الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
وأما التحريف : فقد أخبر الله سبحانه وتعالى عنه في مواضع متعددة ، وكذلك لي اللسان بالكتاب ليحسبه السامع منه وما هو منه . فهذه خمسة أمور :

أحدها : لبس الحق بالباطل ، وهو خلطه به بحيث لا يتميز الحق من الباطل .

الثاني : كتمان الحق .

الثالث : إخفاؤه وهو قريب من كتمانه .

الرابع : تحريف الكلم عن مواضعه ، وهو نوعان : تحريف لفظه ، وتحريف معناه .

الخامس : لي اللسان به ليلتبس على السامع اللفظ المنزل بغيره .

وهذه الأمور إنما ارتكبوها لأغراض لهم دعتهم إلى ذلك . فإذا عادوا الرسول وجحدوا نبوته وكذبوه وقاتلوه ، فهم إلى أن يجحدوا نعته وصفته ، ويكتموا ذلك ويزيلوه عن مواضعه ويتأولوه على غير تأويله - أقرب بكثير ، وهكذا فعلوا ، ولكن لكثرة البشارات [ ص: 313 ] وتنوعها غلبوا على كتمانها وإفضائها فصاروا إلى تحريف التأويل وإزالة معناها عما لا تصلح لغيره ، وجعلها لمعدوم لم يخلقه الله تعالى ولا وجود له ألبتة .

العاشر : أنه استشهد على صحة نبوته بعلماء أهل الكتاب ، وقد شهد له عدولهم فلا يقدح جحد الكفرة الكاذبين المعاندين بعد ذلك ، قال تعالى : ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب .

وقال تعالى : قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين .

وقال تعالى : وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب .

وقال تعالى : ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين .

وقال تعالى : الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون .

وإذا شهد واحد من هؤلاء لم يوزن به ملء الأرض من الكفرة ، ولا تعارض [ ص: 314 ] شهادته بجحود ملء الأرض من الكفرة ، كيف والشاهد له من علماء أهل الكتاب أضعاف أضعاف المكذبين له منهم ؟

وليس كل من قال من أشباه الحمير من عباد الصليب وأمة الغضب ، أنه من علمائهم فهو كذلك - يعني عالما - ، كما قالوا ، وإذا كان أكثر عوام المسلمين يظنون أنه من علمائهم - يعني أهل الكتاب - ليس كذلك فيما ظن بغيرهم ؟ يعني علماء المسلمين - .

وعلماء أهل الكتاب إن لم يدخل فيهم من لم يعمل بعلمه فليس علماؤهم إلا من آمن به وصدقه ، وإن دخل فيهم من علم ولم يعمل كعلماء السوء لم يكن إنكارهم نبوته قادحا في شهادة العلماء القائلين بعلمهم .

الحادي عشر : أنه لو قدر أنه لا ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بنعته ولا صفته ولا علامته في الكتب التي بأيدي أهل الكتاب اليوم ، لم يلزم من ذلك أن لا يكون مذكورا في الكتب التي كانت بأيدي أسلافهم وقت مبعثه ولا تكون اتصلت على وجهها إلى هؤلاء ، بل حرفها أولئك وبدلوا وكتموا ، تواصوا وكتبوا ما أرادوا ، وقالوا : هذا من عند الله ، ثم اشتهرت تلك الكتب وتناقلها خلفهم عن سلفهم ، فصارت المغيرة المبدلة هي المشهورة ، والصحيحة بينهم خفية جدا ، ولا سبيل إلى العلم باستحالة ذلك ، بل هو في غاية الإمكان .

فهؤلاء السامرة غيروا مواضع من التوراة ثم اشتهرت النسخ المغيرة عند جميعهم [ ص: 315 ] فلا يعرفون سواها ، وهجرت بينهم النسخة الصحيحة بالكلية ، وكذلك التوراة التي بأيدي النصارى .

وهكذا تبدل الأديان والكتب ، ولولا أن الله سبحانه وتعالى تولى حفظ القرآن بذاته وضمن للأمة أن لا تجتمع على ضلالة - لأصابه ما أصاب الكتب قبله ، قال تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون .

الثاني عشر : أنه من الممتنع أن تخلو الكتب المتقدمة عن الإخبار بهذا الأمر العظيم الذي لم يطرق العالم من حين خلق إلى قيام الساعة أمر أعظم منه ، ولا شأن أكبر منه ، فإن العلم به طبق مشارق الأرض ومغاربها ، واستمر على تعاقب القرون وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ومثل هذا النبأ العظيم لا بد أن تطابق الرسل على الإخبار به . وإذا كان الدجال - رجل كاذب يخرج في آخر الزمان وبقاؤه في الأرض أربعون يوما وقيل ستة أشهر - قد تطابقت الرسل على الإخبار به ، وأنذر به كل نبي قومه من نوح إلى خاتم الأنبياء ، وخاتم الرسل صلى الله عليهم وسلم أجمعين ، فكيف تتطابق الكتب الإلهية من أولها إلى آخرها على السكوت عن الإخبار بهذا النبأ العظيم ، وبهذا الأمر العظيم الذي لم يطرق العالم أمر أعظم منه ، ولا تطرقه أبدا . هذا مما لا يسوغه عقل عاقل ، وتأباه حكمة أحكم الحاكمين ، بل الأمر بضد ذلك ، وما بعث الله سبحانه وتعالى نبيا إلا أخذ عليه الميثاق بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه ، كما قال تعالى : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين .

[ ص: 316 ] قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما بعث الله من نبي إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته ، لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به وليبايعنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية