الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 440 ] قالوا : وأما قولنا في الله : ثلاثة أقانيم إله واحد ، فهو أن الله نطق به وأوضحه في التوراة ، وفي كتب الأنبياء ، ومن ذلك ما جاء في السفر الأول من التوراة يقول - حيث شاء الله أن يخلق آدم - قال الله : ( لنخلق خلقا على شبهنا ومثالنا ) ، فمن هو شبهه ومثاله سوى كلمته وروحه ؟

وحين خالف آدم وعصى ربه قال الله تعالى : ( ها آدم قد صار كواحد منا ) ، وهو قول واضح أن الله قال هذا القول لابنه وروح قدسه .

والجواب : أن استدلالهم بهذا على قولهم في المسيح هو في غاية الفساد والضلال ، فإن لفظ التوراة : ( نصنع آدم كصورتنا وشبهنا ) ، وبعضهم يترجمه ( نخلق بشرا على صورتنا وشبهنا ) .

والمعنى واحد ، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أن الله خلق آدم على صورته ) ، وفي رواية : ( على صورة [ ص: 441 ] الرحمن ) فقولهم : من هو شبهه ومثاله سوى كلمته وروحه - من أبطل الباطل من وجوه :

أحدها : أن الله ليس كمثله شيء ، وليس لفظ النص : على مثالنا .

الثاني : أنه لا اختصاص للمسيح بما ذكر على تقدير حق وباطل ، فإنه بأي تفسير فسر قوله : ( سنخلق بشرا على صورتنا شبهنا ) لم يخص ذلكالمسيح .

الثالث : أنهم إن أرادوا بالكلمة التي هي شبهه ومثاله صفته التي هي العلم القائم به ، والحياة القائمة به مثلا ، فالصفة لا تكون مثلا للموصوف ، إذ الموصوف هو الذات القائمة بنفسها ، والصفة قائمة بها ، والقائم بغيره لا يكون مثل القائم بنفسه .

وإن أرادوا به شيئا غير صفاته ، مثل بدن المسيح وروحه ، [ ص: 442 ] فذلك مخلوق له ، والمخلوق لا يكون مثل الخالق ، وكذلك روح القدس - سواء أريد به ملك أو هدى وتأييد - ليس مثلا لله عز وجل .

الرابع : أنه قال ( لنخلق خلقا ) أو قال : ( نخلق آدم أو نخلق بشرا على صورتنا وشبهنا ) وعلى ما قالوه : ( نخلق خلقا على شبهنا ومثالنا ) ، وبكل حال ، فهذا وكلمة الله وروحه عندهم غير مخلوق فامتنع أن يكون المراد بذلك كلمته وروحه .

وإن قالوا : أراد بذلك الناسوت المسيحي ، فلا فرق بين ذلك الناسوت وسائر النواسيت ، مع أن المراد بذلك النص آدم أبو البشر باتفاق الأمم ، والناسوت نفسه ليس هو كلمة الله وروحه .

الخامس : أنه لو قدر أنه أريد بذلك أن كلام الله يشبه ذاته من بعض الوجوه ، مثل كونه قديما بقدمه - لم يكن في ذلك ما يدل على الأقانيم الثلاثة .

وكذلك اللفظ المعروف وهو قوله : ( سنخلق بشرا على صورتنا شبهنا ) فهذا لا يدل على التثليث بوجه من الوجوه ، وشبه الشيء بالشيء يكون لمشابهته له من بعض الوجوه ، وذلك لا يقتضي التماثل الذي يوجب أن يشتركا فيما يجب ويجوز ويمتنع ، وإذا قيل هذا حي [ ص: 443 ] عليم قدير ، وهذا حي عليم قدير ، فتشابها في مسمى الحي والعليم والقدير - لم يوجب ذلك أن يكون هذا المسمى مماثلا لهذا المسمى فيما يجب ويجوز ويمتنع .

، بل هنا ثلاثة أشياء :

أحدها : القدر المشترك ، الذي تشابها فيه ، وهو معنى كلي لا يختص به أحدهما ، ولا يوجد كليا عاما مشتركا إلا في علم العالم .

والثاني : ما يختص به هذا ، كما يختص الرب بما يقوم به من الحياة والعلم والقدرة .

والثالث : ما يختص به ( ذاك ، كما يختص به ) العبد من الحياة والعلم والمقدرة ، فما اختص به الرب عز وجل لا يشركه فيه العبد ، ولا يجوز عليه شيء من النقائص التي تجوز على صفات العبد ، وما يختص به العبد لا يشركه فيه الرب ، ولا يستحق شيئا من صفات الكمال التي يختص بها الرب عز وجل .

وأما القدر المشترك كالمعنى الكلي الثابت في ذهن الإنسان فهذا لا يستلزم خصائص الخالق ولا خصائص المخلوق ، فالاشتراك فيه لا محذور فيه .

[ ص: 444 ] ولفظ التوراة فيه : ( سنخلق بشرا على صورتنا يشبهنا ) ، لم يقل : على مثالنا وهو كقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ( لا يقولن أحدكم : قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك ، فإن الله تعالى خلق آدم على صورته ) فلم يذكر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كموسى ، ومحمد صلى الله عليه وسلم - إلا لفظة شبه دون لفظ مثل .

وقد تنازع الناس : هل لفظ الشبه والمثل بمعنى واحد أو معنيين ، على قولين :

أحدهما : أنهما بمعنى واحد ، وأن ما دل عليه لفظ المثل مطلقا ومقيدا يدل عليه لفظ الشبه ، وهذا قول طائفة من النظار .

والثاني : أن معناها مختلف عند الإطلاق لغة وشرعا وعقلا ، وإن كان مع التقيد والقرينة يراد بأحدهما ما يراد بالآخر ، وهذا قول أكثر الناس ، وهذا الاختلاف مبني على مسألة عقلية ، وهو أنه هل يجوز أن يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه ، وللناس في ذلك قولان : فمن منع أن يشبهه من وجه دون وجه قال : المثل والشبه واحد ، ومن قال : إنه قد يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه - فرق بينهما عند الإطلاق ، [ ص: 445 ] وهذا قول جمهور الناس ، فإن العقل يعلم أن الأعراض مثل الألوان تشتبه في كونها ألوانا ، مع أن السواد ليس مثل البياض ، وكذلك الأجسام والجواهر عند جمهور العقلاء تشتبه في مسمى الجسم والجوهر ، وإن كانت حقائقها ليست متماثلة ، فليست حقيقة الماء مماثلة لحقيقة التراب ، ولا حقيقة النبات مماثلة لحقيقة الحيوان ، ولا حقيقة النار مماثلة لحقيقة الماء وإن اشتركا في أن كلا منهما جوهر وجسم وقائم بنفسه .

وأيضا فمعلوم في اللغة أنه يقال : هذا يشبه هذا ، وفيه شبه من هذا ، إذا أشبهه من بعض الوجوه ، وإن كان مخالفا له في الحقيقة .

قال الله تعالى : وأتوا به متشابها .

وقال :

منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله .

وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم .

[ ص: 446 ] فوصف القولين بالتماثل ، والقلوب بالتشابه لا بالتماثل ؛ فإن القلوب وإن اشتركت في هذا القول فهي مختلفة لا متماثلة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : الحلال بين والحرام بين ، وبين ذلك أمور متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس ) .

فدل على أنه يعلمها بعض الناس ، وهي في نفس الأمر ليست متماثلة ، بل بعضها حرام وبعضها حلال .

والوجه السادس : أن قوله : ( سنخلق خلقا على شبهنا ) لا يتناول صفته ، مثل كلامه وحياته القائمة به ، فإن ذلك ليس بمخلوق ، وحينئذ فهذا لا يتناول اللاهوت الذي يزعمون أنه تدرع بالناسوت ، فإن اللاهوت ليس بمخلوق .

وأما الناسوت فهو كسائر نواسيت الناس لا اختصاص له ، بأن يكون شبيها لله دون سائر النواسيت ، فقوله : فمن هو الشبه المخلوق سوى كلمته وروحه ؟ - باطل على كل تقدير .

