الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
ومن هذا إخبار الأنبياء بأن الله يقول ويتكلم وينادي ويناجي ، وأنه قال كذا وتكلم بكذا ، ونادى موسى ونحو ذلك .

والمعروف في لغتهم ولغة سائر الأمم ، أن المتكلم من قام به الكلام ، وإن كان متكلما بقدرته ومشيئته ، لا يعرف في لغتهم أن المتكلم من أحدث كلاما منفصلا عنه ، ولا أن المتكلم من قام به الكلام بدون قدرته ومشيئته .

فليس لأحد - إذا جعل اسم المتكلم لمن يحدث كلاما بائنا عنه ، أو من قام به بدون قدرته ومشيئته - أن يحمل كلام الأنبياء على هذا .

بل المتكلم - عند الإطلاق - من تكلم بقدرته ومشيئته ، مع قيام الكلام به .

[ ص: 482 ] وهذا هو المعروف في لغة الأنبياء وسائر الأمم عند الإطلاق ، ونظائر هذا متعددة .

فمن فسر كلام الأنبياء بغير لغتهم المعروفة ، فهم ممن بدل كلامهم وحرفه ، والنصارى من هؤلاء .

وكذلك اسم العادل والظالم ونحوهما ، فإن المعروف من كلام الأنبياء وغيرهم أن العادل من قام به العدل وفعل العدل بمشيئته وقدرته .

والظالم من قام به الظلم ، وفعله بقدرته ومشيئته ، لا يسمون من لم يقم به الظلم ، ولكن قام بغيره ، لكون قد جعل ذلك فاعلا له ، ولا يسمون من لم يفعل الظلم - ولكن فعله غيره فيه - ظالما .

فمن جعل الظالم والكافر والفاسق من لم يفعل شيئا من ذلك ولكن فعله غيره فيه ، أو جعل الظالم من لم يقم به ظلم فعله ، ولكن جعل غيره متصفا به ظالما - فقد خرج عن المعروف من كلام الأنبياء وغيرهم .

وأبلغ من ذلك أن المحدث والحادث في لغة جميع الأمم ، لا يسمى به إلا ما كان بعد أن لم يكن ، والمخلوق أبلغ من المحدث والحادث

فليس لأحد - إذا أحدث اصطلاحا سمى به القديم الأزلي الذي لم يزل موجودا ، ولكنه زعم أنه معلول لغيره ، فسماه محدثا بهذا الاعتبار - أن يقول : أنا أحمل كلام الأنبياء الذي أخبروا به ، أن السماوات والأرض [ ص: 483 ] وما بينهما مخلوق أو مصنوع أو معقول أو محدث أو نحو ذلك من العبارات - على أن مرادهم بذلك أنه معلول ، مع كونه قديما أزليا لم يزل .

وأما لفظ " القديم " فهو في اللغة المشهورة التي خاطبنا بها الأنبياء ، يراد به ما كان متقدما على غيره تقدما زمانيا ، سواء سبقه عدم أو لم يسبقه ، كما قال تعالى : حتى عاد كالعرجون القديم وقال تعالى : تالله إنك لفي ضلالك القديم وقال " الخليل " : أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين

فلهذا كان القديم الأزلي الذي لم يزل موجودا ، ولم يسبقه عدم - أحق باسم القديم من غيره .

وليس لأحد أن يجعل القديم والمتقدم اسما لما قارن غيره في الزمان لزعمه أنه متقدم عليه بالعلة ، ويقول : إنه متقدم على غيره وسابق له بهذا الاعتبار ، وإن ذلك المعلول متأخر عنه بهذا الاعتبار ، ثم يحمل ما جاء من كلام الأنبياء وأتباع الأنبياء وعموم الخلق على هذا الاصطلاح لو كان حقا ، فكيف إذا كان باطلا .

[ ص: 484 ] وما ذكره من التقدم والسبق والتأخر بغير الزمان ، أمر غير موجود ولا معقول ولا يعرف في الوجود من فعل شيئا ، وكان علة فاعلة له إلا وهو متقدم عليه سابق له ، ليس مقارنا له في الزمان ألبتة ، بل متقدم عليه تقدما زمانيا .

وكل من يعرف أنه سبب أو علة فاعلة ، فإنه متقدم على مسببه ومعلوله ، لكن قد يكون متصلا به ليس بينهما زمان آخر .

فيقال : ليس هذا متأخرا عن هذا ; أي هو متصل به ليس بينهما فصل .

