ثم اجتمعوا بعد هذا مجمعا عظيما ببيت المقدس ، وكان معهم رجل دسه بترك القسطنطينية وجماعة معه ، ليسألوا بترك الإسكندرية ، وكان هذا الرجل لما رجع إلى الملك أظهر أنه مخالف لآريوس ، وكان يرى رأيه ويقول بمقالته ، فقام الرجل وقال : إن آريوس لم يقل إن المسيح خلق الأشياء ولكن به خلقت الأشياء ، لأنه كلمة الله التي بها خلقت السماوات والأرض ، وإنما خلق الله الأشياء بكلمته ، ولم يخلق الأشياء [ ص: 558 ] كلمته ، كما قال المسيح في الإنجيل ، كل بيده كان ، كل من دونه لم يكن شيئا ، وقال : به كانت الحياة ، والحياة نور البشر ، وقال : العالم به يكون ، فأخبر أن الأشياء به تكونت .
قال ابن البطريق : فهذه كانت مقالة آريوس ولكن الثلاثمائة والثمانية عشر أسقفا ، تعدوا عليه وحرموه ظلما وعدوانا .
فرد عليه بترك الإسكندرية وقال : أما آريوس فلم يكذب عليه الثلاثمائة والثمانية عشر أسقفا ولا ظلموه لأنه إنما قال : الابن خالق الأشياء دون الأب ، وإذا كانت الأشياء إنما خلقت بالابن دون أن يكون الأب لها خالقا ، فقد أعطى أنه ما خلق منها شيئا ، وفي ذلك تكذيب قوله : الأب يخلق ، وأنا أخلق .
وقال : إني أنا إن لم أعمل عمل أبي فلا تصدقوني .
وقال : كما أن الأب يحيي من يشاء ويميته ، كذلك الابن يحيي من يشاء [ ص: 559 ] ويميته . قالوا : فدل على أنه يحيي ويخلق ، وفي هذا تكذيب لمن زعم أنه ليس بخالق ، وإنما خلقت الأشياء به دون أن يكون خالقا .
وأما قولك : إن الأشياء كونت به ، فإنه لما كنا لا نشك أن المسيح حي فعال ، وكان قد دل بقوله : إني أفعل الخلق والحياة ، كان قولك : به تكونت الأشياء ، إنما هو راجع في المعنى إلى أنه كونها وكانت به مكونة ، ولو لم يكن فتناقض القولان .
قال : وأما قول من قال من أصحاب آريوس : إن الأب يريد الشيء فيكونه الابن ، والإرادة للأب والتكوين للابن . فإن ذلك يفسد أيضا إذا كان الابن عنده مخلوقا ، فقد صار حظ المخلوق في الخلق أوفى من حظ الخالق فيه ، وذلك أن هذا أراد وفعل . وذلك أراد ولم يفعل ، فهذا أوفر حظا في فعله من ذلك ، ولا بد لهذا أن يكون في فعله لما يريد ذلك بمنزلة كل فاعل من الخلق لما يريد الخالق منه ، ويكون حكمه كحكمه في الجبر والاختيار ، وإن كان مجبورا فلا شيء له في الفعل ، وإن كان مختارا فجائز أن يطاع وجائز أن يعصى ، وجائز أن يثاب وجائز أن يعاقب ، وهذا أشنع في القول .
ورد عليه أيضا وقال : إن كان الخالق إنما خلق خلقه بمخلوق ، فالمخلوق غير الخالق بلا شك ، فقد زعمتم أن الخالق يفعل بغيره ، والفاعل بغيره محتاج إلى متمم ليفعل به ، إذ كان لا يتم له الفعل إلا به ، والمحتاج إلى غيره منقوص ، والخالق متعال عن هذه الكلمة .
[ ص: 560 ] قال : فلما دحض بترك الإسكندرية حجج أولئك المخالفين ، وظهر لمن حضر بطلان قولهم ، وتحيروا وخجلوا ، فوثبوا على بترك الإسكندرية فضربوه حتى كاد يموت ، فخلصه من أيديهم ابن أخت قسطنطين ، وهرب بترك الإسكندرية ، وصار إلى بيت المقدس من غير حضور أحد من الأساقفة ، ثم أصلح دهن الميرون ، وقدس الكنائس ومسحها بدهن الميرون ، وسار إلى الملك وأعلمه بالخبر فصرفه إلى الإسكندرية .
وقال ابن البطريق : وأمر الملك بأن لا يسكن يهودي ببيت المقدس ، ولا يجوز بها ، ومن لم يتنصر قتل ، فظهر دين النصرانية وتنصر من اليهود خلق كثير . فقيل للملك : إن اليهود يتنصرون من خوف القتل وهم على دينهم ، فقال : كيف لنا أن نعلم ذلك منهم ؟ فقال بولس البترك : إن الخنزير في التوراة حرام واليهود لا يأكلون لحم الخنزير ، فأمر أن تذبح الخنازير وتطبخ لحومها ، ويطعم منها اليهود ، فمن لم يأكل علم أنه مقيم على دين اليهودية .
فقال الملك : إذا كان الخنزير حراما ، في التوراة فكيف يحل لنا أن نأكله ونطعمه الناس ؟ فقال له بولس : فإن سيدنا المسيح قد أبطل كل ما في التوراة ، وجاء بناموس وبتوراة جديدة وهو الإنجيل .
وفي إنجيله : إن كل ما يدخل البطن فليس بحرام ولا نجس ، وإنما ينجس الإنسان ما يخرج من فيه .
وقال بولس : إن بطرس رئيس الحواريين بينا هو يصلي في ست ساعات من النهار ، وقع عليه سبات فنظر إلى السماء قد تفتحت ، وإذا بإزار قد نزل من السماء حتى بلغ [ ص: 561 ] الأرض ، وفيه : كل ذي أربع قوائم على الأرض من السباع والدواب وغير ذلك ، وسمع صوتا من السماء يقول له : يا بطرس ، قم فاذبح وكل ، فقال بطرس : يا رب ، ما أكلت شيئا نجسا قط ولا وسخا قط ، فجاء صوت ثان : كل ما طهره الله فليس بنجس ، وفي نسخة أخرى : ما طهره الله فلا تنجسه أنت ، ثم جاء الصوت بهذا ثلاث مرات .
ثم إن الإزار ارتفع إلى السماء فتعجب بطرس وتحير فيما بينه وبين نفسه . فأمر الملك أن تذبح الخنازير ، وتطبخ لحومها ، وتقطع صغارا ، وتصير على أبواب الكنائس في كل مملكته يوم الأحد الفصح ، وكل من خرج من الكنيسة يلقم لقمة من لحم الخنزير ، فمن لم يأكل منه يقتل ، فقتل لأجل ذلك خلق كثير .
المجمع الآريوسي :
ثم هلك قسطنطين ، وولي بعده أكبر أولاده واسمه قسطنطين ، وفي أيامه اجتمع أصحاب آريوس ومن قال بمقالته إليه فحسنوا له دينهم ومقالتهم ، وقالوا : إن : إن الابن متفق مع الأب في الجوهر ، فأمر أن لا يقال هذا فإنه خطأ ، فعزم الملك على فعله ، فكتب إليه أسقف الثلاثمائة والثمانية عشر أسقفا الذين اجتمعوا بنيقية قد أخطئوا وحادوا عن الحق في قولهم بيت المقدس ، أن لا تقبل قول أصحاب آريوس فإنهم حائدون عن الحق وكفار ، وقد لعنهم الثلاثمائة والثمانية عشر أسقفا ، ولعنوا كل من يقول بقولهم فقبل قوله .
[ ص: 562 ] قال ابن بطريق : وفي ذلك الوقت غلبت مقالة آريوس على قسطنطينية وأنطاكية والإسكندرية .
وفي ثاني سنة من ملك قسطنطين هذا صار على أنطاكية بترك آريوسي ثم بعده آخر مثله .
قال : وأما أهل مصر والإسكندرية وكان أكثرهم آريوسيين ومنائيين فغلبوا على كنائس مصر فأخذوها ، ووثبوا على بترك الإسكندرية ، فهرب منهم واستخفى . ثم ذكر جماعة من البتاركة والأساقفة من طوائف النصارى ، وما جرى عليهم مع بعضهم بعضا ، وما تعصبت به كل طائفة لبتركها حتى قتل بعضهم بعضا ، واختلفت النصارى أشد الاختلاف ، وكثرت مقالاتهم واجتمعوا عدة مجامع ، كل مجمع يلعن فيه بعضهم بعضا . ونحن نذكر بعض مجامعهم بعد هذين المجمعين .