[ ص: 358 ] وقد ذكرنا ، وأنهم لم يجربوا عليه كذبا ، بل ومعترفين بأن ما يقوله ليس بشعر ولا كهانة ، وأنه ليس بساحر ، وكانوا في أول أمره يرسلون إلى البلاد التي فيها علماء أهل الكتاب يسألونهم عنه ؛ لأن أن قومه المعادين له غاية العداوة ما زالوا معترفين بصدقه صلى الله عليه وسلم مكة لم يكن بها ذلك .
ففي الصحيحين عن ابن عباس حدثه ، قال : " انطلقت إلى أبا سفيان بن حرب الشام في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فبينما أنا بالشام إذ جيء هرقل ، قال : وكان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جاء به ، فدفعه إلى عظيم بصرى ، فدفعه عظيم بصرى إلى دحية الكلبي هرقل ، فقال هرقل : : هل هاهنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ قالوا : نعم ، قال : فدعيت في نفر من قريش فدخلنا على هرقل ، فأجلسنا بين يديه ، فقال : أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ، قال أبو سفيان : فقلت أنا . فأجلسوني بين يديه ، وأجلسوا أصحابي خلفي . فدعا بترجمانه ، فقال : قل لهم : إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ، فإن كذبني فكذبوه . [ ص: 359 ] قال : فقال : وايم الله ! لولا مخافة أن يؤثر علي كذب لكذبت عليه . ثم قال لترجمانه : سله كيف حسبه فيكم ؟ قال : قلت : هو فينا ذو حسب . قال : فهل كان في آبائه من ملك ، قلت : لا . قال : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قلت : لا " ، وذكر باقي الحديث : أن
وفي الصحيحين عن ، حديث عبد الله بن مسعود ، لما قال لأمية : إنهم قاتلوك ( يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ) ، وفزع منه لذلك ، وقال لامرأته ذلك ، فقالت : والله ما يكذب سعد بن معاذ محمد ، وقال هو - في رواية أخرى - : والله ما يكذب محمد ، وعزم أن لا يخرج خوفا من هذا ، وقال : والله لا أخرج من مكة . وأراد التخلف عن بدر ، حتى قال له أبو جهل : إنك متى يراك الناس قد تخلفت وأنت سيد هذا الوادي تخلفوا معك . فقال : أما إذ غلبتني فلأشترين أجود بعير بمكة ، وذكرته امرأته بقول سعد ، فقال : ما أريد أن [ ص: 360 ] أكون معهم إلا قريبا .
وكذلك ما ذكره أهل المغازي وغيرهم أن أبي بن خلف لما [ ص: 361 ] بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أنا أقتله ، ثم طعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فخدشه ، وجعل أصحابه يجزعونه ويقولون : إنما هو خدش وليس بشيء ، فقال : والله لو كان بمضر لقتلهم ، أليس قال : " لأقتلنك " . وعن : قال مولاي مجاهد السائب بن أبي السائب : كنت فيمن بنى البيت ، وأن قريشا اختلفوا في الحجر حين أرادوا أن يضعوه ، حتى كادوا يقع بينهم قتال بالسيوف ، فقال : اجعلوا بينكم أول رجل يدخل من الباب ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يسمونه في الجاهلية الأمين .
[ ص: 362 ] فقالوا : يا محمد ، قد رضينا بك .
وعن قال : " عقيل بن أبي طالب قريش إلى أبي طالب فقالوا له : إن ابن أخيك يأتينا في كعبتنا ونادينا ويسمعنا [ ص: 363 ] ما يؤذينا ، فإن رأيت أن تكفه عنا فافعل . قال : فقال لي : يا عقيل التمس ابن عمك . قال : فأخرجته من كبس من أكباس شعب أبي طالب ، فأقبل يمشي حتى انتهى إلى أبي طالب ، فقال له : يا ابن أخي ، والله ما علمت إن كنت لي مطيعا ، وقد جاءني قومك يزعمون أنك تأتيهم في كعبتهم وناديهم فتسمعهم ما يؤذيهم ، فإن رأيت أن تكف عنهم ؟ قال : فحلق ببصره إلى السماء ، فقال : والله ما أنا بأقدر على أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحدكم من هذه الشمس شعلة من النار فقال أبو طالب : إنه - والله - ما كذب قط فارجعوا راشدين . رواه جاءت في تاريخه ، البخاري وأبو زرعة في الدلائل ، ورواه قريبا من هذا اللفظ ، وقال : " فأخرجته من حفش - وهو بيت صغير - وقال فيه : فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قد بدا لعمه ، وأنه خاذله ومسلمه ، وضعف عن القيام معه ، فقال : ابن إسحاق يا عم لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه .
وفي الصحيحين عن عبد الله بن الصامت قال : " قال : [ ص: 364 ] خرجنا من قومنا أبو ذر غفار ، وكانوا يحلون الشهر الحرام ، فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا ، فنزلنا على خال لنا فأكرمنا ، وأحسن إلينا فحسدنا قومه ، فقالوا : إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس . فجاء خالنا فثنا علينا الذي قيل له ، فقلت له : أما ما مضى من معروفك فقد كدرته ، ولا جماع لك فيما بعد . فقربنا صرمتنا ، فاحتملنا عليها ، وتغطى خالنا بثوبه يبكي ، وانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة .
فنافر أنيس رجلا عن صرمتنا وعن مثلها فأتينا الكاهن فخير [ ص: 365 ] أنيسا فأتى بصرمتنا ومثلها معها . قال : وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين ، قلت : لمن ؟ قال : لله ، قلت : فأين توجه ؟ قال : أتوجه حيث يوجهني ربي ، أصلي عشاء ، حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء ، حتى تعلوني الشمس ، فقال أنيس : إن لي حاجة بمكة فاكفني . فانطلق أنيس حتى أتى مكة فراث علي ، ثم جاء فقلت : ما صنعت ؟ قال : لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن الله أرسله ، قلت : فما يقول الناس ؟ قال : يقولون : شاعر ، كاهن ، ساحر . وكان أنيس أحد الشعراء ، قال أنيس : لقد سمعت قول الكهنة ، فما هو بقولهم ، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعراء فما يلتئم على لسان أحد يقري بعدي أنه شعر ، والله إنه لصادق ، وإنهم لكاذبون . قال : قلت : فاكفني حتى أذهب فأنظر ، قال : فأتيت مكة فضعفت رجلا منهم ، فقلت : أين هذا الذي [ ص: 366 ] تدعونه الصابئ ؟ فأشار إلي فقال : الصابئ ، فمال علي أهل الوادي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا علي . . . " ، وذكر الحديث وصفة إسلامه رضي الله عنه بلفظ . مسلم
وفي حديث عن البخاري : " أن ابن عباس أرسل أخاه ، وقال : اعلم لي علم هذا الرجل ، الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء ، فاسمع من قوله ، ثم ائتني ، فانطلق الآخر حتى قدم مكة ، وسمع من قوله ، ثم رجع إلى أبا ذر فقال : رأيته يأمر بمكارم الأخلاق ، وكلاما ما هو بالشعر . أبي ذر
فقال : ما شفيتني فيما أردت ، فتزود وحمل شنة له فيها ماء حتى قدم مكة فأتى المسجد . . . " وذكر تمام الحديث .
وعن " قال الملأ جابر بن عبد الله وأبو جهل : لقد غلبنا أمر [ ص: 367 ] محمد ، فلو التمستم رجلا عالما بالشعر والكهانة والسحر ، فأتاه فكلمه ، وأتانا ببيان من أمره .
