الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 477 ] قالوا : وقد علمنا أنه لا يلزمنا إذا قلنا هذا عبادة ثلاثة آلهة ، بل إله واحد ، كما لا يلزمنا إذا قلنا : الإنسان ونطقه وروحه ثلاثة أناسي ، بل إنسان واحد ، ولا إذا قلنا : لهيب النار وضوء النار وحرارة النار ثلاثة نيران ، ولا إذا قلنا : قرص الشمس ، وضوء الشمس وشعاع الشمس ثلاثة شموس ، وإذا كان هذا رأينا في الله تقدست أسماؤه ، وجلت آلاؤه فلا لوم علينا ، ولا ذنب لنا إذ لم نهمل ما تسلمناه ولا نرفض ما تقلدناه ونتبع ما سواه ، ( ولا سيما أن لنا هذه الشهادات البينات والدلائل الواضحات من الكتاب الذي أتى به هذا الرجل ) .

والجواب من وجوه :

أحدها أنكم صرحتم بتعدد الآلهة والأرباب في عقيدة إيمانكم وفي استدلالكم وغير ذلك من كلامكم ، فليس ذلك شيئا [ ص: 478 ] ألزمكم الناس به ، بل أنتم تصرحون بذلك ، كما تقدم من قولكم : نؤمن بإله واحد ، أب ، ضابط الكل ، خالق ما يرى وما لا يرى ، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور ، نور من نور إله حق من إله حق ، من جوهر أبيه يولد ، غير مخلوق ، مساو الأب في الجوهر ، وبروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب الذي مع الأب ، مسجود له وممجد .

فهذا تصريح بالثلاثة أرباب ، وأن الابن إله حق من إله حق ، ومع تصريحكم بثلاثة أرباب وتصريحكم بأن هذا إله حق من إله حق ، تقولون : إن ذلك إله واحد ، وهذا تصريح بتعدد الآلهة مع القول بإله واحد .

ولو لم تذكروا ما يقتضي أنه جوهر آخر ، لأمكن أن يحمل كلامكم على عطف الصفة ، لكن يكون كلامكم أعظم كفرا ، فتكونون قد جعلتم المسيح هو نفس الإله الواحد الأب ، خالق ما يرى وما لا يرى ، وهذا أعظم من كفركم مع أن هذا حقيقة قولكم ، فإنكم تقولون : المسيح هو الله ، وتقولون : هو ابن الله ( كما ذكر الله القولين عنكم في كلامه ، وكفركم بذلك ، وليس هذا قول طائفة وهذا قول [ ص: 479 ] طائفة ) كما يقوله بعض الناس ، بل القولان جميعا يقولهما فرق النصارى كالنسطورية واليعقوبية والملكية ونحوهم ، وهذا أيضا من تناقضكم فإنه إن كان هو الله لم يكن هو ابن الله ، سواء عبر بالابن عن الصفة أو غيرها فإن الأب هو الذات ، والذات ليست هي الصفة ، وإن عنى بالابن الذات مع صفة الكلام ، كما تفسرون الأقنوم بذلك - فهذه الذات متصفة مع ذلك بالحياة ، والكلام - سواء عنوا به العلم أو البيان مع العلم - هو مع الحياة قائم بالأب ، والصفة ليست عين الموصوف ، بل ولا يعبر عنها بأنها ابن الموصوف ، ولا عبر بذلك أحد من الأنبياء عليهم السلام .

والمقصود أنهم لم يريدوا بقولهم : وبرب واحد يسوع المسيح - عطف الصفة ، وأن هذا هو الأب كما قال : إله إبراهيم ، وإله إسحاق ، وإله يعقوب فهذا إله واحد ، والعطف لتغاير الصفة ، فلو كان المراد بالابن نفس الأب لكان هذا خلاف مذهبهم ، ويكونون قد جعلوه إلها من نفسه فقالوا : إلهان ، بل ثلاثة ، وهو واحد .

[ ص: 480 ] فهذا لو أرادوه لكان أعظم في الكفر ، بل قالوا : وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور ، نور من نور ، إله حق من إله حق ، من جوهر أبيه ، مولود غير مخلوق . فصرحوا بأنه رب ، وأنه إله حق من إله حق ، وصرحوا بإله ثان مع الإله الأول .

وقالوا مع ذلك : إنه مولود من الأب قبل كل الدهور ، وإنه مولود غير مخلوق ، فامتنع أن يريدوا بذلك الناسوت ، فإن الناسوت مخلوق .

