الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 74 ] وقولهم : إنه لم يقل : كونوا له مسلمين ، ولكن ونحن ، أي عنه وعن العرب التابعين له ، ولما أتى به وجاء في كتابه .

فيقال لهم : هذا ونظائره كلام من لم يفهم القرآن ، بل ولا يفهم كلام سائر الناس ، فإنه إذا عرف من صاحب كتاب يقول إنه منزل من الله ، أو يقول إنه صنفه هو أنه يدعو قوما بالأقوال الصريحة الكثيرة ، والأعمال البينة الظاهرة ، كان سكوته عن دعائهم في بعض الألفاظ لا ينافي دعاءهم له .

لكن إن كان حكيما في كلامه كان للسكوت عن دعائهم في بعض المواضع حكمة تناسب ذلك ، وهذا كقوله - تعالى - :

قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون .

[ ص: 75 ] أفتراه لما أمر أمته أن يقولوا ونحن له مخلصون لم يكن أهل الكتاب مأمورين بالإخلاص لله ، وقد ذكر أمر أهل الكتاب بالإخلاص في غير موضع كقوله - تعالى - : وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ( 4 ) وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة .

وكذلك دعاهم إلى الإسلام وتوعدهم على التولي عنه في مثل :

شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ( 18 ) إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ( 19 ) فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد ، وقال - تعالى - :

ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ( 130 ) إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ( 131 ) ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ( 132 ) أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون .

[ ص: 76 ] فقد بين - سبحانه - أنه لا يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه أي سفه نفسا ، أي كانت نفسه سفيهة جاهلة ، هذا أصح القولين في ذلك ، وهو مذهب الكوفيين من النحاة ، يجوزون أن يكون المنصوب على التمييز معرفة ، كما يكون نكرة ، ثم أخبر عنه أنه :

إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين .

وذكر أن إبراهيم وصى بها بنيه ، ويعقوب وصى بها بنيه أيضا ، كلاهما قال لبنيه :

يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون .

ثم ذكر أن يعقوب عند موته :

إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون .

فهؤلاء إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب كلهم على [ ص: 77 ] الإسلام وهم يأمرون بالإسلام ثم قال بعد ذلك :

وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين .

ثم قال : قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون .

ثم قال :

فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم .

فقد أخبر أنهم إن تولوا عن الإيمان بمثل ما آمنتم به المتضمن قولكم : ونحن له مسلمون فإنما هم في شقاق ، أي : مشاقون لله ورسوله كما قال - تعالى - :

هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار .

[ ص: 78 ] إلى قوله :

ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب .

وقوله - تعالى - : ونحن له مسلمون في العنكبوت فهو مثل قوله : ونحن له مسلمون في البقرة مع دعائهم إلى الإسلام ، وكذلك في سورة آل عمران في قوله :

قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .

فقد دعاهم أولا إلى الإسلام ، وهو عبادة الله وحده ، لا شريك له ، وأن لا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله ، كما قال - تعالى - :

اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون .

ثم قال - تعالى - :

[ ص: 79 ] فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .

وهذه الآية هي التي كتب بها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قيصر ملك الروم لما دعاه إلى الإسلام .

وقال في كتابه .

بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد : فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، وإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين و :

ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون
.

[ ص: 80 ] فدعاه النبي إلى الإسلام ، في كتابه الذي أرسله إليه وقال أيضا في آل عمران :

ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ( 79 ) ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون .

فذكر التوحيد في هذه الآية ، وكفر من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا ، فكيف بمن اتخذ الأحبار والرهبان أربابا ثم ذكر الإيمان بخاتم الرسل ، فقال : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ( 81 ) فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ( 82 ) أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ( 83 ) قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ( 84 ) ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين .

[ ص: 81 ] فقد ذكر أنه أخذ الميثاق على النبيين وأممهم : مهما آتيتكم من كتاب وحكمة ، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه .

وهذا يتناول الأمر لكل أهل الكتاب إذا جاءهم رسول ثان أن يؤمنوا به وينصرونه ، وإن كان عندهم من الكتاب والحكمة ما كان ، ولا يقولون : نحن مستغنون بما عندنا من الكتاب والحكمة ، لا نؤمن بالرسول الذي جاءنا .

ونخص الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه خاتم الرسل ، وهو آخر رسول جاء مصدقا لما بين يديه من الكتاب ، فوجب على من جاءه أن يؤمن به وينصره ، وإن كان عنده من الكتاب والحكمة ما كان .

وهذا الميثاق أخذه الله على الأنبياء ، وأخذوه على أممهم ، ثم قال : أفغير دين الله يبغون .

وهذا هو دين الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه ، فمن ابتغى غيره فقد ابتغى غير دين الله ، وهو دين الإسلام ، ( الذي قال ) فيه :

ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين

.

التالي السابق


الخدمات العلمية