قال عتبة بن ربيعة : والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر ، وعلمت من ذلك علما ، فما يخفى علي إن كان كذلك . فأتاه ، فلما خرج إليه قال : أنت - يا محمد - خير أم هاشم ؟ وأنت خير أم عبد المطلب ؟ أنت خير أم عبد الله ؟ فيم تشتم آلهتنا ، وتضلل آباءنا ؟ فإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا لك الرياسة ، فكنت رأسنا ما بقيت ، وإن كان بك الباه زوجناك عشر نسوة تختار من أي بنات قريش شئت ، وإن كان بك المال ، جمعنا لك ما تستغني به أنت وعقبك من بعد ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم ، فلما [ ص: 368 ] فرغ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون ) .
إلى قوله :
( فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ) .
فأمسك عتبة على فيه ، وناشد بالرحم أن يكف ، ورجع إلى أهله ، فلم يخرج إلى قريش ، فاحتبس عنهم عتبة ، فقال أبو جهل : يا معشر قريش ، والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد ، وأعجبه طعامه ، وما ذاك إلا من حاجة أصابته ، فانطلقوا بنا إليه ، فأتاه أبو جهل فقال : يا عتبة ، ما حبسك عنا إلا أنك صبوت إلى محمد ، وأعجبك أمره ، فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد ، فغضب وأقسم أن لا يكلم محمدا ا أبدا ، وقال : لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ، ولكني أتيته وقصصت عليه القصة ، فأجابني بشيء ، والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر :
( حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون ) .
[ ص: 369 ] إلى قوله :
( فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ) .
فأمسكت بفيه ، وناشدته الرحم أن يكف ، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب ، فخفت أن ينزل بكم العذاب " . رواه ، في كتاب التفسير عن أبو بكر أحمد بن مردويه عن محمد بن فضيل الأجلح عن الذيال بن حرملة عنه ، [ ص: 370 ] ورواه يحيى بن معين عن ، ورواه محمد بن فضيل في مسنده ، ورواه أبو يعلى الموصلي عن شيخ عبد بن حميد أبي يعلى . ابن أبي شيبة
وفي بعض الطرق : " إن كنت تزعم أن هؤلاء خيرا منك فقد عبدوا الآلهة ، وإن كنت تزعم أنك خيرا منهم فتكلم حتى نسمع " ، ورواه قال : حدثني ابن إسحاق يزيد بن زياد مولى لبني هاشم عن [ ص: 371 ] محمد بن كعب ، قال : حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا حليما . . وذكر الحديث إلى أن قال : " لما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ، قال : ورائي أني - والله - قد سمعت قولا ما سمعت بمثله قط ، والله ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة ، يا معشر قريش أطيعوني ، واجعلوها بي ، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه ، واعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ ، فإن تصيبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به ، فقالوا : سحرك - والله - يا أبا الوليد بلسانه ، قال : هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم ، . ثم ذكر شعر أبي طالب يمدح عتبة فيما قال .
[ ص: 372 ] وفي صحيح عن مسلم قال : ابن عباس ضماد مكة وهو رجل من أزد شنوءة ، وكان يرقي من هذه الريح ، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون : إن محمدا مجنون ، فقال : لو أني رأيت هذا الرجل ، لعل الله أن يشفيه على يدي ، قال : فلقيت محمدا ، فقلت : إني أرقي من هذه الريح ، وإن الله يشفي على يدي من شاء ، فهلم ، فقال محمد : " إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد " قال : فقال : أعد علي كلماتك هؤلاء . فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فقال : والله لقد سمعت قول الكهنة ، وقول السحرة ، وقول الشعراء ، فما سمعت بمثل كلماتك هؤلاء ، ولقد بلغن ناعوس البحر .
[ ص: 373 ] فقال : هات يدك أبايعك على الإسلام ، قال : فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " وعلى قومك " ، فقال : وعلى قومي . الحديث . قدم
وعن : ابن عباس أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي ، فقرأ عليه من القرآن :
( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ) .
قال : أعد ، فأعاد النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " والله إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله .
[ ص: 374 ] لمغدق ، وما يقول هذا البشر " .
وفي لفظ : أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رق له ، فبلغ ذلك أبا جهل ، فأتاه فقال : يا عم ، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا . قال : ولم ؟ قال : ليعطوكه ، فإنك أتيت محمدا لتعوض مما قبله ، قال : قد علمت قريش أني من أكثرها مالا ، قال : فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له وأنك كاره له ، قال : وماذا أقول ؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني ، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني ، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ، ووالله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله ، وإنه ليعلو وما يعلى ، وإنه ليحطم [ ص: 375 ] ما تحته . قال : لا ترضى عنك قومك حتى تقول فيه . قال : فدعني حتى أفكر فيه . فلما فكر قال : هذا سحر يؤثر ، يأثره عن غيره . فنزلت :
( ذرني ومن خلقت وحيدا ) .
رواه عبد الرزاق عن عن معمر أيوب عن عكرمة عنه .
وفي رواية أخرى : " أن الوليد بن المغيرة اجتمع ، ونفر من قريش ، وكان ذا سن فيهم ، وقد حضر الموسم فقال : إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا ، فيكذب بعضكم بعضا ، ويرد بعضكم قول بعض ، فقالوا :
[ ص: 376 ] فأنت يا أبا عبد شمس فقل ، وأقم لنا رأيا نقوم به . فقال : بل أنتم فقولوا وأنا أسمع ، فقالوا : نقول كاهن ، فقال : ما هو بكاهن ، لقد رأيت الكهان فما هو بزمزمة الكهان . فقالوا : نقول مجنون ، فقال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا المجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته . قالوا : فنقول شاعر ، فقال : ما هو بشاعر ، قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريظه ومقبوضه ومبسوطه فما هو [ ص: 377 ] بالشعر . قالوا : فنقول ساحر ، قال : فما هو بساحر ، قد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثه ولا عقده . فقالوا : ما نقول يا أبا عبد شمس ؟ قال : والله إن لقوله حلاوة ، وإن أصله لغدق ، وإن فرعه لجنى ، فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول أن تقولوا : ساحر يفرق بين المرء وبين أبيه ، وبين المرء وبين أخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته . فتفرقوا عنه ، فجعلوا يجلسون للناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه ، وذكروا له أمره ; فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة ، وذلك من قوله :
( ذرني ومن خلقت وحيدا ) .
إلى قوله :
( سأصليه سقر ) .
وأنزل في النفر الذين كانوا معه :
( الذين جعلوا القرآن عضين ) .
أي أصنافا .
[ ص: 378 ] وروى ، عن شيخ من ابن إسحاق أهل مصر ، عن عكرمة عن ، قال : قام ابن عباس النضر بن الحارث فقال : " يا معشر قريش ، والله لقد نزل بكم أمر ما ابتليتم بمثله ، لقد كان محمد فيكم غلاما حدثا ، أرضاكم فيكم ، وأصدقكم حديثا ، وأعظمكم أمانة ، حتى إذا رأيتم في صدغه الشيب ، وجاءكم بما جاءكم به قلتم : ساحر ، لا - والله - ما هو بسحر ، قد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم ، وقلتم : كاهن ، لا - والله - ما هو بكاهن ، قد رأينا الكهنة وسمعنا سجعهم ، وقلتم : شاعر ، لا - والله - ما هو بشاعر ، لقد روينا الشعر ، وسمعنا أصنافه كلها ؛ هزجه ورجزه وقريظه ، وقلتم : مجنون ، ولا - والله - ما هو بمجنون ، لقد رأينا المجنون فما هو بخنقه ، ولا تخليطه ، يا معشر قريش انظروا في [ ص: 379 ] شأنكم فإنه - والله - لقد نزل بكم أمر عظيم " . وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش ، وممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وينصب له العداوة .
قال : وحدثني قال : " حدثت أن الزهري أبا جهل وأبا سفيان ، والأخنس بن شريق ، خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يصلي بالليل في بيته ، وأخذ كل رجل منهم مجلسا ليستمع فيه ، وكل لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له حتى إذا أصبحوا ، وطلع الفجر تفرقوا ، فجمعتهم الطريق فتلاوموا ، وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في - نفسه شيئا ، ثم انصرفوا ، حتى إذا كانت الليلة الثانية ، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة ، ثم انصرفوا ، فلما كانت الليلة [ ص: 380 ] الثالثة ، فعلوا كذلك ، ثم جمعتهم الطريق فتعاهدوا أن لا يعودوا ، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ، ثم أتى أبا سفيان في بيته فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد ، فقال : يا أبا ثعلبة ، والله لقد سمعت أشياء أعرفها ، وأعرف ما يراد بها ، فقال الأخنس : وأنا ، والذي حلفت به ، ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته ، فقال : يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ، فقال : ماذا سمعت ، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ؛ أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، ثم إذا تجاثينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نؤمن به ولا نصدقه أبدا " .
وكذلك روي عن ، أن المغيرة بن شعبة أبا جهل قال له مثل ذلك ، وقال : إني لأعلم أن ما يقول حق ، ولكن بني قصي قالوا : فينا الندوة .
[ ص: 381 ] فقلنا : نعم ، فينا الحجابة ، فقلنا : نعم ، فينا السقاية ، فقلنا : نعم . وذكر نحوه .
وقد كانوا يرسلون إلى أهل الكتاب ليسألوهم عن أمره صلى الله عليه وسلم .
قال حدثني شيخ من محمد بن إسحاق أهل مصر قدم منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة مولى ، عن ابن عباس قال : " بعثت ابن عباس قريش النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة ، فقالوا لهم : اسألوهم عن محمد ، وصفوا لهم صفته ، وأخبروهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء ، فخرجا حتى قدما المدينة ، فسألوا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفوا لهم أمره وبعض قوله [ ص: 382 ] وقالا : إنكم أهل التوراة ، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا ، قال : فقالت لهم أحبار يهود : " سلوه عن ثلاث نأمركم بهن ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإن لم يفعل فالرجل متقول ، فروا فيه رأيكم . سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ، ما كان من أمرهم ؟ فإنه قد كان لهم حديث عجيب . وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه . وسلوه عن الروح ، ما هو ؟ فإن أخبركم بذلك فإنه نبي فاتبعوه ، وإن هو لم يخبركم فهو رجل متقول ، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم .
فأقبل النضر وعقبة ، حتى قدما مكة على قريش ، فقالا : يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور ، فأخبروهم بها فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد ، خبرنا فسألوه عما أمروهم به . فقال : لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبركم ، وجاءه جبريل من الله بسورة الكهف ، فيها خبر ما سألوه عنه ، من أمر الفتية ، والرجل الطواف ، وقول الله :
( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) .
[ ص: 383 ] قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح السورة فقال : ابن إسحاق
( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ) .
يعني محمدا ، إنك رسولي في تحقيق ما سألوه عنه من نبوته .
( ولم يجعل له عوجا قيما ) .
أي أنزله قيما ؛ أي معتدلا لا اختلاف فيه ، وذكر تفسير السورة إلى قوله :
( أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ) .
أي وما قدروا من قدري ، وفيما صنعت من أمر الخلائق ، وما وضعت على العباد من حجتي ، ما هو أعظم من ذلك .
قال : " ليس بأعجب من آياتنا من هو أعجب من ذلك " . مجاهد
[ ص: 384 ] وفي تفسير العوفي عن : " الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب ، أفضل من شأن أصحاب الكهف " . ابن عباس
قلت : والأمر على ما ذكره السلف ، فإن قصة أصحاب الكهف هي من آيات الله ، فإن مكثهم نياما لا يموتون ثلاثمائة سنة ، آية دالة على قدرة الله ومشيئته ، وأنه يخلق ما يشاء ، ليس كما يقوله أهل الإلحاد . وهي آية على معاد الأبدان كما قال تعالى :
( وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها ) .