ويقال : ليس ذلك متقدما على هذا ; أي ليس بينهما زمان ، بل هو متصل به ، إذ قد يراد بلفظ التقدم هذا ، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( الجنازة متبوعة ، وليست بتابعة ، ليس منها من تقدمها ) ; أي من كان قد تقدمها ، حتى لم يكن قريبا منها ، لم يكن تابعا لها ، كما جاء في الحديث الآخر : ( الراكب خلف الجنازة ، والماشي أمامها ووراءها ، وعن يمينها ويسارها ، قريبا منها ) رواه أبو داود وغيره ، وهو أبين حديث [ ص: 485 ] روي في هذا الباب في هذا الحكم ، ومنه قوله تعالى : ولا الليل سابق النهار أي لا يتقدم عليه ، بحيث يكون بينهما انفصال ، بل كل منهما متصل بالآخر .

والمقصود هنا أن معرفة اللغة التي خاطبنا بها الأنبياء وحمل كلامهم عليها - أمر واجب متعين ، ومن سلك غير هذا المسلك ، فقد حرف كلامهم عن مواضعه ، وكذب عليهم وافترى .

ومثل هذا التحريف والتبديل قد اتفق المسلمون واليهود والنصارى على أنه وقع فيه خلق كثير من أهل الكتب الثلاثة ، وأن التوراة والإنجيل حرفا بهذا الاعتبار ، وكذلك القرآن حرفه أهل الإلحاد والبدع بهذا الاعتبار .

فأهل الكتاب نقلوا عن الأنبياء أنهم تكلموا بلفظ الأب والابن ومرادهم - عندهم - بالأب : الرب ، وبالابن : المصطفى المختار المحبوب .

ولم ينقل أحد منهم عن الأنبياء أنهم سموا شيئا من صفات الله ابنا ، ولا قالوا عن شيء من صفاته : إنه تولد عنه ، ولا إنه مولود له .

فإذا وجد في كلام المسيح - عليه السلام - أنه قال : ( عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس ) ثم فسروا الابن بصفة الله [ ص: 486 ] القديمة الأزلية ، كان هذا كذبا بينا على المسيح ، حيث لم يكن في لغته أن لفظ الابن يراد به صفة الله القديمة الأزلية .

وكذلك إذا لم يكن في كلام الأنبياء أن حياة الله تسمى روح القدس ، وإنما يريدون بروح القدس ما ينزله الله - تبارك وتعالى - على الأنبياء والصالحين ويؤيدهم ، كان تفسير قول المسيح : " روح القدس " : إنه أراد حياة الله - كذبا على المسيح .

وهذا من بعض الوجوه أفسد من قول بعض المتفلسفة : إن العقول والنفوس والأفلاك معلولة له متولدة عنه ، لازمة له أزلا وأبدا ، وإن كان هذا أيضا باطلا في صريح العقل ، كما هو كفر بما أخبرت به الأنبياء ، كما قد بسط في موضع آخر ، فإنه لا يصدر شيء عن فاعل الأشياء بعد شيء لا يتصور أن يكون المفعول مقارنا للفاعل لا يتأخر عنه ، ولا يكون التولد إلا عن أصلين .

والواحد من كل وجه الذي ليس له صفة ثبوتية ، لا وجود له ، ولو كان له وجود لم يصدر عنه وحده شيء ، كما قد بسط الكلام على ذلك في مواضع أخر .

ومما يوضح ذلك ، أن خواص النصارى وعلماءهم - مع تجويزهم أن يقال : إن المسيح ابن الله - يلزمهم أن تكون مريم صاحبة الله وامرأته ، كما قال ذلك من يغلو منهم ، ومنهم من يجعل مريم إلها مع الله ، كما جعل المسيح إلها .

فإن قالوا بذلك ، جعلوا لله صاحبة وولدا ، وجعلوا المسيح ابن [ ص: 487 ] مريم وأمه إلهين من دون الله ، كما فعل ذلك من فعله منهم .

فإنهم يعبدون مريم ويدعونها بما يدعون به الله - سبحانه - والمسيح ، ويجعلونها إلها كما يجعلون المسيح إلها ، فيقولون : يا والدة الإله ، اغفري لنا وارحمينا ، ونحو ذلك ، فيطلبون منها ما يطلبونه من الله - عز وجل - .

ومنهم من يقول عن مريم : إنها صاحبة الله - سبحانه وتعالى - .

