وقال تعالى : ( وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين وإنه لفي زبر الأولين أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ) .
إلى قوله .
( وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) .
[ ص: 340 ] فقال تعالى :
( وإنه لفي زبر الأولين ) .
وقال :
( أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ) .
وعلماء بني إسرائيل يعلمون ذكر إرسال محمد ونزول الوحي عليه ، كما قال تعالى :
( الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ) .
وقال :
( والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين ) .
وقال :
[ ص: 341 ]
( الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ) .
وقال :
( وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين ) .
ويعلمون المعاني التي فيه أنها موافقة لأقوال الرسل قبله في الخبر والأمر .
فإنه أخبر عن توحيد الله وصفاته ، وعرشه وملائكته ، وخلقه السماوات والأرض ، وغير ذلك بمثل ما أخبرت به الرسل قبله . وأمر بتوحيد الله وعبادته وحده لا شريك له وبالعدل والصدق والصلاة والزكاة ، ونهى عن الشرك والظلم والفواحش كما أمرت ونهت الرسل قبله .
المشتركة ، التي اتفقت عليها الرسل ، التي لا بد منها ، وهي الإسلام العام الذي لا يقبل الله من أحد من الأولين والآخرين دينا غيره . والسور المكية نزلت بالأصول الكلية
وأما ففيها هذا ، وفيها ما يختص به السور المدنية محمد صلى الله عليه وسلم من الشرعة والمنهاج . فإن كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ ص: 342 ] دين الأنبياء واحد ، قال الله تعالى : إنا - معشر الأنبياء - ديننا واحد
( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) .
وقال تعالى : ( ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون ) .
وقال تعالى : ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ) .
وأما الشرعة والمنهاج ، فقد قال عن أهل التوراة والإنجيل والقرآن :
[ ص: 343 ] ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) .
وقال :
( ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) .
إلى قوله :
( لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه ) .
وأما القبلة : فلم يجعل ما ابتدعه أهل الكتاب من القبلة ، فلذلك قال :
( ولكل وجهة هو موليها ) .
لم يقل : إنا جعلنا لكل وجهة ، كما قال في المنسك والشرعة والمنهاج . وقال تعالى :
[ ص: 344 ] ( وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ) .
فإنه إذا أتاهم ببيان ما في الصحف الأولى - مع علمهم بأنه لم يعاشر أحدا من أهل الصحف الأولى ، ولا استفاد منهم علما - كان هذا من أعظم الآيات من الله .
وكما أن ، فإنه يدل على أن النبوة إنباء من الله ، ليس ذلك كما يقوله بعض المتفلسفة إخباره عن أمور الغيب يدل على نبوته وأمثاله : ( إنه فيض فاض عليه من النفس الفلكية أو العقل الفعال ) ، ويقولون : ( إن النفس أو العقل هو اللوح المحفوظ ، وأن من اتصلت نفسه به علم ما علمته الأنبياء ) ، ويقولون : ( النبوة مكتسبة ؛ لأن هذه صفتها ) ، ويقولون : ( إن سبب علمه بالغيب هو اتصال نفسه بالنفس الفلكية ) ، وزعموا أنها اللوح المحفوظ ، وأن تحريكها للفلك هو سبب حدوث الحوادث في الأرض ، فتكون عالمة بما يحدث في الأرض ؛ لأن العلم بالسبب يوجب العلم بالمسبب . فإن هذا مبني على مقدمات باطلة ، قد بسط الكلام على بطلانها في مواضع أخرى : كابن سينا
[ ص: 345 ] منها : إثبات العقل الفعال .
ومنها : دعواهم أنه لا سبب للحوادث إلا حركة الفلك .
ومنها : أن المحرك له هو النفس .
ومنها : اتصال نفوسنا بتلك النفس .
والمقصود - هنا - أن هذا لو كان حقا فإنما يفيد علما بالمستقبل الذي تكون الحركة الحاضرة سببا له ، أما ما قد مضى بمئين أو ألوف من السنين فليس شيء من حركات الفلك - حين مبعث الرسول - كان سببا له ، وإنما تكون الحركة الموجودة في زمانه سببا للمستقبل لا للماضي ، وحينئذ فلا يكون تحريك النفس للفلك سببا للعلم بهذه الأمور ، ولا يكون ذلك هو اللوح المحفوظ ، بل القرآن المجيد في لوح محفوظ ، وهو في أم الكتاب ، وهو :
( في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون ) .
وأخبر سبحانه أنه :
( نزل به الروح الأمين ) .
[ ص: 346 ] وقال في آية أخرى :
( قل نزله روح القدس من ربك بالحق ) .
وقال : في موضع آخر :
( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) .
وقال :
( إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم ) .
[ ص: 347 ] وقال تعالى : ( الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ) .
فذكر أنه قول رسول اصطفاه من الملائكة ، نزله به على رسول اصطفاه من البشر ، فقال :
( إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين وإنه لتذكرة للمتقين وإنا لنعلم أن منكم مكذبين وإنه لحسرة على الكافرين وإنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم ) .
فنزه كلا من الرسولين عما قد يشتبه به .
نزه الملك أن يكون شيطانا ، ونزه البشر أن يكون شاعرا أو كاهنا ، وبين برهان ذلك وآيته ، فقال :
[ ص: 348 ] ( وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون ) .
فبين أنه ما يصلح لهم النزول به ، بل هم منهيون عن ذلك ، وهم ممتنعون عن ذلك لا يريدونه لمنافاته لمقصودهم ، وأنهم لو أرادوا لعجزوا عن ذلك فلم يستطيعوه ; إذ كانوا معزولين عن أن يسمعوه من الملأ الأعلى ، وهم إنما يقدرون على أن ينزلوا بما سمعوه لا بما لم يسمعوه ، وذلك أن الفاعل للفعل إنما يفعله إذا كان مريدا له قادرا عليه .
فبين قوله :
( وما ينبغي لهم ) .
أنهم لا يريدون تنزيله .
وبقوله :
( وما يستطيعون ) .
أنهم عاجزون عن تنزيله .
[ ص: 349 ] أما كونهم لا يريدون ; فلأنه لا ينبغي لهم ، ( وينبغي ) مضارع بغى يبغي : أي طلب وأراد . فالذي لا ينبغي للفاعل هو الذي لا يطلبه ولا يريده ، إما لكونه ممتنعا من ذلك ، أو لكونه ممنوعا منه . والشيطان إنما يريد الكذب والفجور ، لا يريد الصدق والصلاح .
وما جاء به الرسول مناقض لمراد الشياطين غاية المناقضة ، فلم يحدث في الأرض أمر أعظم مناقضة لمراد الشياطين من إرسال محمد ، فنزول القرآن عليه ، فيمتنع أن تفعل الشياطين ما لا يريدون إلا نقيضه ، وهم - أيضا - ممنوعون من ذلك بحيث لا يصلح لهم ذلك ولا يتأتى منهم كما أن الساحر لا ينبغي له أن يكون نبيا . والمعروف بالكذب والفجور لا ينبغي له - مع ذلك - أن يكون نبيا ، ولا أن يكون حاكما ، ولا شاهدا ، ولا مفتيا ; إذ الكذب والفجور يناقض مقصود الحكم والشهادة والفتيا ، فكذلك ما في طبع الشياطين من إرادة الكذب والفجور يناقض أن تتنزل بهذا الكلام الذي هو في غاية الصدق والعدل ، لم يشتمل على كذبة واحدة ولا ظلم لأحد .
، ثم قال :
( وما يستطيعون ) .
[ ص: 350 ] فإنهم عن سمع هذا الكلام لمعزولون ، بما حرست به السماء من الشهب كما قال - عن الجن - :
( وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا ) .
وقد ذكرنا تواتر هذا الخبر وأن السماء حرست حرسا لم يعهده الناس قبل ذلك ، ورأى الناس ذلك بأبصارهم فكانوا قد عاينوا ما أخبرهم به من الرمي بالشهب التي يرمى بها لطرد الشياطين ، فعزلوا بذلك عن سمع الملأ الأعلى ، وكان ما عاينه الكفار - من الرمي الشديد العام - الذي انتقضت به العادة المعروفة من رمي الشهب ، دليلا على سبب خارق للعادة ، ولم يحدث - إذ ذاك - في الأرض أمر لم تجر به العادة إلا ادعاءه للرسالة ، فلم يعرف قبله من نزل عليه الكلام كنزوله عليه ؛ إذ كان موسى عليه السلام إنما أنزلت عليه التوراة مكتوبة ، لم تنزل عليه منجمة مفرقة ملقاة إليه [ ص: 351 ] حفظا ، حتى تحتاج السماء إلى حراستها عن استراق سمعها . والزبور تابع لشرع التوراة ، وكذلك الإنجيل فرع على التوراة . لم ينزل كتاب مستقل إلا التوراة والقرآن ، كما قال تعالى :
( قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين ) .
