الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 319 ] والقرآن - نفسه - قد بين من آيات نبوته وبراهين رسالته أنواعا متعددة مع اشتمال كل نوع على عدد من الآيات والبراهين ، مثال ذلك : إخباره لقومه بالغيب  الماضي الذي لا يمكن بشرا أن يعلمه إلا أن يكون نبيا ، أو يكون ممن تلقاه عن نبي ، وقومه يعلمون أنه لم يتعلم ذلك من بشر ، ولا من أهل الكتاب ، ولا غيرهم . وهذا نوعان :

منه : ما كان يسأله عنه المشركون وأهل الكتاب ; لينظر هل هو نبي أم لا ؟

وكان قومه يرسلون إلى أهل الكتاب ، البعيدين عنهم ، مثل من كان بالمدينة ، وغيرها من أهل الكتاب ، يطلبون منهم ما يسألونه عنه ، فيرسلون إليهم ليسألوه عن ذلك ، ويمتحنون بذلك هل هو نبي أم لا ؟

ومنه : ما كان الله يخبره به ابتداء ، ويجعله علما وآية لنبوته  ، وبرهانا لرسالته ، مع ما في ذكر هذه القصص من الاعتبار لأمور أخرى ، فكان كل من هذين النوعين دليلا وعبرة على نبوته ، من طريقين ، فكان دليلا وعبرة على نبوته من جهة إخباره بالغيب ، الذي لا يعلمه إلا نبي ، وكانت عبرة بما فيها من أحوال المؤمنين والكافرين التي توجب اتباع سبيل المؤمنين الذين اتبعوا مثله ، وتجنب سبيل الكافرين الذين خالفوا مثله ، وحكم الشيء حكم [ ص: 320 ] نظيره . فإذا كان من كان مثله ومثل من اتبعه سعيدا ، وحال من خالف مثله ومثل من اتبعه شقيا ، كان في هذا دلالة وعبرة توجب اتباعه ، وتنهى عن مخالفته ، وهذا - أيضا - دليل على نبوة من قبله من الأنبياء من وجهين : من جهة أنه أخبر بمثل ما أخبروا به ، من غير مواطأة بينهم وبينه ، ولا تشاعر ، لم يأخذوا عنه ، ولم يأخذ عنهم .

وكل منهما أخبر عن الله بأخبار مفصلة ، يمتنع الاتفاق عليها عادة إلا بتواطؤ ، فإذا لم يكن تواطؤ وتشاعر ، وامتنع اتفاق ذلك من غير مواطأة ، علم أن كلا من المخبرين صادق ، قال تعالى :

( لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين ) .

وقص قصته في السورة ، إلى أن قال :

( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) .

[ ص: 321 ] إلى قوله :

( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) .

وقال تعالى : ( ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا ) .

[ ص: 322 ] وقال :

( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) .

وقال :

( أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ) .

وقال تعالى لما قص قصة نوح من سورة هود ، وهي أطول [ ص: 323 ] ما قصه في قصة نوح :

( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين ) .

فذكر سبحانه أن هذا الذي أوحاه إليه من أنباء الغيب ، ما كان يعلمه هو ولا قومه من قبل هذا . فإذا لم يكن قومه يعلمون ذلك لا من أهل الكتاب ، ولا من غيرهم ، وهو لم يعاشر إلا قومه ، وقومه يعلمون ذلك منه ، ويعلمون أنهم لم يكونوا يعلمون ذلك ، ويعلمون - أيضا - أنه هو لم يكن تعلم ذلك ، وأنه لم يكن يعاشر غيرهم ، وهم لا يعلمون ذلك ، صار هذا حجة على قومه ، وعلى من بلغه خبر قومه ، ومثل ما أخبرهم عن قصة آدم ، وسجود الملائكة له ، وتزيين إبليس له حتى أكل من الشجرة ، وهبط هو وزوجه .

وأخبرهم عن قصة نوح ومكثه فيهم ألف سنة إلا خمسين [ ص: 324 ] عاما ، وهذا في التوراة الموجودة بأيدي أهل الكتاب : مقدار لبثه في قومه قبل الغرق وبعده .