وبيان لزوم ذلك أن المسيح - عندهم - إنسان تام وإله تام ، ناسوت ولاهوت ، فناسوته من مريم ، ولاهوته الكلمة القديمة الأزلية ، وهي الخالق عندهم .

فالمسيح بين أصلين ، ناسوت ولاهوت ، فإذا كان الأب هو الله - عندهم - والكلمة المولودة عن الأب ابن الله ، فمعلوم أن اللاهوت لما التحم بالناسوت ليصير منهما المسيح ازدوج به وقارنه ، وهذا معنى الزوجية .

فكما أنهم قالوا : إن الولادة عقلية لا حسية ، فكذلك الازدواج والنكاح عقلي لا حسي ، فإن اللاهوت - على قولهم - ازدوج بناسوت مريم ونكحها نكاحا عقليا ، وخلق المسيح من هذا و هذا .

وهم يقولون في الأمانة : إن المسيح تجسد من مريم ومن روح القدس .

فإن فسروا روح القدس بجبريل - كما يقوله المسلمون - فهو [ ص: 488 ] الحق ، وبطل قولهم لكنهم يقولون : روح القدس هو الأقنوم الثالث ، كما يقولون في الكلمة وهو اللاهوت عندهم .

فهم قد ذكروا أنه تجسد من الناسوت واللاهوت ، فيلزمهم على هذا أن يكون المسيح هو الابن ، وهو روح القدس ، فيكون أقنومين ، لا أقنوما واحدا ، وقد تقدم تناقضهم في هذا .

والمقصود هنا ، أنهم إذا قالوا : إن الرب أو بعض صفاته اتحد بما خلق من مريم ، فلا بد أن يحصل له اتصال بمريم قبل اتصاله بما خلق منها ، وذلك هو معنى النكاح والازدواج .

وعند جمهور النصارى أن مريم ولدت اللاهوت كما ولدت الناسوت ، وهي أم اللاهوت ، ويقولون في دعائهم : يا والدة الإله .

واللاهوت الذي ولدته مريم هو - عندهم - رب العالمين ، واللاهوت اتحد بالناسوت عندهم ، من حين خلق الناسوت في بطن مريم ، لم يحدث بعد الولادة .

فإذا جاز أن يكون لرب العالمين عندهم أم ولدته بوجه من الوجوه ، فإمكان أن يكون له صاحبة وزوجة أولى وأحرى ، وليس في ذلك ما يحيله العقل والشرع إلا وهو لكونها أما للاهوت أشد إحالة .

فإن جاز أن يكون للاهوت أم والأم أصل ، فلأن يكون له صاحبة هي زوجة ونظير - أقرب وأولى ، فإن من المعلوم أن ولد ذلك الشيء ، وهو المتفرع المتولد عنه ، أنقص بالنسبة إليه من نظيره .

فإذا قالوا : إن لرب العالمين ولدا اتحد بالناسوت هو نظيره المساوي له في الجوهر ، وقالوا : إن الناسوت أم هذا المسيح الذي [ ص: 489 ] هو الله وهو ابن الله ، وقالوا : إن الناسوت مريم ، ولد اللاهوت ، كما ولد الناسوت ، ولم يكن هذا عيبا ينزه الرب عنه ، فلأن يجعلوا له أم هذا الولد الذي حبلت به واتحد به اللاهوت وهو منها ، وولدت اللاهوت - صاحبة وزوجة للأب ، أولى وأحرى ، وإلا فكيف تلد ابنه الذي هو اللاهوت ولا تكون صاحبته وامرأته ؟

وهم يقولون : نحن سمينا علمه مولودا عنه ; لكونه تولد عنه تولد الكلمة عن العقل ، وهذا الولد اتحد بالناسوت فسمينا المجموع ولدا .

وبهذا يفرقون بين كون المسيح ابنا وغيره من الأنبياء يسمى ابنا .

فإنهم يقولون : هؤلاء أبناء بالوضع ، والمسيح ابن بالطبع ; أي أولئك سموا أبناء بمشيئة الرب وقدرته ; لأنه اصطفاهم ، والكلمة التي جعلوها متحدة بالمسيح ، هي عندهم متولدة عن الله تولدا قديما أزليا ، لا يتعلق بمشيئته وقدرته ، ولهذا قالوا : مولود غير مصنوع ، فإن القديم الأزلي - مع كونه قائما بذاته - لا يكون مصنوعا عند أحد من العقلاء ، ولا القائلين بقدم العالم .

فإذا كانت الكلمة اتحدت بالمسيح المخلوق من مريم والتحمت به ، فإذا قيل - مع ذلك - : إن القديم مس المحدث أو لاصقه أو باشره ، كان أيسر من هذا كله .

والمسيح ولد ولادة حادثة عندهم ، غير الولادة القديمة التي للكلمة ، فيلزم أن تكون مريم قد صارت زوجة وامرأة ، بل نكحت نكاحا [ ص: 490 ] حادثا يناسب تلك الولادة المحدثة ، قال تعالى : أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ولهذا كان الحلول أسهل من الاتحاد .

فمن قال : إنه حل في جسد المسيح وماسه وباشره ، كما يحل الماء في اللبن ، كان أهون ممن يقول : إنه اتحد به والتحم به .

فإذا قيل : إن مريم امرأة القديم وصاحبته وزوجته ، كان ما في هذا من إثبات مباشرته لها ومماسته لها واتصاله بها .

ومهما قدر من اتصال الزوج بزوجته ، أهون مما قالوه من اتحاد القديم بالمحدث ، ومصيره إياه ، إما جوهرا واحدا ، وإما شخصا واحدا ، وإما مشيئة واحدة .

ولهذا كان كل عاقل يعلم أن النكاح الحسي أسهل من الولادة الحسية .

فالذكر من الحيوان إذا نكح الأنثى ، فإنما مس الذكر للأنثى ، لم تصر الأنثى متولدة عنه . فإذا جوزوا أن يكون للرب القديم الأزلي ما يتولد عنه ويتحد به ، وهو محدث مخلوق ، فلأن يكون له ما يمسه أولى وأحرى .

[ ص: 491 ] وإذا قالوا : إن المسيح إنما كان ابنا ; لأن الكلمة القديمة التي هي ابن ، اتحدت به قبل ، فقد يسمى الناسوت الذي اتحد به القديم ابنا عندكم ، باسم القديم وجعلتموه إلها خالقا ، فما المانع من جعل أم ذلك الناسوت الذي جعلتموه ابن الله ، صاحبة لله وزوجة ، باعتبار أن القديم الأزلي حصل منه ومنها ما هو ابن القديم الأزلي ؟

الوجه الخامس عشر : أن يقال : لفظ الابن وروح القدس ، قد جاء في حق غير المسيح - عندكم - حتى الحواريين عندكم يقولون : إن المسيح قال لهم : ( إن الله أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم ) ، ويقولون : إن روح القدس تحل فيهم .

وفيما عندكم من التوراة أن الرب قال لموسى : ( اذهب إلى فرعون ، فقل له : يقول لك الرب : إسرائيل ابني بكري ، أرسله يعبدني ، فإن أبيت أن ترسل ابني بكري ، قتلت ابنك بكرك . فلما لم يرسل فرعون بني إسرائيل كما قال الله ، قتل الله أبكار فرعون وقومه من بكر فرعون الجالس على السرير ، إلى الأول من أولاد الآدميين ، إلى ولد الحيوان إليهم . )

فهذه التوراة تسمي بني إسرائيل كلهم أبناء الله وأبكاره ، وتسمي [ ص: 492 ] أبناء أهل مصر أبناء فرعون ، فتوسع بتسمية سخال الحيوان أولاد المالك للحيوان .

وفي مزامير داود يقول : ( أنت ابني ، سلني أعطك ) . وفي الإنجيل يقول عن المسيح : ( أنا ذاهب إلى أبي وأبيكم ، وإلهي وإلهكم ) ، وقال : ( إذا صليتم فقولوا : يا أبانا الذي في السماء ، قدوس اسمك ، افعل بنا كذا وكذا ) .

ويقولون عن القديسين : إن روح القدس يحل فيهم ، وكذلك حلت في داود وغيره من الأنبياء ، بل عندهم : إن الله يحل في الصديقين كلهم .

[ ص: 493 ] فإن كان الابن وروح القدس ، يقتضي اتحاد اللاهوت بالناسوت ، وجب أن يكون كل من الحواريين لاهوتا وناسوتا ، وكذلك الأنبياء ، فيكون النبي لاهوتا وناسوتا ; لأنه قد سمي عندكم ابن الله ، ونطقت فيه روح القدس ، لا سيما وأنتم قلتم في الأمانة : إنه روح ممجد مسجود له ، ناطق في الأنبياء .

فإن كان هذا يوجب حلول اللاهوت في الناسوت أو اتحاده ، لزم أن يكون غير المسيح من الأنبياء ، بل والحواريين ، بل وأبناء إسرائيل - لاهوتا وناسوتا ، إذ كان الذي جعلتموه اللاهوت حل بغير المسيح واتحد به ، أو سكن فيه ، أو احتجب به ، أو ما قلتم من الألفاظ التي استدللتم بها على أن اللاهوت حل في المسيح ، كلفظ الابن وروح القدس - موجود عندكم في غير حق المسيح .

والمعجزات التي احتججتم بها للمسيح ، قد وجدت لغير المسيح .

ولو قدر أن المسيح أفضل من بعض أولئك ، فلا ريب أن المسيح - عليه السلام - أفضل من جمهور الأنبياء ، أفضل من داود وسليمان وأصحاب النبوات الموجودة عندكم ، وأفضل من الحواريين .

لكن مزيد الفضل يقتضي الفضيلة في النبوة والرسالة ، كفضيلة إبراهيم وموسى ومحمد - صلوات الله عليهم وسلامه - ، وذلك [ ص: 494 ] لا يقتضي خروجه عن جنس الرسل ، كما قال تعالى : ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون وقال تعالى : وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة .

وجماع هذا الجواب : أن ما يوصف به المسيح عندهم من كونه ابن الله ، وكون الله حل فيه ، أو ظهر أو سكن ، وكون روح القدس أو روح الله حلت فيه ، وكونه مسيحا - كل ذلك موجود عندهم في حق غير المسيح .

فليس للمسيح اختصاص بشيء من هذه الألفاظ ، وإنما يوجد اختصاصه بلفظ الكلمة ، وكونه تجسد من روح القدس ، وهذا هو الذي خصه به القرآن ، فإن الله قال : [ ص: 495 ] إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه .

وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه - أدخله الله الجنة على ما كان من عمل ) فهذا الذي خصه به القرآن ، هو الذي خصته الكتب المتقدمة ، إذ كان القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه .

وأما سائر ما يوصف به ويدعون اختصاصه به من كونه ابنا لله وكونه مسيحا ، فغيره أيضا في كتب الله يسمى ابنا لله ومسيحا ، ولذلك ما يذكر من الألفاظ التي يحتجون بها على الحلول ، مثل كون الرب ظهر فيه أو حل أو سكن ، فإن هذه الألفاظ موجودة عندهم في حق غير المسيح بخلاف لفظ الاتحاد ، فإنه لا يوجد عندهم عن الأنبياء لا في حق المسيح ولا غيره ، كما لا يوجد عندهم عن الأنبياء لفظ [ ص: 496 ] " الأقانيم " ولا لفظ " التثليث " ولا " اللاهوت " و " الناسوت " ولا تسمية الله جوهرا ، بل هذا كله مما ابتدعوه ، كما ابتدعوا أيضا تسمية صفات الله ابنا وروح القدس ، فهم ابتدعوا ألفاظا لم ينطق بها الأنبياء ، أثبتوا لها معاني وابتدعوا استعمال ألفاظ الأنبياء في غير مرادهم ، وحملوا مرادهم عليها .

والألفاظ المتشابهة التي يحتجون بها على اتحاد اللاهوت بالناسوت موجودة - عندهم - في حق غير المسيح .

فليس للمسيح خاصة في كلام الأنبياء ، توجب أن يكون هو الله أو ابن الله ، وتلك الألفاظ قد عرف - باتفاقهم واتفاق المسلمين - ، أن المراد بها حلول الإيمان بالله ومعرفته وهداه ونوره ومثاله العلمي في قلوب عباده الصالحين ، كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع وقد تقدم .

ومن قال من ضلال المسلمين : ( إن الرب يتحد أو يحل في الأنبياء والأولياء ، وإن هذا من السر الذي لا يباح به ، فقوله من جنس قول النصارى في المسيح ، وهذا كثير في كلام كثير من المشايخ والمدعين للمعرفة والتحقيق والتوحيد ، فيجعلون توحيد العارفين أن يصير الموحد هو الموحد ، ومنهم من يقول : إن الله يحل في قلب العارف ويتكلم بلسانه ، كما يتكلم الجني على لسان المصروع ، ويقول الأول :


ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد [ ص: 497 ]     توحيد من ينطق عن نعته
عارية أبطلها الواحد     توحيده إياه توحيده
ونعت من ينعته لاحد



ومن هؤلاء من يقول : إن هذا هو السر الذي باح به الحلاج وغيره ، وهذا عندهم من الأسرار التي يكتمها العارفون ، فلا يبوحون بها إلا لخواصهم .

ومنهم من يقول : إنما قتل الحلاج ; لأنه باح بهذا السر وينشدون :


من باح بالسر كان القتل شيمته     بين الرجال ولم يؤخذ له ثار



وأمثال ذلك .

وهؤلاء في دعواهم الاتحاد والحلول بغير المسيح ، شر من النصارى .

فإن المسيح - صلوات الله عليه - أفضل من كل من ليس بنبي ، بل هو أفضل من جماهير الأنبياء والمرسلين .

فإذا كان من ادعى أن اللاهوت اتحد به كافرا ، فكيف بمن ادعى ذلك فيمن هو دونه ؟

وهذا الاتحاد الخاص غير الاتحاد والحلول العام لقول الذين يقولون إنه حال بذاته في كل مكان ، أو متحد بكل شيء .

[ ص: 498 ] وغلاة هؤلاء ومحققوهم يقولون : إنه عين الوجود ، والوجود واحد .

فيجعلون الوجود الخالق القديم الواجب ، هو عين وجود المخلوق المحدث الممكن .

وهؤلاء مثل ابن عربي الطائي ، وصاحبه الصدر القونوي ، وصاحبه العفيف التلمساني ، وابن سبعين ، وصاحبه الششتري ، وعبد الله البلياني وعامر البصري وطوائف غير هؤلاء .

وهؤلاء يقولون : إن النصارى إنما كفروا لأنهم خصوا ذلك بالمسيح .

[ ص: 499 ] وحقيقة قول هؤلاء هو جحد الخالق وتعطيله ، كما قال فرعون : وما رب العالمين وقال : ما علمت لكم من إله غيري

فإن فرعون ما كان ينكر هذا الوجود المشهود ، لكن ينكر أن له صانعا مباينا له خلقه ، وهؤلاء موافقون لفرعون في ذلك .

لكن فرعون أظهر الجحود والإنكار ، فلم يقل " الوجود المخلوق هو الخالق " .

وهؤلاء ظنوا أنهم يقرون بالخالق ، وأن الوجود المخلوق هو الخالق ، وقد بسط الكلام على هؤلاء في آخر هذا الكتاب .

وهؤلاء لهم شعر نظموا قصائد على مذهبهم ، كابن الفارض في قصيدته المسماة " بنظم السلوك " حيث يقول :



لها صلواتي بالمقام أقيمها     وأشهد فيها أنها لي صلت
كلانا مصل واحد ساجد إلى     حقيقته بالجمع في كل سجدة
[ ص: 500 ] وما كان لي صلى سواي ولم تكن     صلاتي لغيري في أدا كل ركعة

إلى أن قال :

وما زلت إياها وإياي لم تزل     ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت

وقوله :

إلي رسولا كنت مني مرسلا     وذاتي بآياتي علي استدلت
فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن     منادى أجابت من دعاني ولبت
وقد رفعت ياء المخاطب بيننا     وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي



إلى أمثال هذه الأبيات .

وكذلك ابن إسرائيل في شعره قطعة من هذا كقوله :

وما أنت غير الكون بل أنت عينه     ويفهم هذا السر من هو ذائق

والتلمساني الملقب بالعفيف ، كان من أفجر الناس ، وكان أحذق هؤلاء الملاحدة .

ولما قرئ عليه كتاب " فصوص الحكم " لابن عربي قيل له : هذا الكلام يخالف القرآن ، قال : القرآن كله شرك ، وإنما التوحيد في كلامنا .

[ ص: 501 ] فقيل له : إذا كان الوجود واحدا ، فلماذا تحرم علي أمي وتباح لي امرأتي ؟

فقال : الجميع عندنا حلال ، ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا : حرام ، فقلنا : حرام عليكم .

وكلام هؤلاء كله متناقض ينقض بعضه بعضا .

فإن قوله : ( هؤلاء المحجوبون ) وقوله : ( قلنا حرام عليكم ) ، يقتضي الفرق بينه وبين المحجوبين ، وبين المخاطب والمخاطب ، وهذا يناقض وحدة الوجود .

وإذا قالوا : ( هذه مظاهر للحق ومجال ) فإن كان الظاهر غير المظهر ، والمجلى غير المتجلي ، فقد ثبت التعدد ، وأن في الوجود اثنين ظاهرا ومظهرا ، وإن جعلوهما واحدا ، فقد بطل جوابهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية