الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الطريق الرابع : أن يقال : هذه الآيات التي ذكرنا بعضها كانت تكون بمحضر من الخلق الكثير كتكثير الطعام يوم الخندق فإنه كان أهل الخندق رجالهم ونساؤهم ألوفا .

وكذلك نبع الماء من بين أصابعه ، وفيضان البئر بالماء يوم الحديبية ، وكانوا يومئذ ألفا وخمسمائة ، وكلهم صالحون من أهل [ ص: 356 ] الجنة ، لا يعرف فيهم من تعمد كذبة واحدة على النبي صلى الله عليه وسلم .

وكذلك تكثير الماء والطعام في غزوة خيبر كانوا ألفا وخمسمائة ، وفي تبوك كانوا ألوفا مؤلفة ، وكان بعض من حضر هذه المشاهد نقل هذه الآيات قدام آخرين ممن حضرها ، وينقلها لأقوام فيذهب أولئك فيخبرون بها أولئك ، ويصدق بعضهم بعضا ، ويحكي هذا مثل ما حكى هذا من غير تواطئ وتشاعر ، وأدنى أحواله أن يقره ولا ينكر عليه روايتها ، ونحن نعلم بموجب العادة الفطرية التي جبل الله عليها عباده ، وبموجب ما كان عليه سلف الأمة من اعتقاد الصدق وتحريه ، واعتقادهم أن ذلك واجب ، ومن شدة توقيهم الكذب على نبيهم ، وتعظيمهم ذلك ، إذ قد تواتر عندهم عنه أنه قال : " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار "

فنحن نعلم أنهم لم يكونوا يقرون من يعلمون أنه يكذب عليه ، ومن أخبر عنه بما كانوا مشاهدين له ، وكذب عليه فقد علموا أنه كذب [ ص: 357 ] عليه ، فلما اتفقوا على الإقرار على ذلك ، وعلى تناقله بينهم من غير إنكار أحد منهم لذلك علم قطعا أن القوم كانوا متفقين على نقل ذلك كما هم متفقون على نقل القرآن والشريعة المتواترة ، وإن كان جمهورهم ليس منتصبا لتلقين القرآن ، بل هذا يلقنه وهذا يسمعه من هذا المتلقن ، لا ينكر بعضهم على بعض القراءة ، وهذا يعلم هذا الصلاة : أن الظهر في الحضر أربع ركعات ، والمغرب ثلاثا ، والفجر ركعتان ، وهذا يقر هذا ، فلما كان بعضهم يقر بعضا على نقل ذلك علم اتفاقهم على نقل ذلك ، وهذا غاية التواتر .

وكذلك ما نقلوه من شرائعه ومن آياته وبراهينه ، يبين ذلك أن ما أنكره بعضهم رده على الآخر ولم يوافقه ، وإن كانوا متأخرين عن زمن الصحابة فكيف بالمتقدمين ، كتنازعهم هل كان يجهر بالبسملة أم لا يجهر بها ؟ وهل كان يداوم على القنوت في الفجر أم كان يقنت أحيانا للنوازل ، أم قنت مرة ثم تركه ، فهذا من أهون الأمور وأيسرها ، إذ كلهم متفقون على صحة صلاة من قنت ، وعلى صحة صلاة من لم يقنت ، ومن جهر ، ومن خافت ، ولكن لما تنازعوا فيما فعله الرسول تنازعوا في الحكم ، فعلم بذلك أن ما كان مشهورا في الأمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم ينكره أحد من علمائها كانت الأمة متفقة على نقله كنقلهم للقرآن ، وللشرائع الظاهرة [ ص: 358 ] المشهورة ، وإن نقل ذلك أعظم من نقل سائر أخبار الأنبياء والعلماء والملوك والزهاد

وكذلك حجه ، فإنهم كلهم متفقون على ما تواتر عنه من أنه لم يحج بعد الهجرة إلا حجة واحدة ، وهي التي تسمى حجة الوداع ، وإنما عاش بعدها نحوا من ثلاثة أشهر ، وأنه لما حج أمر أصحابه كلهم إلا من ساق الهدي منهم إذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحل من عمرته ، وأنه لم يعتمر هو ولا أحد من أصحابه الذين حجوا معه بعد الحج إلا عائشة وحدها ، وأنه هو نفسه لم يحل من حجته ، ولا أحد ممن ساق الهدي معه ، وإنما اشتبه على بعضهم بعض ألفاظه أو بعض الأمور التي تخفى على أكثر الناس ، وكان الصحابة ينقلون تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومرادهم بالتمتع أنه قرن بين العمرة والحج ، فظن بعض الناس أنهم أرادوا أنه أخر الإحرام بالحج إلى أن قضى العمرة ، وقال بعض الصحابة : إنه أفرد بالحج ، فظن بعض الناس أنه حج ، واعتمر بعد الحج ، وهذا لم ينقله أحد من العلماء ، بل اتفقوا على أنه لم يعتمر بعد الحج ، وروى بعض الصحابة أنه قرن ، فظن بعض الناس أنه طاف طوافين ، وسعى سعيين ، وهذا لم ينقله أحد عنه ، وكان من أسباب غلط كثير من الناس أنهم كانوا يستعملون تلك الألفاظ في معان غير ما استعملته فيها الصحابة ، فغلط بعض الناس على بعض الصحابة ، وأما ما فعله في الحج مشهورا فهو [ ص: 359 ] متواتر لم يختلف فيه النقل ، ولا علماء النقل ، ومن تدبر هذه الطريق أفادته علما يقينيا قطعيا بصحة هذه الآيات عن محمد صلى الله عليه وسلم ، وكذلك الطرق المتقدمة فإنا قد ذكرنا أن ما كان الناس أحوج إلى معرفته يسر الله دلائله للناس أعظم من تيسير غيره ، وحاجة الخلق إلى تصديق الرسول أشد من حاجتهم إلى جميع الأشياء ، إذ بذلك تحصل سعادتهم في الآخرة ، ونجاتهم من العذاب ، وبه يحصل صلاح العباد في المعاد والمعاش

التالي السابق


الخدمات العلمية