وأخبرهم عن قصة الخليل  ، وما جرى له مع قومه ، وإلقائه في النار ، وذبح ولده ، ومجيء الملائكة إليه في صورة ضيفان ، وتبشيره بإسحاق ويعقوب ، وذهاب الملائكة إلى لوط ، وما جرى للوط مع قومه ، وإهلاك الله مدائن قوم لوط ، وقصة إسرائيل مع بنيه ; كقصة يوسف ، وما جرى له بمصر ، وقصة موسى مع فرعون  ، وتكليم الله إياه مرة بعد مرة ، وآياته كالعصا ، واليد البيضاء ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، وفلق البحر ، وتظليل الغمام على بني إسرائيل ، وإطعامهم المن والسلوى ، وانفجار الماء من الحجر اثنتي عشرة عينا لسقيهم وعبادتهم العجل ، وقتل بعضهم بعضا لما تاب الله عليهم ، وقصة البقرة ، ونتق الجبل فوقهم ، وقصة داود ، وقتله لجالوت ، وقصة الذين خرجوا [ ص: 325 ] من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ، فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم ، وقصة الذي أماته الله مائة عام ، ثم بعثه ، وغير ذلك من أحوال بني إسرائيل   .

إلى أن ذكر قصة زكريا وابنه يحيى ، وعيسى ابن مريم ، وأحوال المسيح وآياته ، ودعائه لقومه ، والآيات التي بعث بها ، وتفاصيل ذلك ، وذكر قصة أصحاب الكهف  ، وقصة ذي القرنين  ، وغير ذلك من قصص الأنبياء والصالحين والكفار مفصلة مبينة بأحسن بيان وأتم معرفة ، مع علم قومه الذين يعرفون أحواله من صغره إلى أن ادعى النبوة : أنه لم يتعلم هذا من بشر ، بل لم يجتمع هو بأحد من البشر يعرف ذلك ، ولا كان عندهم بمكة من يعرف ذلك ، لا يهودي ولا نصراني ، ولا غيرهم .

فكان هذا من أعظم الآيات والبراهين لقومه بأن هذا إنما أعلمه به وأنبأه به الله ، ومثل هذا الغيب لا يعلمه إلا نبي ، أو من أخذ عن نبي ، فإذا لم يكن هو أخذه عن نبي ، تعين أن يكون نبيا .

، ثم سائر أهل الأرض يعلمون أنه لم يتعلم ذلك من بشر ، من طرق :

أحدها : أن قومه المعادين له ، الذين هم من أحرص الناس على [ ص: 326 ] القدح في نبوته ، مع كمال علمهم - لو علموا أنه تعلم ذلك من بشر - لطعنوا عليه بذلك وأظهروه ، فإنهم - مع علمهم - بحاله يمتنع أن لا يعلموا ذلك لو كان ، ومع حرصهم على القدح فيه ، يمتنع أن لا يقدحوا فيه ، ويمتنع أن لا يظهر ذلك .

الثاني : أنه قد تواتر عن قومه أنهم كانوا يقولون : إنه لم يكن يجتمع به من يعلمه ذلك .

الثالث : أنه لو كانت هذه القصص المتنوعة قد تعلمها من أهل الكتاب - مع عداوته لهم - لكانوا يخبرون بذلك ، ويظهرونه ، ولو أظهروا ذلك لنقل ذلك وعرف ، فإن هذا من الحوادث التي تتوفر الهمم والدواعي على نقله .

الرابع : أنه حيث بعث كان الناس إما مشركا وإما كتابيا ، فلم يكن هناك أحد على الدين الذي دعا إليه ، وقد علم الناس بالتواتر أن المشركين - من قريش وغيرهم - لم يكونوا يعرفون هذه القصص ، ولو قدر أنهم كانوا يعرفونها فهم أول من دعاهم إلى دينه فعادوه وكذبوه ، فلو كان فيهم من علمه ، أو يعلم أنه تعلم من غيره لأظهر ذلك .

الخامس : أن مثل هذا لو كان ، فلا بد أن يعرفه - ولو خواص الناس - وكان في أصحابه الذين آمنوا به من يعرف ذلك ، وكان ذلك [ ص: 327 ] يشيع ، ولو تواصوا بكتمانه كما شاع ما كتم من أمر الدول الباطنية ، ولكان خواصه في الباطن يعلمون كذبه ، وكان علمهم بذلك يناقض تصديقه في الباطن كما عرف في مثل ذلك .

فكيف ، وكان أخص أصحابه وأعلمهم بحاله أعظمهم محبة وموالاة ؟ بخلاف حال من يبطن خلاف ما يظهر ، فإن خواص أصحابه لا يعظمونه في الباطن .

فإنه علم الناس أن قومه الذين كانوا معادين له غاية العداوة ، وكانوا يطلبون القدح في نبوته بكل طريق ، يعلمون أنه لم يكن عندهم بشر يعلمه مثل هذا ، وأنه لم يكن في قومه ولا بلده من يعرف هذا .

علم الناس ما علمه قومه أن هذا أنبأه به الله ، وكان هذا من أعلامه وآياته وبراهينه ، وهذا مما يبين الله في القرآن أنه من آياته ، وأنه حين أخبر قومه بهذا - مع تكذيبهم وفرط عداوتهم له - لم يمكن أحدا منهم أن يقول له : بل فينا من كان يعلم ذلك ، وأنت كنت تعلم ذلك ، وقد تعلمته منا أو من غيرنا . فكان إقرارهم بعدم علمه وعلمهم ، [ ص: 328 ] ومع فرط عداوتهم له ، آية بينة لجميع الأمم أنه لم يكن هو ولا هم يعلمون ذلك .

ولهذا لما كان بعضهم يفتري عليه فرية ظاهرة ، كانوا كلهم يعلمون كذبه ، وإذا اجتمعوا وتشاوروا في أمره يعرفون أن هذا كذب ظاهر عليه كما كان بعضهم يقول : إنه مجنون ، وبعضهم يقول : إنه كاهن ، وبعضهم يقول : إنه ساحر ، وبعضهم يقول : إنه تعلمه من بشر ، وبعضهم يقول : أضغاث أحلام .

فحكى الله أقوالهم ، مبينا لظهور كذب من قال ذلك ، وأنه قول ضال حائر ، قد بهره حال الرسول ، فحار ، فلم يدر ما يقول ، كما قال تعالى :

( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما ) .

[ ص: 329 ] فأخبر عمن قال ذلك ، وهم يعلمون أن هذا من أظهر الكذب ، فإن هذه القصص المذكورة في القرآن ، لم يكن بمكة من يعرفها ، فضلا عن أن يمليها كما قال :

( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك ) .

وقال :

( ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ) .

ولهذا قال :

( أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض ) .

فأخبر أن هذا من علم من يعلم السر ، إذ كان البشر لا يعلمون ذلك إلا من جهة أخبار الأنبياء ، وليس بمكة من يعلم ما أخبرت به الأنبياء .

، ثم ذكر ما اقترحوه فقال :

[ ص: 330 ]

( وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ) .

أمر بالنظر في كيفية ما ضربوه من الأمثال ، حيث شبهوه بمن يظهر الفرق بينه وبينه ظهورا لا يخفى على الناظر ; ولهذا قال :

( فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ) .

إذ كان ظاهرا أن هذا ضلال عن طريق الحق ، فلا يستطيع الضال عن طريق الحق إليه سبيلا .

وقال تعالى : ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ) .

[ ص: 331 ] فأخبر عما افتراه بعضهم ، من قوله : إنما يعلمه هذا القرآن بشر .

وكان بمكة مولى أعجمي لبعض قريش ، قيل : إنه مولى لبني الحضرمي ، والنبي لا يحسن أن يتكلم بلسان العجمي ، وذاك لا يحسن أن يتكلم بهذا الكلام العربي . فلما قالوا : إنه افترى [ ص: 332 ] هذا القرآن ، وأنه علمه إياه بشر قال تعالى :

( لسان الذي يلحدون ) .

أي يضيفون إليه هذا التعليم ، وينسبونه إليه ، وعبر عنه بلفظ الإلحاد ; لما فيه من الميل ، فقال : لسان هذا الشخص الذي قالوا إنه يعلمه القرآن ، لسان أعجمي ، وهم لم يمكنهم أن يضيفوا هذا التعليم إلى رجل عربي ، بل إلى هذا الأعجمي ; لكونه كان يجلس - أحيانا - إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك الأعجمي لا يمكنه التكلم بهذا الكلام العربي ، بل هو أعجمي ، ومحمد لا يعرف بالعجمية ، لكن غاية ذلك الأعجمي كعبد بني الحضرمي أن يعرف قليلا من كلام العرب الذي يحتاج إليه في العادة ، مثل الألفاظ التي يحتاج إليها في غالب الأوقات ; كلفظ الخبز والماء والسماء والأرض ، ولا يعرف أن يقرأ سورة واحدة من القرآن .

فبين سبحانه ظهور كذبهم فيما افتروه ، ولم يقل أحد منهم ما يمكن أن يكون شبهة من تعلمه أنباء الغيب ، من علماء أهل الكتاب ونحو ذلك ، وإنما قالوا ما ظهر بطلانه لكل أحد ، ولم ينقل عن [ ص: 333 ] أحد منهم أنه قال قولا يخفى بطلانه ، بل ما يظهر كذبه لكل أحد .

فتبين أنه لم يمكنهم أن يقولوا : إنه تعلم أخبار الغيوب من أحد . وهذه القصة : قصة نوح - لا سيما قصته في سورة هود كما تقدم - لا يعلمها إلا نبي ، أو من تلقاها عن نبي ، فإذا عرف أنه لم يتلقاها عن أحد ، علم أنه نبي ; ولهذا قال تعالى في آخرها :

( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك  ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين ) .