وهم يقولون : إن الكلمة هي المتولدة من الأب . والكلمة صفة المتكلم وقائمة به ، والكلام ليس برب ولا بإله ، بل هو كلام الرب الإله ، كما أن سائر كلام الله كالتوراة والإنجيل والقرآن ليس هو الرب والإله ، ثم قلتم : مساو الأب في الجوهر فاقتضى هذا أن يكون المولود الذي هو الكلمة جوهرا ، وأنه مساو الأب في الجوهر ، والمساوى ليس هو المساوي .

وهذا يقتضي إثبات جوهر ثان مساو الجوهر الأول ، وهو [ ص: 481 ] صريح بإثبات إلهين ، ويقولون مع ذلك : إنه إله واحد جوهر واحد ، ولا يقال الجوهر مع العلم الذي يعبرون عنه بالأقنوم مساو الجوهر الذي هو الذات ؛ فإن الجوهر هو الذات ، وليس هنا جوهران ، أحدهما مجرد عن العلم ، والآخر متصف به ، حتى يقال : إن أحدهما مساو للآخر ، بل الرب تعالى هو الذات المتصفة بالعلم ، فإن كان الأب هو الذات المجردة ، فالابن أكمل من الأب ، وهو الذات مع العلم ، والأب بعض الابن .

وكذلك يلزمهم أن يكون الابن هو بعض روح القدس ؛ فإنهم في أمانتهم جعلوا روح القدس هو الرب المحيي ، والرب المحيي هو الذات المتصفة بالحياة ، والذات المجردة بعض ذلك ، فإن كان الأب هو الذات المجردة فالابن بعض روح القدس .

ثم قلتم في أقنوم روح القدس الذي جعلتموه الرب المحيي - : إنه منبثق من الأب مسجود له ممجد ، ناطق في الأنبياء ، فإن كان المنبثق ربا حيا ، فهذا إثبات إله ثالث ، وقد جعلتم الذات الحية منبثقة من الذات المجردة ، وفي كل منهما من الكفر والتناقض ما لا يخفى .

ثم جعلتم هذا الثالث مسجودا له ، والمسجود له هو الإله المعبود ، وهذا تصريح بالسجود لإله ثالث مع ما فيه من التناقض ، ثم جعلتموه ناطقا بالأنبياء ، وهذا تصريح بحلول هذا الأقنوم الثالث [ ص: 482 ] بجميع الأنبياء ، فيلزمكم أن تجعلوا كل نبي مركبا من لاهوت وناسوت ، وأنه إله تام وإنسان تام ، كما قلتم في المسيح إذ لا فرق بين حلول الكلمة وحلول روح القدس ، كلاهما أقنوم .

وأيضا فيمتنع حلول إحدى الصفتين دون الأخرى ، وحلول الصفة دون الذات ، فيلزم أن يكون الإله الحي الناطق بأقانيمه الثلاثة حالا في كل نبي ، ويكون كل نبي هو رب العالمين ، ويقال مع ذلك : هو ابنه ، وفي هذا من الكفر الكبير والتناقض العظيم ما لا يخفى ، وهذا لازم للنصارى لزوما لا محيد عنه ، فإن ما ثبت للشيء ثبت لنظيره ، ولا يجوز التفريق بين المتماثلين ، وليس لهم أن يقولوا : الحلول أو الاتحاد في المسيح ثبت بالنص ، ولا نص في غيره ، لوجوه :

أحدها : أن النصوص لم تدل على شيء من ذلك ، كما قد تبين .

الثاني : أن في غير المسيح من النصوص ما شابه النصوص الواردة فيه ، كلفظ الابن ، ولفظ حلول روح القدس فيه ، ونحو ذلك .

الثالث : أن الدليل لا ينعكس فلا يلزم من عدم الدليل المعين عدم المدلول ، وليس كل ما علمه الله وأكرم به أنبياءه أعلم به الخلق بنص صريح ، بل من جملة الدلالات دلالة الالتزام .

وإذا ثبت الحلول والاتحاد في أحد النبيين بمعنى مشترك بينه وبين النبي الآخر - وجب التسوية بين المتماثلين ، كما إذا ثبت أن النبي [ ص: 483 ] يجب تصديقه لأنه نبي .

ويكفر من كذبه لأنه نبي ، فيلزم من ذلك أنه يجب تصديق كل نبي وتكفير من كذبه .

الرابع : هب أنه لا دليل على ثبوت ذلك في الغير ، فيلزم تجويز ذلك في الغير ؛ إذ لا دليل على انتفائه ، كما يقولون : إن ذلك كان ثابتا في المسيح قبل إظهاره الآيات على قولهم ، وحينئذ فيلزمهم أن يجوزوا في كل نبي أن يكون الله قد جعله إلها تاما وإنسانا تاما كالمسيح وإن لم يعلم ذلك .

الخامس : أنه لو لم يقع ذلك ، لكنه جائز عندهم ، إذ لا فرق في قدرة الله بين اتحاده بالمسيح واتحاده بسائر الآدميين ، فيلزمهم تجويز أن يجعل الله كل إنسان إلها تاما وإنسانا تاما ، ويكون كل إنسان مركبا من لاهوت وناسوت ، وقد تقرب إلى هذا اللازم الباطل من قال بأن أرواح بني آدم من ذات الله ، وأنها لاهوت قديم أزلي ، فيجعلون نصف كل آدمي لاهوتا ، ونصفه ناسوتا ، وهؤلاء يلزمهم من المحالات أكثر مما يلزم النصارى من بعض الوجوه ، والمحالات التي تلزم النصارى أكثر ، من بعض الوجوه .

الوجه الثاني : قولهم : ولا يلزمنا إذا قلنا هذا عبادة ثلاثة آلهة بل [ ص: 484 ] إله واحد ، كما لا يلزمنا إذا قلنا : الإنسان وروحه ونطقه ثلاثة أناسي ، ولا إذا قلنا : النار وحرها وضوءها ثلاث نيران ، ولا إذا قلنا : الشمس وضوءها وشعاعها ثلاث شموس .

فيقال : هذا تمثيل باطل لوجوه :

أحدها : أن حر النار وضوءها القائم بها ليس نارا من نار ، ولا جوهرا من جوهر ، ولا هو مساوي النار والشمس في الجوهر ، وكذلك نطق الإنسان ، ليس هو إنسانا من إنسان ، ولا هو مساو الإنسان في الجوهر ، وكذلك الشمس وضوءها القائم بها وشعاعها القائم بها - ليس شمسا ولا جوهرا قائما بنفسه ، وأنتم قلتم : إله حق من إله حق ، فقلتم في الأمانة : ( نؤمن بإله واحد أب ضابط الكل ، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور ، نور من نور ، إله حق من إله حق ، من جوهر أبيه ، مساوي الأب في الجوهر ) ، وقلتم في روح القدس : ( إنه رب ممجد مسجود له ) فأثبتم ثلاثة أرباب .

والثاني : أن الضوء في الشمس والنار يراد به نفس الضوء القائم بها ، ويراد به الشعاع القائم بالأرض والجدران ، وهذا مباين لها ليس قائما بها ، ولفظ النور يعبر به عن هذا وهذا ، وكلاهما صفة قائمة بغيرها وعرض ، وقد يراد بلفظ النور نفس النار ونفس الشمس والقمر ، [ ص: 485 ] فيكون النور جوهرا قائما بنفسه ، وإذا كان كذلك فهم جعلوا الأب ربا جوهرا قائما بنفسه ، والابن أيضا ربا جوهرا قائما بنفسه ، وروح القدس ربا جوهرا قائما بنفسه .

ومعلوم أن ضوء النار والشمس وحرارتها ليس كل منهما شمسا ونارا قائما بنفسها ، ولا جوهرا قائما بنفسه ، فلو أثبتوا حياة الله وعلمه أو كلامه صفتين قائمتين به ، ولم يجعلوا هذا ربا جوهرا قائما بنفسه ، وهذا ربا جوهرا قائما بنفسه - لكان قولهم حقا وتمثيلهم مطابقا ، ولكنهم لم يقتصروا على مجرد جعلهما صفتين لله حتى جعلوا كلا منهما ربا وجوهرا وخالقا ، بل صرحوا بأن المسيح الذي يزعمون اتحاد أحدهما به إلها واحدا وخالقا ، فلو كان نفس كلمة الله وعلمه لم يكن إلها خالقا ، فإن كلام الله وعلمه ليس إلها خالقا ، فكيف والمسيح مخلوق بكلمة الله ، ليس هو نفس كلمة الله ؟

