الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 84 ] ثم قالوا : فأما الذين ظلموا فما يشك أحد في أنهم اليهود الذين سجدوا لرأس العجل ، وكفروا بالله مرارا كثيرة  ليست واحدة ، وقتلوا أنبياءه ورسله وعبدوا الأصنام ، وذبحوا للشياطين ليس حيوانات غير ناطقة فقط ، بل بنيهم وبناتهم حسب ما شهد الله عليهم قائلا على لسان داود النبي - عليه السلام - في كتاب الزبور في مزمور مائة وخمسة يقول ذبحوا بنيهم وبناتهم للشياطين وأراقوا دما زكيا دم بنيهم وبناتهم الذين ذبحوا للمنحوتات بكنعان وقد تنجست الأرض بالدماء وتنجست أعمالهم وزنوا بضغائنهم ، وسخط الرب عليهم ورذل ميراثهم .

وقال أيضا على لسان أشعيا النبي - عليه السلام - يقول الله في بني إسرائيل : لم يسمعوا وصاياي ، لم يحفظوا كل ما أوصيتهم به ، [ ص: 85 ] بل غيروا ونقضوا الميثاق الذي كنت جعلته لهم إلى الأبد ، فلذلك أجلستهم عليهم الحزن ، وأهلكتهم وانقطع ممن يبقى منهم الفرح والسرور .

هكذا قال الله على سكان بيت المقدس من بني إسرائيل : سأبددهم بين الأمم ، وفي تلك الأيام يرفعون الأمم أصواتهم ويسبحون الله ويمجدونه بأصوات عالية ، ويجتمعون من أقطار الأرض ، ومن جزائر البحر ، ومن البلدان البعيدة ويقدسون اسم الله ويرجعون إلى الله إله إسرائيل ، ويكونون شعبة ، وأما بنو إسرائيل فيكونون مبددين في الأرض .

وقال أشعيا النبي - عليه السلام - يقول الله : ( يا بني إسرائيل نجستم جبلي المقدس ، فإني سأفنيكم بالحرب وتموتون ، وذلك لأني [ ص: 86 ] دعوتكم فلم تجيبوا وكلمتكم فلم تسمعوا ، وعملتم الشيء بين يدي ) .

وقال أشعيا أيضا : ( إن الله قد بغض بني إسرائيل ، وأخرجهم من بيوتهم ومن بيته ولا يغفر لهم لأنهم لعنة ، وجعلوا لعنة الناس فلذلك أهلكهم الله ، وبددهم بين الأمم ، ولا يعود يرحمهم ولا ينظر إليهم برحمة إلى أبد الآبدين ، ولا يقربون لله قربانا ولا ذبيحة في ذلك اليوم وذلك الزمان ، ولا يفرح بنو إسرائيل ؛ لأنهم قد ضلوا عن الله - عز وجل - ) .

وقال أرميا النبي - عليه السلام - : ( كما أن الحبشي لا يستطيع أن يكون أبيضا ، فكذلك بنو إسرائيل لا يتركون عادتهم الخبيثة ، ولذلك إني لا أرحم ، ولا أشفق ، ولا أرق على الأمة الخبيثة ولا أرثي لها ) .

[ ص: 87 ] وقال حزقيل النبي - عليه السلام - : ( قال الله : إنما رفعت يدي عن بني إسرائيل وبددتهم بين الأمم ، لأنهم لم يعملوا بوصاياي ، ولم يطيعوا أمري ، وخالفوني فيها فيما قلت لهم ولم يسمعوا لي ) .

ومثل هذا القول في التوراة ، وكتب الأنبياء ، وزبور داود شيء كثير يقرونها اليهود في كنائسهم ، ويقرأونها ولا ينكرون منها حرفا واحدا ، ومثل ما هو عندهم ، وكذلك عندنا في جميع الألسن ا هـ .

والجواب أن يقال : أما كون اليهود ظالمين كافرين معتدين مستحقين لعذاب الله وعقابه ، فهذا معلوم بالاضطرار من دين محمد منقول بالتواتر ، كما علم بالاضطرار والنقل المتواتر عنه - صلى الله عليه وسلم - أن النصارى أيضا ظالمون معتدون كافرون مستحقون لعذاب الله وعقابه ، وفي اليهود من الكفر ما ليس في النصارى ، وفي النصارى ما ليس في اليهود فإن اليهود بدلوا شريعة التوراة قبل أن يأتيهم المسيح ابن مريم ، فلما أتاهم كفروا به [ ص: 88 ] وكذبوه فلما بعث محمد كذبوه فباءوا بغضب على غضب .

كما قال - تعالى - عنهم :

أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ( 85 ) أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون ( 86 ) ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ( 87 ) وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون ( 88 ) ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ( 89 ) بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين ( 90 ) وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ( 91 ) ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ( 92 ) وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين .

[ ص: 89 ] فغضب عليهم أولا بتكذيب المسيح ، وثانيا بتكذيب محمد - صلى الله عليه وسلم - .

وقال - تعالى - :

ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون .

وقال - تعالى - :

لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ( 78 ) كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون .

وقال - تعالى - :

قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت .

فتبين أن اليهود لعنهم الله وأنهم عبدوا الطاغوت ، وأنه جعل منهم القردة والخنازير ، ومثل هذا في القرآن كثير لكن قول القائل أنهم [ ص: 90 ] المرادون بقوله - تعالى - :

إلا الذين ظلموا منهم .

في قوله :

ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم .

غلط بين ولهذا كان باطلا باتفاق المسلمين .

فإن قوله - تعالى - :

ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن .

نهي عن مجادلة أهل الكتاب من اليهود والنصارى إلا بالتي هي أحسن .

وقوله :

إلا الذين ظلموا .

من الطائفتين جميعا .

ولهذا كان الواجب على المسلمين ، إذا جادلهم اليهودي والنصراني أن يجادلوه بالتي هي أحسن ، إلا من ظلم من الطائفتين ، فإنه يعاقب باللسان تارة وباليد أخرى ، كما أمر الله ورسوله بجهاد الظالمين من هؤلاء ، فجاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - اليهود الذين كانوا [ ص: 91 ] بالمدينة النبوية وحولها وقريبا منها ، كما جاهد بني قينقاع ، والنضير ، وقريظة ، وأهل خيبر ، وأهل وادي القرى ، وغيرهم .

[ ص: 92 ] وكما جاهد النصارى عام تبوك غزاهم بالشام عربهم ورومهم ، وأغزاهم قبل ذلك نوابه : زيد بن حارثة ، وجعفر بن أبي طالب ، وعبد الله بن رواحة ، وأمرهم بغزوهم فغزاهم بعده خلفاؤه الراشدون .

والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم وفد نجران النصارى جادلهم في مسجده بالتي هي أحسن ، ثم أمره الله - سبحانه - أن يدعوهم إلى المباهلة ، فامتنعوا عن مباهلته ، وأقروا بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون ، كما تقدم ذلك مفصلا فجادل بعضهم بالتي هي أحسن ، والظالم منهم عاقبه وجاهده ، كما عاقب الظالم من اليهود .

ومن أعجب الأشياء قولهم : وأما الذين ظلموا ، فلا يشك أحد أنهم اليهود ، فإن هذا من جنس قولهم : ثم وجدنا في الكتاب ما هو أعظم من هذا برهانا [ ص: 93 ] وهو قوله في سورة الشورى :

وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم كما تقدم .

وهي من جنس قولهم في قوله :

ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون .

أنه عنى بالكتاب الإنجيل ، والذين يؤمنون بالغيب : النصارى ، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك هم المسلمون ، وزعمهم أن قولهم هذا بين ظاهر .

وتفاسير النصارى للكتب الإلهية فيها من التحريف لكلمات الله ، والإلحاد في أسماء الله وآياته ما يطول وصفه ، ولا ينقضي التعجب منه ، لكن إقدامهم على تفسير القرآن بالإلحاد والتحريف أعجب وأعجب كقولهم : [ إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ذكر أنه لم يرسل إليهم ، وأنه أثنى على الدين الذي هم عليه بعد النسخ والتبديل ، بعد مبعثه - صلى الله عليه وسلم - ، وأن [ ص: 94 ] قوله صراط الذين أنعمت عليهم أراد به النصارى .

وقوله : لقد أرسلنا رسلنا أراد به الحواريين .

وقوله : وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس .

أراد به الإنجيل ] فإن في هذا من الكذب الظاهر ، والافتراء على محمد بأنه أراد هذه الأمور ، ما هو من جنس افترائهم على الأنبياء ، فإنهم أخبروا أن المسيح هو خالق السماوات والأرض ، وأن التوراة والزبور وغيرهما من الكتب أخبرت بذلك ، ثم يأتون إلى ما يعلم كل عاقل أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يرده ، فيقولون : إنه لا يشك فيه أحد ، وإنه قول ظاهر بين ، وكل من عرف حال محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وما جاء به من القرآن والدين يعلم علما يقينيا ضروريا أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يجعل النصارى مؤمنين دون اليهود ، بل كان يكفر الطائفتين ، ويأمر بجهادهم ، ويكفر من لم ير جهادهم واجبا عليه   .

وهذا مما اتفق عليه المسلمون ، وهو منقول عندهم عن نبيهم نقلا متواترا ، بل هذا يعلمه من حاله الموافق والمخالف ، إلا من هو مفرط في الجهل بحاله ، أو من هو معاند عنادا ظاهرا

التالي السابق


الخدمات العلمية