وأما قوله : ( ها آدم قد صار كواحد منا ) ، وقولهم : إن هذا قول [ ص: 447 ] واضح أن الله قال هذا القول لابنه روح قدسه ، فإن أرادوا أن يجعل الذي صار كواحد منا لابنه ، كان هذا من أبطل الكلام ؛ فإن هذا الابن إن كان المراد به الكلمة التي هي صفة لله ، فتلك لم يخلق لها أمر يصير كواحد منهم ، وتلك لا تسمى آدم ولا سماها الله ابنا .

وإن أريد به ناسوت المسيح فذاك مخلوق مبتدع يمتنع أن يكون كالقديم الأزلي ، وأيضا فإن الله قال عن آدم ، وآدم ليس هو المسيح ، ولا يجوز أن يقال : آدم ويراد به المسيح ، كما لا يجوز أن يقال : عصى آدم ويراد به المسيح ، وأيضا فإنه قال : ( ها آدم قد صار كواحد منا ) هذه إشارة إلى أمر قد كان في الزمن الماضي ، ليس هو إشارة إلى ما سيكون بعد ذلك بألوف من السنين ، وإن أرادوا أن الله قال لابنه الذي هو كلمته وروحه ، وهذا هو مرادهم ، كقولهم : إنه قال هذا القول يستهزئ بآدم ، أي أنه طلب أن يصير كواحد منا ، صار هكذا عريانا مفتضحا ، ويكون شبهتهم قوله : ( منا ) لأنه عبر بصيغة الجمع ، ( وكذلك إن أرادوا هذا بقوله ( نخلق بشرا على صورتنا وشبهنا ) فاحتجوا على التثليث بصيغة الجمع .

[ ص: 448 ] وهذا مما احتج به نصارى نجران على النبي صلى الله عليه وسلم فاحتجوا بقوله تعالى ( إنا ) ، ( نحن ) قالوا : وهذا يدل على أنهم ثلاثة ، وكان هذا من المتشابه الذي اتبعوه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، وتركوا المحكم المبين الذي لا يحتمل إلا واحدا ، فإن الله في جميع كتبه الإلهية قد بين أنه إله واحد ، وأنه لا شريك له ، ولا مثل له .

وقوله : ( إنا ) ، ( نحن ) لفظ يقع في جميع اللغات على من كان له شركاء وأمثال ، وعلى الواحد المطاع العظيم الذي له أعوان يطيعونه ، وإن لم يكونوا شركاء ولا نظراء ، والله تعالى خلق كل ما سواه ، فيمتنع أن يكون له شريك أو مثل ، والملائكة وسائر العالمين جنوده تعالى .

قال تعالى :

وما يعلم جنود ربك إلا هو .

وقال تعالى :

ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما .

فإذا كان الواحد من الملوك يقول : إنا ، ونحن ، ولا يريدون أنهم ثلاثة ملوك فمالك الملك رب العالمين ، رب كل شيء ومليكه هو أحق بأن يقول : إنا ، ونحن ، مع أنه ليس له شريك ، ولا مثيل ، بل له جنود السماوات والأرض .

[ ص: 449 ] وأيضا فمن المعلوم أن آدم لم يطلب أن يصير مثل الله ولا مثل صفاته كعلمه وحياته ، وأيضا فليس في ظاهر اللفظ أن الله خاطب صفاته بتلك .

وأيضا فالصفة القائمة بالموصوف لا تخاطب ولا تخاطب ، وإنما يخاطب الموصوف ، ولم يكن قد خلق آدم ناسوت المسيح ، ولا غيره من البشر حتى يخاطبه ، فعلم أن دعواهم أن الله خاطب صفته التي سموها ابنا وروح قدس - كلام باطل ، بل قد يخاطب ملائكته .

وآدم عليه السلام أراد ما أطمعه الشيطان من الخلد والملك ، كما قال تعالى :

فوسوس إليه الشيطان قال ياآدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى .

التالي السابق


الخدمات العلمية