فيقال : مثل هذا قد ذكر عندهم عن إبراهيم وغيره من الأنبياء أن الله تجلى له ، واستعلن له ، وترايا له ، ونحو هذه العبارات ، ولم يدل ذلك على حلوله فيه واتحاده به .
[ ص: 365 ] وكذلك إتيانه ، وهو لم يقل : إني أحل في المسيح وأتحد به ، وإنما قال عن بيت صهيون : ( آتيك وأحل فيك ) كما قال مثل ذلك عندهم في غير هذا ولم يدل على حلوله في بشر ، وكذلك قوله : ( وتعرفين أني أنا الله القوي الساكن فيك ) لم يرد بهذا اللفظ حلوله في المسيح ، فإن المسيح لم يسكن بيت المقدس وهو قوي ، بل كان يدخلها وهو مغلوب مقهور حتى أخذ وصلب أو شبهه ، والله سبحانه إذا حصلت معرفته والإيمان به في القلوب اطمأنت وسكنت .
وكان بيت المقدس لما ظهر فيه دين المسيح عليه السلام بعد رفعه حصل فيه من الإيمان بالله ومعرفته ما لم يكن قبل ذلك .
وجماع هذا أن النبوات المتقدمة والكتب الإلهية كالتوراة والإنجيل والزبور ، وسائر نبوات الأنبياء لم تخص المسيح بشيء يقتضي اختصاصه باتحاد اللاهوت به وحلوله فيه كما يقوله النصارى ، بل لم تخصه إلا بما خصه الله به على لسان محمد في قول الله تعالى :
إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه .
فكتب الأنبياء المتقدمة ، وسائر النبوات موافقة لما أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم يصدق بعضها بعضا ، وسائر ما تستدل به [ ص: 366 ] النصارى على إلهيته من كلام الأنبياء قد يوجد مثل تلك الكلمات في حق غير المسيح ، فتخصيص المسيح بالإلهية ودون غيره باطل ، وذلك مثل اسم الابن والمسيح ومثل حلول روح القدس فيه ، ومثل تسميته إلها ، ومثل ظهور الرب أو حلوله فيه أو سكونه فيه أو في مكانه .
فهذه الكلمات وما أشبهها موجودة في حق غير المسيح عندهم ، ولم يكونوا بذلك آلهة .
ولكن قد يحتجون بهذه الكلمات . القائلون بالحلول والاتحاد في حق جميع الأنبياء والصالحين
وهذا المذهب باطل باتفاق المسلمين واليهود والنصارى ، وهو باطل في نفسه عقلا ونقلا ، وإن كان طوائف من أهل الإلحاد والبدع المنتسبين إلى المسلمين واليهود والنصارى تقول به ، فهؤلاء اشتبه عليهم ما يحل في قلوب العارفين به ، من أهل الإيمان به ومعرفته ونوره وهداه والروح منه ، وما يعبر عنه بالمثل الأعلى ، والمثال العلمي .
وظنوا أن ذلك ذات الرب ، كمن يظن أن نفس اللفظ بالاسم هو المعنى الذي في القلب ، أو نفس الخط هو نفس اللفظ ، ومن يظن أن ذات المحبوب حلت في ذات المحب واتحدت به ، أو نفس المعروف المعلوم حل في ذات العالم العارف به واتحد به ، مع العلم اليقيني أن نفس المحبوب المعلوم باين عن ذات المحب روحه وبدنه ، لم يحل واحد منها في ذات المحب .
وقد قال الله تعالى :
[ ص: 367 ] وله المثل الأعلى في السماوات والأرض .
وقال تعالى :
وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله .
وقال تعالى :
وهو الله في السماوات وفي الأرض .
فالمؤمنون يعرفون الله ويحبونه ويعبدونه ويذكرونه ويقال هو في قلوبهم ، والمراد معرفته ومحبته وعبادته ، وهو المثل العلمي ليس المراد نفس ذاته ، كما يقول الإنسان لغيره : أنت في قلبي ، وما زلت في قلبي وبين عيني ، ويقال :
ساكن في القلب يعمره لست أنساه فأذكره
ويقال :إن بيتا أنت ساكنه غير محتاج إلى السرج
ومن عجبي أني أحن إليهم وأسأل عنهم من لقيت وهم معي
[ ص: 368 ] وتطلبهم عيني وهم في سوادها ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
مثالك في عيني وذكرك في فمي ومثواك في قلبي فأين تغيب ؟
الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح .
قال : مثل نوره في قلوب المؤمنين . أبي بن كعب
ثم قال : نور على نور .
ثم قال : في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه .
فذكر سبحانه نوره في قلوب المؤمنين ، ثم ذكر ذلك في بيوته ، كذلك ما ذكر في الكتب الأولى .
وأما الإتيان والمجيء والتجلي فعندهم في التوراة يقول الله لموسى : إني آتي إليك في غلظ الغمام لكي يسمع القوم مخاطبتي لك ، ثم قوله : اجمع سبعين رجلا من شيوخ بني إسرائيل ، وخذهم [ ص: 369 ] إلى خباء العرب يقفون معك حتى أخاطبهم .
وفي السفر الرابع لما كلم مريم وهارون في موسى : ( حينئذ تجلى الله بعمود الغمام قائما على باب الخباء ونادى يا هارون ويا مريم ، فخرجا كلاهما فقال : اسمعا كلامي إني أنا الله فيما بينكم ) .
وفي الفصل الثالث عشر : ( إن أصعدت هؤلاء من بينهم بقدرتك ، فيقولون لأهل هذه الأرض الذين سمعوا أنك الله فيما بين هؤلاء القوم يرونه عينا بعين وغمامك يقيم عليهم ، وبعمود غمام يسير بين أيديهم نهارا وبعمود نار ليلا ) .
وفي السفر الخامس قول موسى لبني إسرائيل : ( لا تهابوهم ولا تخافوهم ، لأن الله ربكم السائر بين أيديكم هو يحارب عنكم ) .
وفي موضع آخر قال موسى : ( إن الشعب هو شعبك ، فقال : يا موسى أنا أمضي أمامك فارتحل ، فقال : إن لم تمض أنت معنا وإلا فلا تصعدنا من هاهنا ، وكيف أعلم أنا وهذا الشعب أني وجدت أمامك نعمة كذا بعلمك إلا بسيرك معنا ؟ ) .
[ ص: 370 ] وفي المزمور الرابع من الزبور عندهم يقول : ( وليفرح المتكلون عليك إلى الأبد ويبتهجون ويحل فيهم ويفتخرون ) فأخبر أنه يحل في جميع الصديقين ، أي معرفته ومحبته ، فإنهم متفقون على أن ذات الله لم تحل في الصديقين ، وكذلك في رسائل يوحنا الإنجيلي : ( إذا أخفى بعضنا بعضا نعلم أن الله يلبث فينا ) أي محبته ، ونظائره كثيرة .