الوجه الثالث : أن قولهم : الشمس وشعاعها وضوءها ، إن أرادوا بالضوء ما يقوم بها ، وبالشعاع ما ينفصل عنها - فليس هذا مثال النار وحرها ولهبها ؛ إذ كلاهما يقوم بها ، وعلى هذا فالشمس لم تقم بها إلا صفة واحدة لا صفتين ، فلا يكون التمثيل بها مطابقا ، وإن أرادوا بالضوء والشعاع كلاهما ؛ ما يقوم بها ، أو كلاهما ؛ ما ينفصل عنها - فكلاهما صفة [ ص: 486 ] واحدة ليس هما صفتان كالحياة والعلم ، فعلم أن تمثيلهم بالشمس خطأ ، وبعضهم يقول : الشمس وحرها وضوءها ، كما يقولون مثل ذلك في النار .

وهذا التمثيل أصح لو ثبت أن في جرم الشمس حرارة تقوم بها ، فإن هذا لم يقم عليه دليل ، وكثير من العقلاء ينكره ، ويزعم أن جرم الشمس والقمر والكواكب لا توصف بحرارة ولا برودة ، وهو قول أرسطو وأتباعه .

وأما تمثيلهم بروح الإنسان ونطقه ، فإن أرادوا بالروح حياته ، فليس هذا هو مفهوم الروح ، وإن أرادوا بالروح التي تفارق بدنه بالموت وتسمى النفس الناطقة - فهذه جوهر قائم بنفسه ليس عرضا من أعراضه ، وحينئذ فيلزم أن تكون روح الله جوهرا قائما بنفسه مع جوهر آخر نظير بدن الإنسان ، ويكون الرب سبحانه وتعالى مركبا من بدن وروح كالإنسان ، وليس هذا قول أهل الملل ، لا المسلمين ولا اليهود ولا النصارى ، بل هو كفر عندهم ، فتبين أن تمثيلهم بالثلاثة باطل .

والوجه الرابع : أن التمثيل إما أن يقع بصفات الشمس والنار والإنسان ، أو النفس القائمة بهذه الجواهر ، أو بما هو مباين لذلك ، كالضوء [ ص: 487 ] الذي يقع على الأرض والحيطان والهواء ، وغير ذلك من الأجسام إذا قابلت الشمس أو النار أو الإنسان أو النفس القائمة بهذه الجواهر ، فإن أريد هذا فهذا شعاع منعكس ، وضوء منقلب ، وليس صفة قائمة بالشمس والنار .

وإذا أريد بما حل في المسيح هذا ، وهذا يسمى نورا وروحا ويسمى نور الله كما قال تعالى :

الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء .

وقال تعالى :

وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا .

فأخبرنا أنه جعل الروح الذي أوحاه نورا يهدي به من يشاء .

[ ص: 488 ] وقال تعالى :

أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه .

وقال تعالى :

فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه .

وقال تعالى :

ويجعل لكم نورا تمشون به .

وقال تعالى :

ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور .

، فإذا أريد ما حل في المسيح من الروح والكلمة بهذا المعنى فلا اختصاص للمسيح بذلك ، فإن هذا يحل في جميع الأنبياء والمؤمنين ، وإن كانوا متفاضلين فيه بحسب درجاتهم ، وليس هذا الحال فيهم نفس صفة الله القائمة به ، وإن كان ذلك حاصلا عنها ومسببا عنها ، لكن ليس هو نفس صفة الله ، وإن كان من الناس من يقول : بل صفة الله التي اتصف بها حلت في العبد ، فهذا القول خطأ ، فإن صفة الموصوف القائمة به يمتنع قيامها بعينها بغيره ، ولكن الإنسان إذا تعلم علم [ ص: 489 ] غيره ، وبلغ كلام غيره يقال : هذا علم فلان وكلامه ؛ لأن هذا الثاني بلغه عنه ، والمقصود هو علم الأول وكلامه ، مع العلم بأن نفس ما قام بذات الأول ليس هو عين ما قام بذات الثاني ، وإن كان قد يكون مثله ، وقد يكون الأول هو المقصود بالثاني ، مثل من بلغ كلام غيره ، فكلام المبلغ هو المقصود بالتبليغ .

