قيل لكم : إن وجبت له الإلهية بهذا فتجب لإبراهيم وغيره من الأنبياء ، فإن عند أهل الكتاب وأنتم معهم ، أن الله تجلى على إبراهيم واستعلن له وتراءى له .
وأما قوله : وأحل فيك ، لم يرد الله سبحانه وتعالى حلول ذاته التي لم تسعها السماوات والأرض في بيت المقدس ، وكيف تحل ذاته في مكان يكون فيه مقهورا مغلوبا مع شرار الخلق ؟ كيف وقد قال : ويعرفون أني أنا الله القوي الساكن فيك ؟ أفترى عرفوا قوته بالقبض عليه ، وشد يديه بالحبال ، وربطه على خشبة الصليب ، ودق المسامير في يديه ورجليه ، ووضع تاج الشوك على رأسه ، وهو يستغيث ولا يغاث ؟ وما كان المسيح يدخل بيت المقدس إلا وهو مغلوب مقهور مستخف في غالب أحواله .
ولو صح مجيء هذه الألفاظ صحة لا تدفع ، وصحت ترجمتها كما ذكروه ، لكان معناها أن معرفة الله والإيمان به ، وذكره ودينه وشرعه حل في تلك البقعة ، وبيت المقدس ، لما ظهر فيه دين المسيح بعد رفعه حصل فيه من الإيمان بالله ومعرفته ما لم يكن قبل ذلك .
وجماع الأمر أن النبوات المتقدمة والكتب الإلهية لم تنطق بحرف واحد يقتضي أن يكون ابن البشر إلها تاما ، إله حق ، وأنه غير مصنوع ولا مربوب ، بل لم يخصه إلا بما خص به أخوه وأولى الناس به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في قوله : إنه عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه .
وكتب الأنبياء المتقدمة وسائر النبوات موافقة بما أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك كله يصدق بعضه بعضا ، وجميع ما تستدل به المثلثة عباد الصليب على إلهية المسيح من [ ص: 510 ] ألفاظ وكلمات في الكتب فإنها مشتركة بين المسيح وغيره ، كتسميته ابنا وكلمة وروح الحق وإلها ، وكذلك هو روح القدس ، أما روح القدس فهي سر الله وأمره ، وقد ورد في الكتب الإلهية لغير المسيح .
وقد أطلقت لمعان منها جبريل ، ومنها اسم الله الأعظم ، ومنها الوحي ، وقد أطلقت على المسيح لأن روحه لم تخالط نطفة ، والقدوس هو الطاهر ، ولذلك أطلق على المسيح روح الله ، وهذه الإضافة إضافة تعظيم كقوله : بيت الله وناقة الله وكما كانت الأمم الماضية يطلقون على أنفسهم أبناء الله ، ومنها القرآن الذي هو أعم من القرآن المنزل على محمد الشامل لكل كتاب منزل .
وأما على قاعدة أهل السنة ، وهي جسم لطيف ويشاكل الأجسام المحسوسة تحدث ، ويخرج بها إلى السماء بفرح ، لا تموت ولا تفنى ، وهي مما له أول وليس له آخر كالجنة والنار ، والأجساد في المعاد وهي بعينين ويدين ، وهي ذو ريحة طيبة أو كريهة بحسب محلها ، وهي إما منعمة أو معذبة ، وذلك غاية الدليل على حدوثها . الروح التي بها الحياة فهي النفس
وإنما المسيح روح الله ، لأنه ذو روح وجد من غير جزء من ذي روح ، كالنطفة المنفصلة من الأب الحي ، وإنما اخترع اختراعا من عند الله ، وقدرته خالصة . سمي
لأنه وجد بكلمته وأمره من غير واسطة أب ولا نطفة وهذا ظاهر . وسمي كلمة الله
وكذلك ما أطلق من حلول روح القدس فيه ، وظهور الرب فيه أو في مكانه ، وقد وقع في نظير شركهم وكفرهم طوائف من المنتسبين إلى الإسلام ، واشتبه عليهم ما يحل في قلوب العارفين من الإيمان به ومعرفته ونوره وهداه ، فظنوا أن ذلك نفس ذات الرب ، [ ص: 511 ] وقد قال الله تعالى : وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ، وهو ما في قلوب الملائكة وأنبيائه وعباده المؤمنين من الإيمان به ومعرفته ومحبته وإجلاله وتعظيمه ، وهو نظير قوله تعالى : فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وقوله تعالى : وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون وقوله تعالى : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم ، فأولياء الله يعرفونه ويحبونه ، ويجلونه أن يقال هو ما في قلوبهم ، والمراد محبته ومعرفته والمثل الأعلى في قلوبهم لا نفس ذاته ، وهذا أمر تعتاده الناس في مخاطباتهم ومحاوراتهم ، يقول الإنسان لغيره : أنت في قلبي ولازلت في عيني كما قال القائل :
ومن عجب أني أحن إليهم وأسأل عنهم من لقيت ، وهم معي وتطلبهم عيني ، وهم في سوادهـا
ويشتاقهم قلبي ، وهم بين أضلعي
خيالك في عيني وذكرك في فمي ومثواك في عيني فأين تغيـب
إن قلـت غبـت فقلبي لا يصدقني إذ أنت فيــه فدتك النفس لم تــــــغـب
أو قلت ما غبت قال الطرف ذا كذب فقد تحيــرت بين الصدق والكـذب
[ ص: 512 ]
أحـن إليـه وهو في القلب ساكن فيـا عجــبا لمن يحـن لقلبه