والقول في سائر القصص ، كالقول فيها .

وكما قال - في سورة يوسف - :

( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك  وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون ) .

وقال - في سورة آل عمران ، لما ذكر قصة زكريا ومريم - :

( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك  وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون ) .

وقال : - في قصة موسى - :

[ ص: 334 ] ( وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين   ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك ) الآية .

والإنسان إنما يعلم مثل هذا بمشاهدة أو خبر ، فنبه بقوله : ( وما كنت لديهم ) على أنه إنما علمت ذلك بإخبارنا وإيحائنا إليك وإعلامنا لك بذلك ، إذ كان معلوما عند كل من عرفه : أنه لم يسمع ذلك من بشر ، وأنه لم يكن هو ولا قومه يعلمون ذلك .

وقد قال تعالى :

( قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون ) .

بين بذلك أن تلاوته عليهم هذا الكتاب ، وإدراءهم ; أي إعلامهم به ، هو بمشيئة الله وقدرته لا من تلقاء نفسه ، كما قال تعالى :

[ ص: 335 ] ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به ) .

فبين أنه لبث فيهم عمرا من قبله ، وهو لا يتلو شيئا من ذلك ، ولا يعلمه ، ولا يعلمهم به ، فليس الأمر من جهته ، ولكن من جهة الله الذي لو شاء ما تلاه عليهم ولا أدراهم به ، وتلاوته عليهم وإدراؤهم به هو من الإعلام بالغيوب الذي لا يعلمها إلا نبي ، وبين أن ذلك من الإرسال الذي يحبه الله ويرضاه ، لا من الكوني الذي قدره ، وهو لا يحبه ، ولا يرضاه ؛ كإرسال الشياطين ، ولهذا كانوا يعرضون عليه أن يصير ملكا عليهم ، وأن يعطوه حتى يكون من أغناهم ، وأن يزوجوه ما شاء من نسائهم ، فيقول : " لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أدع هذا الأمر لم أستطع أن أدعه " ، وهذه الثلاث هي [ ص: 336 ] مطلوب النفوس من الدنيا ( السلطان والمال والنساء ) ، فيعرض عن قبول الدنيا التي هي غاية أماني طالبها ، ويبين أنه لا يقدر على أن يدع ما أمر به من تبليغ الرسالة .

وقال تعالى : ( وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا ) .

[ ص: 337 ] بين سبحانه أنهم كادوا أن يمنعوه بكل طريق ، فإن الإنسان إنما يتم عمله بإرادته وقدرته . فمع الإدارة الجازمة والقدرة التامة يجب وجود المقدور ، وإذا تعذر أحدهما امتنع ، فطلبوا تغيير إرادته ليركن إليهم فيغير ما أوحي إليه ، فعصمه الله وثبته .

، ثم طلبوا تعجيزه بأن يستفزوه ويخرجوه ، حتى يعجز عن تبليغ رسالة ربه ، ولو كان ذلك لعاجلهم الله بالعقوبة ، أسوة بمن تقدمه من الرسل ، فإن الله كان إذا أراد إهلاك أمة ، أخرج نبيها منها ثم أهلكها ، لا يهلكها وهو بين أظهرها ، كما قال تعالى :

( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) .

وهذا بعد قوله :

( وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) .

قال تعالى :

( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) .

[ ص: 338 ] فلما خرج من بينهم بالهجرة أتاهم الله بعذاب أليم يوم ( بدر ) وغيره ، فقوله :

( وإن كادوا ليفتنونك ) .

إشارة إلى سعيهم في إفساد إرادته .

وقوله :

( وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ) .

إشارة إلى سعيهم في تعجيزه .

وقال تعالى : ( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ) .

بين سبحانه من حاله ما يعلمه العامة والخاصة ، وهو معلوم لجميع قومه الذين شاهدوه ، متواتر عند من غاب عنه ، وبلغته أخباره من جميع الناس : أنه كان أميا لا يقرأ كتابا ، ولا يحفظ كتابا من الكتب ، لا المنزلة ولا غيرها ، ولا يقرأ شيئا مكتوبا ، لا كتابا منزلا ولا غيره ، ولا يكتب بيمينه كتابا ، ولا ينسخ شيئا من كتب الناس المنزلة ولا غيرها .

ومعلوم أن من يعلم من غيره إما أن يأخذ تلقينا وحفظا ، وإما أن [ ص: 339 ] يأخذ من كتابه ، وهو لم يكن يقرأ شيئا من الكتب من حفظه ، ولا يقرأ مكتوبا ، والذي يأخذ من كتاب غيره إما أن يقرأه وإما أن ينسخه ، وهو لم يكن يقرأ ولا ينسخ .

التالي السابق


الخدمات العلمية