وصفات المبلغ - كحركته وصوته - التي بها يحصل التبليغ ؛ ليس هو نفس المقصود ، وإذا قيل هذا كلام المبلغ عنه ، فالإشارة إلى حقيقة الكلام المقصود بالتبليغ ، لا إلى ما يختص به المبلغ من أفعاله وصفاته ، ولهذا شبه الناس من قال بحلول صفة الرب في عبده بالنصارى القائلين بالحلول وهو شبيه بهم من بعض الوجوه .

لكن النصارى لا يقولون بحلول صفة مجردة ، بل بحلول الأقنوم الذي هو ذات متصفة بالصفة ، ويقولون : إن المسيح خالق ورازق ، وهو خالق آدم ومريم ، وهو ولد آدم ومريم ، وهو خالق لهما بلاهوته ابن لهما بناسوته .

ويقولون : هو ابن الله ، وهو الله بلاهوته ، ويقولون أيضا باللاهوت والناسوت لأجل الاتحاد ، والله كفرهم بقولهم : إن الله هو المسيح ابن مريم ونحو ذلك .

وإن أرادوا بتمثيلهم بصفات الشمس والنار والنفس التمثيل بنفس ما يقوم بالشمس والنار والنفس من الضوء والحياة والنطق ، وجعلوا ما يثبتونه من الأب والابن وروح القدس - صفات الله ، كما أن هذه [ ص: 490 ] صفات لهذه المخلوقات .

قيل لهم أولا : لم يعبر أحد من الأنبياء عليهم السلام عن صفات الله باسم الأب والابن وروح القدس ، فليس لكم إذا وجدتم في كلام المسيح عليه السلام ، أو غيره من الأنبياء ذكر الإيمان بالأب والابن وروح القدس - أن تقولوا : مرادهم بذلك صفة الله التي هي الكلمة والعلم ، ولا حياة الله ، إذ كانوا لم يريدوا هذا المعنى بهذا اللفظ ، وإنما أرادوا باسم الابن وروح القدس ما هو بائن عن الله عز وجل .

والبائن عن الله ليس صفة لله ، فضلا عن أن يكون هو الخالق ، فضلا عن أن يكون البشر المتحد به خالقا ، فقد ضللتم ضلالا بعد ضلال ، ضلالا حيث جعلتم مراد المسيح وغيره بالابن وروح القدس - صفة الرب ، ثم ضلالا ثانيا حيث جعلتم الصفة خالقا وربا ، ثم ضلالا ثالثا حيث جعلتم الصفة تتحد ببشر هو عيسى ، ويسمى المسيح ويكون هو الخالق رب العالمين فضللتم في الحلول ضلالا مثلثا بعد ضلالكم في التثليث أيضا ضلالات أخر ، حيث أثبتم ثلاث صفات دون غيرها ، وجعلتموها جواهر أربابا ، ثم قلتم : إله واحد ، فضللتم ضلالا مثلثا في التثليث ، وضلالا مثلثا في الاتحاد .

وقيل لكم ثانيا : إذا جعلتم ذلك صفات لله ، كما أن الضوء والنطق والحرارة صفات لما تقوم بها - امتنع أن تحل بغيرها ، وامتنع مع [ ص: 491 ] الحلول أن تكون فاعلة فعل النار والشمس والنفس ، وأنتم جعلتم الكلمة والحياة حالة بغير الله ، وجعلتم ما يحل به إلها خالقا ، بل هو الإله الخالق ، ومعلوم أن أحدا من العقلاء لا يجعل ما يحصل فيه ضوء النار - نارا ، ولا ما يحصل فيه شعاع الشمس - شمسا ، ولا ما يحصل فيه نطق زيد وعلمه - هو نفس زيد ، فكان جعلكم المسيح هو الخالق للعالم - مخالفا لتمثيلكم .

وتبين بذلك أن ما ذكرتموه لا يطابقه شيء من الأمثلة ، إذ كان كاملا باطلا متناقضا يمتنع تحققه ، فلا تمثيل بشيء من الموجودات الثابتة المعلومة ، إلا إذا كان تمثيلا غير مطابق .

ولهذا يشبهون الحلول والاتحاد تارة بحلول الماء في الظرف ، وتارة بحلول النار في الحديد ، وتارة بالنفس والبدن ، وتارة يقولون بأنهما جوهر واحد اختلطا كاختلاط الماء واللبن ، وكل هذه الأمثال التي ضربوها لله أمثال باطلة ، فإن الماء في الظرف وغيره من الأوعية محتاج إلى وعائه ، لو انخرق وعاؤه لتبدد ، وهو محيط به ، ولا يتصف الظرف بشيء من صفات الماء ، والرب تعالى يمتنع أن يحتاج إلى شيء من مخلوقاته لا إلى العرش ، ولا إلى غيره ، أو يحيط به شيء من الموجودات ؛ إذ هو الظاهر ، فليس فوقه شيء .

كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، [ ص: 492 ] وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، فهو غني عن كل ما سواه ، وكل ما سواه فقير إليه ، ولهذا لم يكن ما وصف الله به نفسه مماثلا لصفات المخلوقين ، كما لم تكن ذاته كذوات المخلوقين ، فهو مستو على عرشه ، كما أخبرنا عن نفسه مع غناه عن العرش .

والمخلوق المستوي على السرير أو الفلك أو الدابة لو ذهب ما تحته لسقط ؛ لحاجته إليه ، والله غني عن كل ما سواه ، وهو الحامل بقدرته للعرش ولحملة العرش .

وفرق النصارى الثلاثة يقولون بالاتحاد ، فلا ينفعهم التمثيل بحلول الماء في الظرف ، ولو قدر أنهم قالوا بالحلول المجرد مع أن الرب لا يحتاج إلى الناسوت لا يحويه ولا يمسه ، بل كما خاطب موسى من الشجرة ، فهذا يوجب أن الناسوت لا يتصف بشيء من الإلهية كالشجرة ، [ ص: 493 ] ثم إنه معلوم بالضرورة أن الصوت الذي كان يسمع هو صوت الناسوت ، فالتمثيل بالشجرة أيضا باطل ، كما بسط في موضعه .

وأما الحديد والخشب وغيرهما إذا ألقي في النار فإنه يستحيل نارا لاتصاله بالنار ، لا أن النار الذي استحال إليها كانت موجودة فحلت به ، فهذا استحالة بلا حلول ، والنار الذي صارت في الحديد حادثة عن تلك النار ليست إياها ، ثم تلك الحديدة إذا طرقت وقع التطريق على النار ، وكذلك إذا ألقيت في الماء ، فلو كان هذا تمثيلا مطابقا لكان الضرب والصلب والإهانة وقع على اللاهوت ، وكان اللاهوت هو الذي يغتسل بالماء ، وهو الذي يأكل ويشرب ، وهذا من أعظم الكفر .

ويحكى عن بعض طائفة منهم كاليعقوبية أنه يقول بهذا الكفر ، وإن كان كثير منهم كالملكية والنسطورية ينكره ، فهو لازم لهم ، وكذلك إذا شبهوه بالنفس والبدن ، فإن النفس تتألم تألم البدن ، وتستحيل صفاتها بكونها في البدن ، وتكتسب عن البدن أخلاقا وصفات ، فلو كان هذا تمثيلا مطابقا لزم تألم اللاهوت بآلام البدن ، وأن يكون متألما بجوع البدن وعطشه وضربه وصلبه ، وأن يكون مستحيلا لما [ ص: 494 ] اكتسبه من صفات الناسوت الذي هو عندهم بمنزلة البدن للنفس ، وأما قولهم : إذ لم نهمل ما تسلمناه ، ولم نرفض ما تقلدناه ، فقولهم في ذلك بمنزلة قول اليهود للمسيح : إنا لا نهمل ما تسلمناه ، ولا نرفض ما تقلدناه من موسى عليه السلام .

وجواب الطائفتين من وجهين :

أحدهما : أنكم بدلتم وحرفتم الكتاب الذي أنزل إليكم ، والشرع الذي شرع لكم ، وتبديل المعاني والأحكام لا ريب فيه عند جميع عقلاء الأنام ، وما كان عليه اليهود بعد التبديل لم يكن هو الشرع الذي شرعه موسى عليه السلام ، وما كان عليه النصارى بعد التبديل لم يكن هو الشرع الذي شرعه المسيح عليه السلام .

والثاني : أنكم كذبتم بالكتاب الآخر ، والرسول الآخر الذي أرسل إليكم ، ومن كذب ما أنزل إليه من ربه ، والرسول الذي أرسل إليه - كان كافرا مستحقا لعذاب الدنيا والآخرة ، وإن كان قبل ذلك متبعا لشرع رسول ، وكتاب غير مبدل ، فكيف إذا كان قد بدل ما بدل من أحكامه ومعانيه ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية