مرآة ، فيشار إلى المرئي فيقال : هذا الشمس ، وهذا وجهي أو وجه فلان ، وليس مراده أن نفس الشمس أو وجهه أو وجه فلان حل في الماء أو المرآة ، ولكن لما كان المقصود بتلك الرؤية هو الشمس وهو الوجه - ذكره ، ثم قد يقال : رآه رؤية مقيدة في الماء ، أو المرآة ، وقد يقال : رآه بواسطة الماء والمرآة ، وقد يقال : رأى مثاله وخياله المحاكي له ، ولكن المقصود بالرؤية هو نفسه ، ومثل هذا كثير .
ومعلوم أن ما في القلوب من المثال العلمي المطابق للمعلوم أقرب إليه من اللفظ ، واللفظ أقرب من الخط ، فإذا كان قد يشار إلى اللفظ والخط ، والمراد هو نفسه ، وإن لم يكن الخط واللفظ هو ذاته ، بل به ظهر وعرف ، فلأن يشار إلى ما في القلب ، ويراد به المعروف الذي ظهر للقلب وتجلى للقلب ، وصار نوره في القلب - بطريق الأولى .
[ ص: 342 ] والعقلاء إنما تتوجه قلوبهم إلى المقصود المراد دون الوسائل ، ويعبرون بعبارات تدل على ذلك لظهور مرادهم بها ، كما يقولون لمن يعرف علم غيره ، أو لمن يأمر بأمره ، ويخبر بخبره ، هذا فلان ، فإذا كان مطلوبهم علم عالم أو طاعة أمير ، فجاء نائبه القائم مقامه في ذلك ، قالوا : هذا فلان ، أي المطلوب منه هو مع هذا ، فالاتحاد المقصود بهما يعبرون عن أحدهما بلفظ الآخر .
كما يقال : عكرمة هو ابن عباس ، وأبو يوسف هو [ ص: 343 ] ومن هذا الباب ما يذكر عن أبو حنيفة ، المسيح عليه السلام أنه قال : أنا وأبي واحد ، من رآني فقد رأى أبي .
، ويشبهه قوله : وقوله تعالى فيما حكاه عن رسوله : عبدي مرضت فلم تعدني ، عبدي جعت فلم تطعمني
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله .
فينبغي أن يعرف هذا النوع من الكلام ، فإنه تنحل به إشكالات كثيرة ، فإن هذا موجود في كلام الله ورسله وكلام المخلوقين ، في عامة الطوائف مع ظهور المعنى ومعرفة المتكلم والمخاطب أنه ليس المراد أن ذات أحدهما اتحدت بذات الآخر .
، بل أبلغ من ذلك يطلق لفظ الحلول والاتحاد ، ويراد به معنى صحيح ، كما يقال فلان وفلان بينهما اتحاد ، إذا كانا متفقين فيما يحبان ويبغضان ، ويواليان ويعاديان ، فلما اتحد مرادهما ومقصودهما صار يقال هما متحدان ، وبينهما اتحاد ، ولا يعني بذلك أن ذات هذا اتحدت بذات الآخر ، كاتحاد النار والحديد ، والماء واللبن ، أو النفس والبدن ، وكذلك لفظ الحلول ، والسكنى ، والتخلل وغير ذلك ، كما قيل :
[ ص: 344 ]
قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمي الخليل خليلا
ساكن في القلب يعمره لست أنساه فأذكره
إذا سكن الغدير على صفاء وجنب أن يحركه النسيم
بدت فيه السماء بلا امتراء كذاك الشمس تبدو والنجوم
كذاك قلوب أرباب التجلي يرى في صفوها الله العظيم
وهذا باب واسع ، مع علم المتكلم والمستمع أن ذات فلان لم تحل في هذا ، فضلا عن أن تتحد به ، وهو كما يقال عن المرآة إذا [ ص: 345 ] لم تقابل إلا الشمس : ما فيها إلا الشمس ، أي لم يظهر فيها غير الشمس .
وأيضا فلفظ الحلول يراد به حلول ذات الشيء تارة ، وحلول معرفته ومحبته ومثاله العلمي تارة كما تقدم ذكره ، وعندهم في النبوات أن الله حل في غير المسيح من الصالحين ، وليس المراد به أن ذات الرب حلت فيه ، بل يقال فلان ساكن في قلبي وحال في قلبي وهو في سري ، وسويداء قلبي ، ونحو ذلك ، وإنما حل فيه مثاله العلمي ، وإذا كان كذلك فمعلوم أن المكان إذا خلا ممن يعرف الله ويعبده لم يكن هناك ذكر الله ولا حلت فيه عبادته ومعرفته ، فإذا صار في المكان من يعرف الله ويعبده ويذكره ظهر فيه ذكره والإيمان به وحل فيه الإيمان بالله وعبادته وذكره ، وهو بيت الله عز وجل فيقال : إن الله فيه ، وهو حال فيه .
كما يقال : إن الله في قلوب العارفين ، وحال فيهم ، والمراد به حلول معرفته والإيمان به ومحبته ، ونحو ذلك ، وقد تقدم شواهد ذلك ، فإذا كان الرب في قلوب عباده المؤمنين ، أي نوره ومعرفته ، وعبر عن هذا بأنه حال فيهم وهم حالون في المسجد - قيل : إن الله في المسجد ، وحال فيه ، بهذا المعنى ، كما يقال : الله في قلب فلان وفلان ، ما عنده إلا الله ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : . أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده
ومما يزيد ذلك إيضاحا ما يراه النائم من بعض الأشخاص في [ ص: 346 ] منامه ، فيخاطبه ويأمره وينهاه ويخبره بأمور كثيرة ، وهو يقول : رأيت فلانا في منامي فقال لي : كذا ، وقلت له : كذا ، وفعل كذا ، وفعلت كذا ، ويذكر أنواعا من الأقوال والأفعال .
وقد يكون فيها علوم وحكم وآداب ينتفع بها غاية المنفعة ، وقد يكون ذلك الشخص الذي رأى في المنام حيا ، وهو لا يشعر بأن ذاك رآه في منامه فضلا عن أن يكون شاعرا بأنه قال أو فعل ، وقد يقص الرائي عليه رؤياه ، ويقول له الرائي : يا سيدي رأيتك في المنام فقلت لي : كذا ، وأمرتني بكذا ، ونهيتني عن كذا ، والمرئي لا يعرف ذلك ، ولا يشعر به ، لأن المرئي الذي حل في قلب الرائي هو المثال العلمي المطابق للعيني ، كما يرى الرائي في المرآة أو الماء الشخص الموجود في الخارج ، فهو المقصود ، وبعض المرئيين في المنام قد يدري بأنه رئي في المنام ويكاشف بذلك الرائي كما قد يكاشفه بأمور أخرى ، لا لأنه نفسه حل فيه .
والرؤيا إذا كانت صادقة كان ذلك القول والعمل مناسبا لحال المرئي ، مما هو عادته يقوله ويفعله بنفسه ، فمثل للرائي مثاله قائلا له وفاعلا ؛ ليعلم أنه نفسه يقوله ويفعله فينتفع بذلك الرائي ، كما يحكى للإنسان قول غيره وعمله ليعرف بذلك نفس القول والعمل المحكي ، فإن كثيرا من الأشياء لا يعرفه الناس أو أكثرهم إلا بالمثل المضروب له ، إما في اليقظة وإما في المنام ، مع العلم بأن عين هذا ليس عين هذا ، [ ص: 347 ] ومن توهم أنه إذا رأى شخصا في منامه بأن ذاته نفسها حلت فيه دل على جهله ؛ فإن المرئي كثيرا ما يكون حيا وهو لا يشعر بمن رآه ، ذلك لا روحه تشعر ولا جسمه ، فلا يتوهم أن ذات روحه تمثلت في صورته الجسمية للنائم ، بل الممثل في نفس الرائي مثال مطابق له وجسمه وروحه حيث هما .
ثم الرؤيا قد تكون من الله ، فتكون حقا ، وقد تكون من الشيطان ، كما ثبت تقسيمها إلى هذين في الأحاديث الصحيحة ، والشيطان كما قد يتمثل في المنام بصورة شخص فقد يتمثل أيضا في اليقظة بصورة شخص يراه كثير من الناس ، يضل بذلك من لم يكن من أهل العلم والإيمان ، كما يجري لكثير من مشركي الهند وغيرهم إذا مات ميتهم يرونه قد جاء بعد ذلك وقضى ديونا ، ورد ودائع وأخبرهم بأمور عن موتاهم ، وإنما هو شيطان تصور في صورته ، وقد يأتيهم في صورة من يعظمونه من الصالحين ، ويقول : أنا فلان ، وإنما هو شيطان .
وقد يقوم شيخ من الشيوخ ، ويخلف موضعه شخصا في صورته يسمونه روحانية الشيخ ورفيقه ، وهو جني تصور في صورته ، وهذا [ ص: 348 ] يقع لكثير من الرهبان وغير الرهبان من المنتسبين إلى الإسلام ، وقد يرى أحدهم في اليقظة من يقول له : أنا الخليل ، أو أنا موسى ، أو أنا المسيح ، أو محمد ، أو أنا فلان لبعض الصحابة ، أو الحواريين ، ويراه طائرا في الهواء ، وإنما يكون ذلك من الشياطين ، ولا تكون تلك الصورة مثل صورة ذلك الشخص .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي من رآني في المنام فقد رآني حقا ، فرؤيته في المنام حق ، وأما في اليقظة فلا يرى بالعين هو ، ولا أحد من الموتى ، مع أن كثيرا من الناس قد يرى في اليقظة من يظنه نبيا من الأنبياء ، إما عند قبره وإما عند غير قبره .
وقد يرى القبر انشق ، وخرج منه صورة إنسان ، فيظن أن الميت نفسه خرج من قبره ، أو أن روحه تجسدت وخرجت من القبر ، وإنما ذلك جني تصور في صورته ليضل ذلك الرائي ، فإن الروح ليست مما [ ص: 349 ] تكون تحت التراب وينشق عنها التراب ، فإنها وإن كانت قد تتصل بالبدن ، فلا يحتاج في ذلك إلى شق التراب ، والبدن لم ينشق عنه التراب ، وإنما ذلك تخييل من الشيطان ، وقد جرى مثل هذا لكثير من المنتسبين إلى المسلمين ، وأهل الكتاب والمشركين .
ويظن كثير من الناس أن هذا من كرامات عباد الله الصالحين ، ويكون من ، كما قد بسط الكلام في هذا الباب في غير هذا الكتاب ، مثل الفرقان بين أولياء الرحمن ، وأولياء الشيطان وغير ذلك . إضلال الشياطين