ولهذا يقرن سبحانه بين التوراة والقرآن كثيرا كما في قوله :
( وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس ) .
إلى قوله :
( وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ) .
وقال :
( أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ) .
[ ص: 352 ] قال وغيره : " والأحزاب هي الملل كلها " ، قال : وهذا تصديق قول النبي صلى الله عليه وسلم : سعيد بن جبير ، وقرأ هذه الآية : والذي نفسي بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ، ولا نصراني ، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار
( ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ) .
وقالت الجن :
( إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ) .
وقال - لما سمع القرآن - : ( إن هذا والذي جاء به [ ص: 353 ] النجاشي موسى ليخرج من مشكاة واحدة ) .
وأيضا ، فكان معروفا عندهم إخبار الكهان عن الشياطين التي تسترق السمع ، فلما رأوا أن السماء قد حرست حرسا شديدا خلاف العادة ، علموا أن الشياطين منعوا استراق السمع ، وعلمت الجن ذلك كما تقدم ، وقد قالت الجن :
( وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا ) .
وقد تواترت الأخبار بأنه حين المبعث كثر الرمي بالشهب ، وهذا أمر خارق للعادة ، حتى خاف بعض الناس أن يكون ذلك لخراب العالم ، حتى نظروا هل الرمي بالكواكب التي في الفلك أم الرمي بالشهب ؟ فلما رأوا أنه بالشهب ، علموا أنه لأمر حدث . وأرسلت [ ص: 354 ] الجن تطلب سبب ذلك ، حتى سمعت القرآن ، فعلموا أنه كان لأجل ذلك .
[ ص: 355 ] وهذا . من أعلام النبوة ودلائلها
وقبل زمان البعث وبعده ، كان الرمي خفيفا ، لم تمتلئ به السماء كما ملئت حين نزول القرآن ، وقال تعالى : ( هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون ) .
والأفاك الكذاب ، والأثيم الفاجر ، كما قال :
( لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة ) .
[ ص: 356 ] قال في الحديث المتفق على صحته : . عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى الجنة ، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يدعو إلى النار ، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا
فالشياطين تنزل على من يحصل مقصودها بنزولها عليه ، وهو المناسب لها في الكذب والفجور . فأما الصادق البار ، فلا يحصل به مقصود الشياطين ، فإن الشيطان لا يطلب الصدق والبر ، وإنما يطلب الكذب والفجور .
ومحمد صلى الله عليه وسلم ما زال قومه يعرفونه بينهم بالصادق الأمين ، لم تجرب عليه كذبة واحدة . ولما جاءه الروح بالوحي لم يخبر بخبر واحد كذب ، لا عمدا ولا خطأ .
ومن تنزلت عليه الشياطين لا بد أن يخبر بالكذب ، فإن الشياطين يلقون إليهم السمع ، ولا يلقون إليهم ما سمعوه على وجهه ، بل يكذبون فيه كثيرا ; إذ كان أكثر الشياطين الذين ينزلون عليهم كاذبين فيما ينزلون به عليهم . والشياطين وإن كان كلهم كاذبا - فليس كل من ألقى [ ص: 357 ] السمع يكذب فيما يلقيه ، بل قد يصدق أحدهم فيما يلقيه من السمع ويسترقه ، ولكن أكثرهم يكذبون ، والذي يصدق منهم مرة يكذب مرات ، والذي ينزل عليه الشياطين أفاك أثيم .
فالفرق بين الصادق البار الذي يأتيه الملك ، والكاذب الأثيم الذي يأتيه الشيطان الرجيم ، فرق بين ، يعرف بأدنى معرفة بحال الاثنين ، ولما كان الكاهن الذي يأتيه شيطان قد يخبر ببعض الأمور الغائبة بين سبحانه أن هذا يكون - وإن صدق في بعض الأخبار - كاذبا فاجرا ، والذي يأتيه بالكذب ، فلا يشتبه بمن لا يكذب ولا يفجر ، وهذا مما يبين أن النبي لا يكون إلا بارا معصوما أن يصر على ذنب .