[ ص: 356 ] قالوا : وقال أرميا النبي عن ولادته في ذلك الزمان : يقوم لداود ابن ، وهو ضوء النور يملك الملك ، ويعلم ويفهم ويقيم الحق والعدل في الأرض ، ويخلص من آمن به من اليهود ، من بني إسرائيل وغيرهم ويبقى بيت المقدس بغير مقاتل ، ويسمى الإله ، وأما قوله : ابن لداود لأن مريم كانت من نسل داود ، ولأجل ذلك قال : ( ويقوم لداود ابن ) .
والجواب أن يقال : قد قال فيه : ويخلص من آمن به من اليهود ، ومن بني إسرائيل . وهو كما فسرنا به التخليص الذي نقله عن عزرا الكاهن .
وأما قوله : واسمه الإله فهذا يدل على أنه ليس هو الله رب العالمين ، وإنما لفظ الإله اسم سمي به كما سمي موسى إلها [ ص: 357 ] لفرعون عندهم في التوراة ، إذ لو كان هو الله رب العالمين لكان أجل من أن يقال ويسمى الإله ، فإن الله تبارك وتعالى لا يعرف بمثل هذا ، ويقال فيه : إن الله يسمى الإله ، ولقال : يأتي الله بنفسه فيظهر . وقال : يملك الملك ، ورب العالمين ما زال ولا يزال مالكا للملك سبحانه .
وأيضا فإنه قال : يقوم لداود ابن هو ضوء النور ، ومعلوم أن الابن الذي من نسل داود الذي اسم أمه مريم هو الناسوت فقط ، فإن اللاهوت ليس هو من نسل البشر ، وقد تبين أن هذا الناسوت الذي هو ابن داود ، يسمى الإله ، فعلم أن هذا اسم للناسوت المخلوق لا للإله الخالق .
وأيضا فإنه قال : وهو ضوء النور لم يجعله النور نفسه ، ، بل جعله ضوء النور ، والله تعالى منور كل نور ، فكيف يكون هو ضوء النور ، والله تعالى قد سمى محمدا صلى الله عليه وسلم سراجا منيرا ، ولم يكن بذلك خالقا ، فكيف إذا سمي ضوء النور ؟
وأيضا فإنه لم يجعل القائم إلا ابن داود ، وابن داود مخلوق ، [ ص: 358 ] وأضاف الفعل إلى هذا المخلوق ، ولو كان هذا هو الله رب العالمين قد اتحد بالناسوت البشري لبين أرميا ، وغيره من الأنبياء ذلك بيانا قاطعا للعذر ، ولم يكتفوا بمثل هذه الألفاظ التي هي إما صريحة أو ظاهرة في نقيض ذلك ، أو مجملة لا تدل على ذلك ، فإنه من المعلوم أن إخبارهم بإتيان نبي من الأنبياء أمر معتاد ممكن ، ومع هذا يذكرون فيه من البشارات والدلائل الواضحة ما يزيل الشبهة .
وأما فهو : إما ممتنع غير ممكن كما يقوله أكثر العقلاء من بني آدم ، ويقولون : يعلم بصريح العقل أن هذا ممتنع . الإخبار بمجيء الرب نفسه وحلوله أو اتحاده بناسوت بشري
وإما ممكن كما يقوله بعض الناس ، وحينئذ فإمكانه خفي على أكثر العقلاء وهو أمر غير معتاد ، وإتيان الرب بنفسه أعظم من إتيان كل رسول ونبي ، لا سيما إذا كان إتيانه باتحاده ببشر لم يظهر على يديه من الآيات ما يختص بالإلهية ، بل لم يظهر على يديه إلا ما ظهر على يد غيره من الأنبياء ما هو مثله أو أعظم منه ، والله تعالى لما كان يكلم موسى ولم يكن موسى يراه ، ولا يتحد لا بموسى ولا بغيره ، ومع هذا فقد أظهر من الآيات على ذلك ، وعلى نبوة موسى ما لم يظهر مثله ولا قريب منه على يد المسيح .
فلو كان هو بذاته متحدا بناسوت بشري لكان الأنبياء يخبرون بذلك إخبارا صريحا بينا لا يحتمل التأويلات ، ولكان الرب يظهر على ذلك من الآيات ما لم يظهر على يد رسول ولا نبي ، فكيف والأنبياء [ ص: 359 ] لم ينطقوا في ذلك بلفظ صريح ، بل النصوص الصريحة تدل على أن المسيح مخلوق ولم تأت آية على خلاف ذلك ، بل إنما تدل الآيات على نبوة المسيح .