الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
( فصل ) : ومن ذلك أخبار أمية بن أبي الصلت الثقفي ، ونحن نذكر بعضها ، قال [ ص: 401 ] الزبير بن بكار : حدثني عمي مصعب ، عن مصعب بن عثمان ، قال : كان أمية قد نظر في الكتب وقرأها ، ولبس المسوح تعبدا ، وكان ممن ذكر إبراهيم وإسماعيل والحنيفية ، وحرم الخمر والأوثان ، والتمس الدين ، وطمع في النبوة لأنه قرأ في الكتب أن نبيا يبعث من العرب ، فكان يرجو أن يكون هو ، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم قيل له : هذا الذي كنت تبشر به ، وتقول فيه ، فحسده عدو الله ، وقال : أنا كنت أرجو أن أكون هو ، فأنزل الله عز وجل : واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين .

وهو الذي يقول : كل دين يوم القيامة عند الله إلا دين الحنيفية زور .

قال الزبير : وحدثني عمر بن أبي بكر الموصلي ، قال : كان أمية بن أبي الصلت يلتمس الدين ، ويطمع في النبوة ، فخرج إلى الشام فمر بكنيسة ، وكان معه جماعة من العرب من قريش وغيرهم ، فقال أمية : إن لي حاجة في هذه الكنيسة فانتظروني ، فدخل الكنيسة ، ثم خرج إليهم كاسفا متغيرا فرمى بنفسه ، فأقاموا عليه حين سري عنه ثم مضوا فقضوا حوائجهم ، ثم رجعوا فلما صاروا إلى الكنيسة ، قال : انتظروني ودخل الكنيسة فأبطأ ثم خرج إليهم أسوأ من حاله الأول ، فقال له أبو سفيان بن حرب : قد شققت علي رفقتك ، فقال : خلوني فإني أرتاد لنفسي وأنظر لمعادي ، وإن ههنا راهبا عالما أخبرني أنه سيكون بعد عيسى ست رجفات وقد مضت منها خمس وبقيت واحدة ، فخرجت وأنا أطمع أن أكون نبيا ، وأخاف أن يخطئني فأصابني ما رأيت ، فلما رجعت أتيته فقال : قد كانت الرجفة وبعث نبي من العرب ، فأيست من النبوة ، فأصابني ما رأيت ، إذ فاتني ما كنت أطمع فيه .

[ ص: 402 ] قال : وقال الزهري : خرج أمية في سفر ، فنزلوا منزلا ، فأم أمية وجها ، وصعد في كثيب فرفعت له كنيسة فانتهى إليها ، فإذا بشيخ جالس ، فقال لأمية حين رآه : إنك لمتبوع فمن أين يأتيك رئيك ؟ قال : من شقي الأيسر ، قال : فأي الثياب أحب إليه أن تلقاه فيها ؟ قال : السواد ، قال : كدت تكون نبي العرب ، ولست هو أو ولست به ، هذا خاطر من الجن وليس بملك وإن نبي العرب صاحب هذا الأمر يأتيه الملك من شقه الأيمن ، وأحب الثياب إليه أن يلقاه فيها البياض .

قال الزهري : وأتى أمية أبا بكر ، فقال : يا أبا بكر عمي الخبر ، فهل أحسست شيئا ؟ قال : لا والله ، قال : قد وجدته يخرج في هذا العام .

وقال عمر بن شيبة : سمعت خالد بن يزيد يقول : إن أمية وأبا سفيان بن حرب صحباني في تجارة إلى الشام ، فذكر نحو الحديث الأول ، وزاد فيه : فخرج من عند الراهب وهو يعتل ، فقال له أبو سفيان : إن بك لشرا فما قصتك ؟ قال : خير ، أخبرني عن عتبة بن ربيعة : كم سنه ؟ فذكر سنا ، قال أخبرني عن ماله ، فذكر مالا ، فقال له : وضعته ، قال أبو سفيان : بل رفعته ، فقال : إن صاحب هذا الاسم ليس بشيخ ، ولا بذي [ ص: 403 ] مال ، قال : وكان الراهب أتاه وأخبره ، فقال : إن صاحب هذا الأمر لرجل من قريش .

قال الزبير : وحدثني عمر بن أبي بكر المؤملي ، قال حدثني رجل من أهل الكوفة ، قال : كان أمية نائما فجاءه طائران ، فوقع أحدهما على باب البيت ، ودخل الآخر فشق عن قلبه ثم رده الطائر ، فقال له الطائر الآخر : أوعى ؟ قال : نعم ، أزكى ؟ قال : أبى .

وقال الزهري : دخل يوما أمية بن أبي الصلت على أخته وهي تهيئ أدما لها فأدركه النوم ، فنام على سرير في ناحية البيت ، فانشق جانب من السقف في البيت وإذا بطائرين قد وقع أحدهما على صدره ووقف الآخر مكانه ، فشق الواقع صدره ، فأخرج قلبه فشقه ، ثم قال الطائر الأخر للذي على صدره : أوعى ؟ قال : وعى ، قال : أقبل ؟ ، قال : أبى ، فرد قلبه في موضعه ، ثم مضى ، فأتبعهما أمية طرفه ، وقال :

لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما .     لا برئ فاعتذر
ولا ذا عشيرة فأنتصر

، فرجع الطائر فوقع على صدره فشقه حتى أخرج قلبه فشقه ، فقال الطائر الأعلى : أوعى ؟ قال : وعى ، قال : أقبل ؟ قال : أبى ، ونهض فأتبعهما أمية بصره ، فقال :

لبيكما لبيكما     ها أنا ذا لديكما
، لا مال لي يغنيني     ولا عشيرة تحميني

.

فرجع الطائر فوقع على صدره فشقه حتى أخرج قلبه فشقه ، فقال الطائر الأعلى : أوعى ؟ قال : وعى ، قال : أقبل ؟ قال : أبى ، فنهض فأتبعهما أمية بصره وقال :

لبيكما [ ص: 404 ] لبيكما     ها أنا ذا لديكما
، محفوف بالنعم     محفوظ بالدين

، فرجع الطائر فوقع على صدره فشقه فأخرج قلبه فشقه ، فقال الأعلى : أوعى ، قال : وعى ، قال : أقبل ؟ قال : أبى ، ونهض فأتبعهما طرفه فقال : لبيكما لبيكما     ها أنا ذا لديكما
.


إن تغفر اللهم تغفر جما     وأي عبد لك لا ألما

ثم انطبق الشق وجلس أمية يمسح صدره ، فقلت : يا أخي ! هل تجد شيئا ؟ قال : لا ولكني أجد حرا في صدري ، ثم أنشأ يقول :


ليتني كنت قبل ما قد بدا لي     في تلال الجبال أرعى الوعولا
اجعل الموت نصب عينيك واحذر     غولة الدهر إن للدهر غولا



التالي السابق


الخدمات العلمية