[ ص: 5 ] وإما بل قالوا فيه ما كان يقوله مشركو العرب من أنه شاعر أو ساحر أو مفتر كاذب ونحو ذلك فيقال : لهم على هذا التقدير فدليلكم أيضا باطل ولا يجوز أن تحتجوا بتقدير تكذيبكم أن لا يقروا برسالته إلى العرب ولا غيرهم لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بشيء من كلام الأنبياء قبله سواء صدقتم محمدا - صلى الله عليه وسلم - في جميع ما يقوله : أو في بعضه أو كذبتموه فدليلكم باطل فيلزم بطلان دينكم على كل تقدير وما ثبت بطلانه على كل تقدير فهو باطل في نفس الأمر فيثبت أنه باطل في نفس الأمر وذلك أنكم إذا كذبتم محمدا لم يبق لكم طريق تعلمون به صدق غيره من الأنبياء فيمتنع مع تكذيبه القول بصدق غيره بل من اعتقد كذبه وصدق غيره لم يكن عالما بصدق غيره بل يكون مصدقا لهم بغير علم وإذا لم يكن عالما بصدقهم لم يجز احتجاجه قط بأقوالهم بل ذلك قول منه بلا علم ومحاجة فيما لا علم له بها ، فإن محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم وأكثر من الدلائل الدالة على صدق موسى وعيسى ومعجزاته أعظم من معجزات غيره والكتاب الذي أرسل به أشرف من الكتاب الذي بعث به غيره والشريعة التي جاء بها [ ص: 6 ] أكمل من شريعة الدلائل الدالة على صدق موسى وعيسى - عليهما السلام - وأمته أكمل في جميع الفضائل من أمة هذا وهذا محمد صلى الله عليه وسلم إلا ويمكن توجيه ذلك الطعن وأعظم منه على موسى وعيسى . ولا يوجد في التوراة والإنجيل علم نافع وعمل صالح إلا وهو في القرآن أو مثله أو منه وفي القرآن من العلم النافع والعمل الصالح ما لا يوجد مثله في التوراة والإنجيل فما من مطعن من مطاعن أعداء الأنبياء يطعن به على
وهذه جملة مبسوطة في موضع آخر لم نبسطها هنا ; لأن جواب كلامهم لا يحتاج إلى ذلك فيمتنع الإقرار بنبوة موسى وعيسى - عليهما السلام - مع التكذيب بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا يفعل ذلك إلا من هو من أجهل الناس وأضلهم أو من أعظمهم عنادا واتباعا لهواه وذلك أن هؤلاء القوم احتجوا بما نقلوه عن الأنبياء ولم يذكروا الأدلة الدالة على صدقهم بل أخذوا ذلك مسلما وطلبوا أن يحتجوا بما نقلوه عن الأنبياء قبله وبما نقلوه عنه على صحة دينهم [ ص: 7 ] وهذه حجة داحضة سواء صدقوه أو كذبوه ، فإن صدقوه بطل دينهم وإن كذبوه بطل دينهم ، فإنهم إن صدقوه فقد علم أنه دعاهم وجميع أهل الأرض إلى الإيمان به وطاعته كما دعا المسيح وموسى وغيرهما من الرسل وأنه أبطل ما هم عليه من الاتحاد وغيره وكفرهم في غير موضع ولهذا كان مجرد التصديق بأن محمدا رسول الله ولو إلى العرب يوجب بطلان دين النصارى واليهود وكل دين يخالف دينه ، فإن من كان رسولا لله ، فإنه لا يكذب على الله ومحمد - صلى الله عليه وسلم - قد علم منه أنه دعا النصارى واليهود إلى الإيمان به وطاعته كما دعا غيرهم وأنه كفر من لم يؤمن به ووعده النار وهذا متواتر عنه تواترا تعلمه العامة والخاصة وفي القرآن من ذلك ما يكثر ذكره كما قال - تعالى - : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ( 1 ) رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ( 2 ) فيها كتب قيمة ( 3 ) وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ( 4 ) وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ( 5 ) إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية ( 6 ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ( 7 ) جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه [ ص: 8 ] وقال - تعالى - : شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ( 18 ) إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ( 19 ) فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد .
وقد ذكر كفر اليهود والنصارى في غير موضع كقوله - تعالى - : عن النصارى لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا .
[ ص: 9 ] وقال - تعالى - : أيضا لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ( 72 ) لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم ( 73 ) أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ( 74 ) ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون ( 75 ) قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم ( 76 ) قل ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل .
وقال - تعالى - : ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ( 171 ) لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا ( 172 ) فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ( 173 ) ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا ( 174 ) فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما [ ص: 10 ] وقال - تعالى - : وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون ( 30 ) اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون .
وقال - تعالى - : وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ( 116 ) ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد .
فقد قال - تعالى - : لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم في الموضعين .
وقال - تعالى - : لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وقال - تعالى - : ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم .
[ ص: 11 ] وقال - تعالى - : وقالت النصارى المسيح ابن الله .
والنصارى قالت الأقوال الثلاثة فذكر الله عنهم هذه الأقوال لكن من الناس من يظن أن هذا قول طائفة منهم وهذا قول طائفة منهم .
كما ذكره طائفة من المفسرين كابن جرير الطبري والثعلبي وغيرهما ثم تارة يحكون عن اليعقوبية أن عيسى هو الله [ ص: 12 ] وعن النسطورية أنه ابن الله وعن المريوسية أنه ثالث ثلاثة وتارة يحكون عن النسطورية أنه ثالث ثلاثة وعن الملكية أنه الله ويفسرون قولهم : ثالث ثلاثة بالآب والابن وروح القدس .
والصواب أن هذه الأقوال جميعها قول النصارى المشهورة الملكية واليعقوبية والنسطورية ، فإن هذه الطوائف كلها تقول بالأقانيم الثلاثة الآب والابن وروح القدس ، فتقول إن الله ثالث ثلاثة وتقول عن المسيح أنه الله وتقول أنه ابن الله وهم متفقون على اتحاد اللاهوت والناسوت وأن المتحد هو الكلمة وهم متفقون على عقيدة إيمانهم التي تتضمن ذلك وهو قولهم : نؤمن بإله واحد أب ضابط الكل خالق السماوات والأرض كل ما يرى وما لا يرى وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الآب [ ص: 13 ] قبل كل الدهور نور من نور إله حق من إله حق مولود غير مخلوق . طوائف
وأما قوله - تعالى - : ولا تقولوا ثلاثة وقوله : لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة .
فقد فسروه بالتثليث المشهور عنهم المذكور في أمانتهم ومن الناس من يقول : إن الله هو المسيح ابن مريم قول اليعقوبية وقولهم ثالث ثلاثة هو قول النصارى الذين يقولون بالآب والابن والروح القدس وهم قد جعلوا الله فيها ثالث ثلاثة وسموا كل واحد من الثلاثة بالإله والرب وقد فسره طائفة بجعلهم عيسى وأمه إلهين يعبدان من دون الله .
قال في قوله - تعالى - : [ ص: 14 ] السدي لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة .
قال : قالت النصارى إن الله هو المسيح وأمه فذلك قوله : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله وقد قيل قول ثالث أغرب من ذلك عن أبي صخر قال لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة قال : هو قول اليهود عزير ابن الله وقول النصارى المسيح ابن الله فجعلوا الله ثالث ثلاثة وهذا ضعيف وقد ذكر سعيد بن البطريق في أخبار النصارى أن منهم طائفة يقال لهم [ ص: 15 ] المريميون يقولون إن مريم إله وإن عيسى إله .
وأما الأول فمتوجه ، فإن النصارى المتفقين على الأمانة كلهم يقولون إن الله ثالث ثلاثة والله تعالى قد نهاهم عن أن يقولوا ذلك فقال - تعالى - : ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم فذكر سبحانه في هذه الآية التثليث والاتحاد ونهاهم عنهما وبين أن المسيح إنما هو رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه .
وقال : فآمنوا بالله ورسله ثم قال ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم [ ص: 16 ] لم يذكر هنا أمه . وقوله - تعالى - : وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه قال : عن معمر وكلمته ألقاها إلى قتادة مريم هو قوله : كن فكان .
وكذلك قال : ليس الكلمة صار قتادة عيسى ، ولكن بالكلمة صار عيسى .
وكذلك قال : في مصنفه الذي صنفه في كتابه في الرد على الإمام أحمد الجهمية وذكره عنه الخلال قال : والقاضي أبو يعلى [ ص: 17 ] ثم إن أحمد ادعى أمرا فقال : إنا وجدنا في كتاب الله آية تدل على أن القرآن مخلوق قلنا : أي آية قال : قول الله الجهم إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته فقلنا : إن الله منعكم الفهم في القرآن عيسى - عليه السلام - تجري عليه ألفاظ لا تجري على القرآن ; لأن عيسى يجري عليه نسمة ومولود وطفل وصبي وغلام يأكل ويشرب وهو يخاطب بالأمر والنهي يجري عليه الوعد والوعيد هو من ذرية نوح ومن ذرية إبراهيم ولا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى هل سمعتم الله يقول في القرآن ما قال عيسى ؟ ولكن المعنى في قوله - جل ثناؤه - إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال : له كن فكان عيسى بـ كن وليس عيسى هو الكن ، ولكن بالكن كان فالكن من الله قوله : وليس الكن مخلوقا وكذبت النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى وذلك أن الجهمية قالوا : عيسى روح الله وكلمته ; لأن الكلمة مخلوقة .
[ ص: 18 ] وقالت النصارى روح الله من ذات الله وكلمة الله من ذات الله كما يقال هذه الخرقة من هذا الثوب وقلنا نحن إن عيسى بالكلمة كان وليس عيسى هو الكلمة .
قال وأما قوله - جل ثناؤه - أحمد وروح منه يقول من أمره كان الروح فيه كقوله : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه يقول من أمره ، وتفسير روح الله إنما معناها أنها روح بكلمة الله خلقهم الله كما يقال : عبد الله وسماء الله ، وفي نسخة روح يملكها الله خلقها الله .
وقال : في قوله - تعالى - : [ ص: 19 ] الشعبي وكلمته ألقاها إلى مريم الكلمة حين قال : له كن فكان عيسى بـ " كن " وليس عيسى هو الكن ، ولكن بالكن كان .
وقال : ليث عن روح منه قال : رسول منه يريد مجاهد قوله : مجاهد فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا ( 17 ) قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ( 18 ) قال إنما أنا رسول ربك [ ص: 20 ] والمعنى أن عيسى خلق من الروح وهو جبريل روح القدس سمي روحا كما سمي كلمة ; لأنه خلق بالكلمة والنصارى يقولون في أمانتهم تجسد من مريم ومن روح القدس ; لأنه كذلك في الكتب المتقدمة لكن ظنوا أن روح القدس هو صفة لله وجعلوها حياته وقدرته وهو رب ، وهذا غلط منهم ، فإنه لم يسم أحد من الأنبياء حياة الله ولا قدرته ولا شيئا من صفاته روح القدس ، بل روح القدس في غير موضع من كلام الأنبياء - عليهم السلام - يراد بها ما ينزله الله على قلوب الأنبياء كالوحي والهدى والتأييد ويراد بها الملك وهكذا في تفسير ابن السائب عن أبي صالح عن أن ابن عباس عيسى ابن مريم استقبل رهطا من اليهود فلما رأوه قالوا : قد جاء الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة فقذفوه وأمه فلما سمع عيسى ذلك [ ص: 21 ] قال اللهم أنت ربي وأنا من روحك خرجت وبكلمتك خلقتني ولم آتهم من تلقاء نفسي وذكر تمام الحديث .
وقد قال - تعالى - : والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين وقال - تعالى - : ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا فهذا يوافق قوله - تعالى - : فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا ( 17 ) قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ( 18 ) قال إنما أنا رسول ربك .
والمقصود هنا أنهم سواء صدقوا محمدا أو كذبوه ، فإنه يلزم بطلان دينهم على التقديرين ، فإنه إن كان نبيا صادقا فقد بلغ عن الله [ ص: 22 ] في هذا الكتاب كفر النصارى في غير موضع ودعاهم إلى الإيمان به وأمر بجهادهم فمن علم أنه نبي ولو إلى طائفة معينة يجب تصديقه في كل ما أخبر به وقد أخبر بكفر النصارى وضلالهم وإذا ثبت هذا لم يغن عنهم الاحتجاج بشيء من الكتب والمعقول ، بل يعلم من حيث الجملة أن كل ما يحتجون به على صحة دينهم فهو باطل وإن لم يبين فساد حججهم على التفصيل ; لأن الأنبياء لا يقولون إلا حقا كما أن المسيح - عليه السلام - لما حكم بكفر من كذبه من اليهود كان كل ما يحتج به اليهود على خلاف ذلك باطلا فكل ما عارض قول النبي - صلى الله عليه وسلم - المعصوم فهو باطل وإن كذبوا محمدا تكذيبا عاما مطلقا وقالوا ليس هو نبي أصلا ولا أرسل إلى أحد لا إلى العرب ولا إلى غيرهم بل كان كذابا امتنع مع هذا أن يصدقوا بنبوة غيره ، فإن الطريق الذي يعلم به نبوة موسى وعيسى يعلم به نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - بطريق الأولى فإذا قالوا : علمت نبوة موسى والمسيح بالمعجزات وعرفت المعجزات بالنقل المتواتر إلينا قيل لهم معجزات محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم وتواترها أبلغ والكتاب الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - أكمل وأمته أفضل وشرائع دينه أحسن وموسى جاء بالعدل وعيسى جاء بتكميلها بالفضل وهو [ ص: 23 ] - صلى الله عليه وسلم - قد جمع في شريعته بين العدل والفضل .
فإن ساغ لقائل أن يقول هو مع هذا كاذب مفتر كان على هذا التقدير الباطل غيره أولى أن يقال فيه ذلك . فيبطل بتكذيبهم محمدا - صلى الله عليه وسلم جميع ما معهم من النبوات إذ حكم أحد الشيئين حكم مثله فكيف بما هو أولى منه ؟ فلو قال قائل إن هارون ويوشع وداود وسليمان كانوا أنبياء وموسى لم يكن نبيا أو أن داود وسليمان ويوشع كانوا أنبياء والمسيح لم يكن نبيا . أو قال ما تقوله السامرة : أن يوشع كان نبيا ومن بعده كداود وسليمان والمسيح لم يكونوا أنبياء . أو قال ما يقوله اليهود : إن داود وسليمان [ ص: 24 ] وأشعيا وحبقوق ومليخا وعاموص ودانيال كانوا أنبياء [ ص: 25 ] والمسيح بن مريم لم يكن نبيا كان هذا قولا متناقضا معلوم البطلان ، فإن الذين نفى هؤلاء عنهم النبوة أحق بالنبوة وأكمل نبوة ممن أثبتوها له ودلائل نبوة الأكمل أفضل فكيف يجوز إثبات النبوة للنبي المفضول دون الفاضل وصار هذا كما لو قال قائل أن زفر وابن القاسم والمزني [ ص: 26 ] والأثرم كانوا فقهاء وأبا حنيفة ومالكا والشافعي لم يكونوا فقهاء أو قال : إن وأحمد الأخفش وابن الأنباري كانوا نحاة [ ص: 27 ] والمبرد والخليل وسيبويه لم يكونوا نحاة أو قال : إن صاحب الملكي والمسبحي ونحوهما من كتب الطب كانوا أطباء والفراء وبقراط [ ص: 28 ] وجالينوس ونحوهما لم يكونوا أطباء أو قال : إن كوشيار والخرقي ونحوهما كانوا يعرفون علم الهيئة وبطليموس ونحوه لم يكن لهم علم بالهيئة .
ومن قال : إن داود وسليمان ومليخا وعاموص ودانيال كانوا أنبياء ومحمد بن عبد الله لم يكن نبيا فتناقضه أظهر وفساد قوله أبين من هذا جميعه بل وكذلك من قال : إن موسى وعيسى رسولان والتوراة والإنجيل كتابان منزلان من عند الله ومحمد ليس برسول والقرآن [ ص: 29 ] لم ينزل من الله فبطلان قوله في غاية الظهور والبيان لمن تدبر ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به من قبله ، وتدبر كتابه والكتب التي قبله وآيات نبوته وآيات نبوة هؤلاء وشرائع دينه وشرائع دين هؤلاء وهذه الجملة مفصلة مشروحة في غير هذا الموضع لكن المقصود هنا التنبيه على مجامع جوابهم وهؤلاء القوم لم يأتوا بدليل واحد يدل على صدق من احتجوا به من الأنبياء فلو ناظرهم من يكذب بهؤلاء الأنبياء كلهم من المشركين والملاحدة لم يكن فيما ذكروه حجة لهم ولا حجة لهم أيضا على المسلمين الذين يقرون بنبوة هؤلاء ، فإن جمهور المسلمين إنما عرفوا صدق هؤلاء الأنبياء بإخبار محمد أنهم أنبياء فيمتنع أن يصدقوا بالفرع مع القدح في الأصل الذي به علموا صدقهم .
وأيضا فالطريق الذي به علمت نبوة هؤلاء بما ثبت من معجزاتهم وأخبارهم ، فكذلك محمد بما ثبت من معجزاته وأخباره بطريق الأولى فيمتنع أن يصدق أحد من المسلمين بنبوة واحد من هؤلاء مع تكذيبه تعلم نبوة لمحمد في كلمة مما جاء به .